إلى ولدي: تواصل في حكمة الحياة
مهداة إلى ابني الحبيب سامر بمناسبة التحاقه في الجامعة في الولايات المتحدة وعيد ميلاده الثامن عشر وإلى كافة ابناء وبنات فلسطين.
ولدي الحبيب،
لقد كان مجيئك للدنيا أجمل هدية يمكن لي أن أنعم بها. لقد أصبحت، في لحظة، الروح التي تبث الحياة في عروقي، والضوء الذي ينير طريقي، والأمان الذي يطمئن له القلب أيما اطمئنان. وها أنت الآن، كما كنت دائما، الرجل الذي أواجه الدنيا بحسه. ها أنت الآن بالغا راشدا تنطلق مستقلا لتواجه الدنيا، معتمدا على نفسك. وإن كنت أتمنى شيئا في هذه الدنيا، فأتمنى أن أكون قد أعددتك أفضل إعداد لتكون ابن الحياة، لتنهل منها وتصبح أنت نفسك وعلى سجيتك، وتكتشف من خلال رحلتك الخاصة الفريدة من نوعها ذاتك الأجمل ومستقبلك المقدر لك، هذا المستقبل الذي تصنعه أنت كقلبك الناصع البياض، وروحك السمحة وعقلك المنفتح، وأخلاقك السامية، ولسانك الذي ينطق بأجمل وأصدق المقال.
ها أنت تبتعد عن عيوني، لأبقى في قلبك وتبقى في قلبي، وإن كانت قناعتي بأنني قد أحسنت تربيتك، فإنني، وبدافع غريزة الأب الحاني الذي يجد صعوبة في تحرير عصفوره ليحلق في الأعالي معتمدا على ذاته، أجد نفسي ذاهبا في كلماتي لأتركها معك علّك تجد فيها قوة الحب والتحدي والتواصل، ولتكن متأكدا بأنك وإن كنت مستقلا فإنك لن تكون وحدك أبدا، ..... فكيف لروحين أن يضلا عن بعضهما وهما روح واحدة.
إن الصدق مع الذات والاستفادة من الرحلة على درب الحياة، يتطلب أولا وأخيرا الوعي، والذي يتأتى فقط من عمق المعرفة كما ونوعا، فانهل من تجارب الإنسانية العميقة، فلكل ثقافة معرفتها وتجربتها التي تميزها، فلا تبخل على نفسك في طلب المعرفة، سواء من خلال التجربة الشخصية أو الرحلات والسفر. إن أجمل وأغنى الرحلات هي التي تقع بين طيات كتاب، فالكتاب صديق غني وكريم في نفس الوقت، فاجعل من القراءة أولوية، ولا تتكلم في موضوع بدافع الاجتهاد المبني على الجهل، ولكن ضع لنفسك أساسا صلبا يحملك ويرفعك إلى أعلى المراتب، أساس العلم والمعرفة.
الصدق مع الذات والآخرين مفتاح النجاة، فكن صادقا ولا تجعل لغير ذلك أي مكان على الإطلاق في كل ما تقوله أو تقوم به، وكما يقال فإن حبل الكذب قصير مهما بدا عكس ذلك، وهو مضيعة للوقت والجهد. كن صادقا مع ذاتك واعرف نفسك، من تكون وما تريد. لا تتردد في أن تقول كلمة (لا) إذا كانت في موقعها، ولا تجامل الغير على حساب نفسك، وان بدا أن ذلك قد يكون مناسبا أو ضروريا أحيانا، إلا أن قول (لا) في بعض الأحيان لن يكون نهاية العالم، وإن أغلقت طريقا تجده غير مناسب لما فيه مصلحتك، ستنفتح طرق عديدة تناسب ذاتك وشخصيتك ومبادئك.
