إلى أين نسير؟!

إلى أين نسير؟!
الرابط المختصر

خطوة الحكومة بإعادة هيكلة رواتب القطاع العام ودمج المؤسسات المستقلة التابعة للدولة تمثّل، بالفعل، أكبر عملية جراحية كبيرة في البيروقراطية الرسمية، منذ عقود.

الهدف جيّد، ومحل ترحيب، ويدفع نحو استئصال أورام خطرة ومدمرة في الإدارة العامة، زرعها خلال السنوات الماضية منهج اقتصادي اتخذ مسبقاً موقفاً سلبياً من الإدارة العامة، واتهمها بشتى الاتهامات، من دون أن يحاول تجديدها وتطويرها.

النتيجة كانت مدمّرة؛ تكسير قيمة العدالة الإدارية، فوضى في المرجعيات والرواتب والصلاحيات، الشعور بالمرارة لدى أغلب موظفي القطاع العام، تخليق محفزات الفساد والرشوة والكسل.. الخ.

إعادة الهيكلة والدمج خطوة تصحيحية كبرى تُحسب للحكومة، ولمهندس المشروع مازن الساكت، وهو صاحب خبرة إدارية متراكمة، ولديه قاعدة بيانات ومعلومات مكّنته من الإمساك جيّداً بالمشروع والإحاطة بتفاصيله وجوانبه.

الاعتراض