وفوق كل المعرفة والعلم، نسعى للوصول لسمو يرتفع بنا لفضاء الحكمة. إن أحكم الناس من يتعلم أن يصغي أكثر مما يسمع، ويسمع أكثر مما يتكلم، ويعرف متى تخرج الكلمة في مكانها وزمانها المناسبين. اصغ لقلبك يوصلك إلى طريق النجاه، واصغ لقلوب الناس أكثر مما تستمع لكلماتهم، وانظر في عيون قلبهم أكثر مما يظهر منهم، وإن حاول شخص أن يظهر القوة، فهو يريدك أن تعرف عن ضعفه، وإن حاول "التشاطر" فهو يعلن عن جهله. ما يقوله عدوك هو أكثر ما يجب أن تصغي اليه، فتعلم من عدوك أكثر من صديقك، وإن أنت لم تصغ لعدو وتفهم موقفه ودوافعه ستبقى حبيسا في قفص الصداقة، وإن أنت أصغيت يصبح عدوك هو أفضل صديق. فلا تبتعد عما يقوله أعتى أعداؤك، ولكن اجعل منه وقودا يغني مبادؤك، ووعيا راسخا لمعتقداتك وحبك لنفسك ولقضاياك التي تهمك، فإن لم تصمد مبادؤك أمام مداخلات عدوك، فهي واهنة وغير راسخة. إن الصخور الجميلة في قمم جبال بلادك لا تقاوم الرياح بل تشكل لها معبرا، فكن كالصخر مستقبلا للرياح وراسخا، ولا تنس الزيتون المتجذر في عمق الأرض صبورا ومعطاء.
وإن كانت حياتك أسهل نسبيا من الكثيرين، فإن الولوج في خضم الحياة والوصول لاستحقاق الاستقلالية يتطلب النضوج العقلي والعاطفي، والذي يترسخ من القدرة على تجاوز صعوبات الحياة، فالحياة ستلقي أمامك الاختبار بعد الاختبار، والنضوج ينتج عن قدرتنا على التجاوز، والتعلم والاستفادة من الدروس والبناء عليها. إن أروع ما في الحياة هو معرفة أن هناك صخرة نستند إليها عند الحاجة، وأن الأوان لتصبح صخرتي كما أنا صخرتك. سيشتد عودك من خلال العمل الجاد والاجتهاد، فلا تبني قصورا في الهواء وأوهاما قد تأخذك عبر الطريق القصير، ولكن خذ الطريق الذي لا يطرقه الكثيرون، طريق يبدو أكثر وعورة من غيره .... ولكن تعب اليوم أفضل بكثير من تعب كل يوم. إن المستقبل للمجتهد الذي يأخذ نفسه وغيره والحياة بجدية، فلا وقت نضيعه ولا جهدا يذهب سدى.
وإن التزمت فالتزم تجاه نفسك، تجاه حلمك وهدفك، وإن التزمت بالقيام بعمل فلا تتراجع عنه وابذل كل جهد لتحقيقه، وإن وعدت فالتزم بوعدك وبموعدك. إن الالتزام يتطلب أولا التفكير الملي والحذر بما نعد به وقبل أن نتخذ قرارا لا بد أن نعرف أنه سيكون له تبعات. إن التسرع والقرارات القائمة على (هبة) فيها مضيعة للوقت والطاقة والمال. فلا تعد بما لا تستطيعه، ولا تتسرع في الالتزام بما لا تقدر عليه.
وإن ذهبت إلى آخر الدنيا، وانغمست في مجتمعات لم تعهدها، ودخلت بيوتا تختلف كل الاختلاف عما أنت عليه، فلا تهدر ذاتك وكرامتك لأي سبب كان، فما يأتي عبر هدر الكرامة يتحول إلى عبء نحمله مدى الحياة، ويذهب هباء مع الريح، فلا تتسرع في الحصول على ما تضعه الدنيا بين قدميك، إن ما هو لك ويغنيك وينهض بكرامتك ما زال أمامك ينتظرك، وإن شعرت أن فرصة مرت بدون رجعة، فلا تحزن أو تيأس فهناك الفرص الحقيقية التي ما زالت تنتظر بصبر لمسة سحرك، فرص تأتي من خلال ذاتك واجتهادك.
وإن أنت حافظت على كرامتك، فأنت بذلك تحافظ على كرامة وطنك، فأن تحب وطنك أن تجعله أجمل في عيونك وعيون كل من يمر صوبك، فمثل بلدك أفضل تمثيل، ودافع عن الحق والعدل بدون هوادة، فليس المرء حرا إن كان وطنه مثقلا بعبأ العبودية والتخلف. وابق جميلا خلوقا كريم النفس، وواثقا وغنيا في علمك ومعرفتك. هذا ما يحتاجه منك وطنك. ومهما وأين تصل فحافظ على تواضعك أمام شعبك وأهلك، فمن يترفع عن وطنه وأهله لا كرامة له. وتستمر دعوات جدتك في انطباقها عبر الأجيال (الله يعلي جاهك ويخفض من نفسك أو غرورك).
والتواضع يتطلب الأدب، أدب النفس والخلق الرفيع، أدب اللسان والفعل. فأجمل الناس من يحافظون على لفظهم وفعلهم، فلا يخرج من ذاتهم وعلى لسانهم وعبر ممارساتهم غير ما يعزز الأدب والأخلاق. والتواضع يتطلب الثقة بالنفس، تلك التي نبنيها على حبنا لذاتنا، فلا نضع نصب أعيننا أن أحدا أفضل منا، فلا أحد أفضل منا ولا نحن أفضل من أي انسان أخر. والثقة تأتي من العلم والمعرفة بالذات وبالعالم من حولنا، والثقة تأتي من معرفتنا من أين جئنا وأين نحن ذاهبون. الإنسان الواثق من نفسه لا يريد أن يكون غير ذاته، ولكنه يحترم ذوات الآخرين ويغتني من تجربتهم. والثقة بالنفس تأتي مع التواضع، وهناك فرق كبير بين خفض الجناح بمعنى التواضع والاحترام وبين المذلة التي تأتي من الشعور بالضعف والنقص.
إن أكبر عدو للإنسان غضبه الذي يدخله في دائرة لا يخرج منها إلا خاسرا. تعلمنا الحياة أن نتعامل مع انفعالاتنا، وأن نصل إلى النقطة التي نفهم عندها غضبنا ونفهم عواطفنا ونضعها تحت نطاق رقابة العقل والمنطق . إن اللحظة التي نصل فيها إلى تجاوز غضبنا نكون عندها قد وصلنا مرحلة النضج، وعندما نصل إلى تفهم غضب المناوئين وتجاوزه نصل إلى مرحلة الحكمة، وإن أصبح غضبنا دافعا لاحترام وتفهم غضب الآخرين وطريقا للتسامح والارتقاء فوق انفعالاتنا فنحن نصل إلى مرحلة الإنسانية. ففي لحظات الغضب، تذكر أن كل مشكلة تصبح مشكلة إذا نحن دخلنا في دولابها، ولم نستطع منذ البداية أن نمنع تشكلها ككرة نار ملتهبة. وتذكر يا حبيبي أن كل مشكلة مآلها الحل، فلنصنع نهايتها بما نحن عليه، فلا ندع للغضب والغاضبين أن يحددوا مسبقا النتيجة ضمن قيمهم، ولا نلعب لعبتهم ضمن قواعدهم، فهم يتقنون لعبة الغضب وينتعشون من لعبها، أما نحن فنتقن لعبة العقل والتسامح. وإن طلبت منك شيئا بعينه، فإنني أقول لك أن الحياة سترمي بأثقالها أمامك وتختبرك بالتحديات والكثير من المنغصات، ولكن في خضم كل ذلك، أريدك أن تبقي عينيك وكل اهتمامك على الجائزة الكبرى، الهدف السامي الذي تسعى إليه، الضوء المتولد من قرارة نفسك الطيبة.
والثقة بالنفس تجعلنا نتوجه نحو الاعتدال، الاعتدال في النفس والذات والعقل والجسد، فلا نبالغ في أي شيء مهما كان، فلا نبالغ في الحب أو الكره، ولا في الصرف أو الحرمان، ولا في الاعتداد بالرأي أو إلغاء الرأي الأخر، ولا في الطعام أو الشراب، ولا في التطوع أو الأنانية. فأعط من نفسك ما تستطيع، ولا تشعر أن عطاءك يأتي من إجبار أو إحراج أو في محاولة لإثبات الذات، فنحن نعطي للعطاء ذاته، ونعطي لنغني أنفسنا، ونعطي لأن ما لدينا يستحق أن نشارك الآخرين به، ولكننا لا نعطي لنعوض عن نقص أو نثبت شيئا.
ومن العطاء أن نقول الكلمة الحسنة، نشجع الآخرين ولا نحبطهم، ننظر للإيجابي في الناس ونبتعد عن انتقادهم، وإن قلنا رأيا في محله، فهو مجرد رأي، ليس بالضرورة أن يكون أفضل من غيره، فلا أحد من الناس يحمل رأيا إلا ولديه أسبابه ودوافعه. ابتعد عن الغيبة، وإن كان لديك ما تقوله فقله في وجه الشخص، ولكن تذكر أنك لست رسولا للعالم، فأنت لست بأفضل من غيرك لتنصب نفسك واعظا عليهم، ولكنك معطاء يعطي من نفسه ومن محبته بدون فرض أو تحايل، فكن صريحا أينما يجب وقل ما تريده، وكن واضحا في عباراتك وما تريده لنفسك، فالصراحة بما يخصنا تخلصنا، فلا تخجل من أن تكون صادقا في ما يخصك، ولكن ابتعد عن فرض رأيك على الآخرين.
حافظ على نفسك في كل ما تفعله، حافظ على حياتك من الخطر وعلى صحتك الجسدية والنفسية والعاطفية، وعلى قوة إرادتك فلا تنكسر أبدا. إن الإدمان على أي شيء هو الخطر الأكبر في حياة الإنسان، فليس هناك عبودية أكثر من العبودية للمخدر والكحول أو أي إدمان أخر.
وفي ما يخص الحب والمرأة في حياتك، فأنت الشهم والرجل الرجل، وأنت الإنسان المحترم الذي عهدته. فالحب لا بد له أن يترافق مع الاحترام، والاحترام هو أولا وأخيرا لكينونة الإنسان رجلا كان أم امرأة، فلا الرجل أفضل ولا المرأة، فكلاهما متساويان في انسانيتهما وحقوقهما. إن أحببت امرأة، فهي محظوظة بقلبك الواسع وعقلك الراجح وإنسانيتك التي بلا حدود. وإن كان الرجل والمرأة في رحاب الرغبة ضعفاء، فليس عيبا أن نضعف للحب، ولكن من العيب أن نبقى عالقين في أصفاد الرغبة، الحب أولا وأخيرا، وكل شيء في وقته خير وبركة.
ولدي الحبيب، اجعل الحب أفضل صديق ورفيق لك، فبالحب تحيا القلوب وتنتعش العقول، وتتفتح البوابات المغلقة، وبالحب نتجاوز أعتى العقبات والأعباء الثقيلة التي يضعها على كاهلنا شيطان الحقد والكره والغضب. الحب وحده يخلصنا فلا تبخل في الحب، فإن أنت أحببت نفسك أحببت العالم أجمع، وإن بدت السماء متلبدة والليل طويل وحالك، فانظر في داخلك للحب الأبدي، لمخزن لا ينضب من الحب تزودت به من كل من حولك، أعط من الحب ولا تبخل، فما نعطيه يعود ليروينا، ولا تستكثر على نفسك أن ُتحَب من نفسك ومن الآخرين من حولك.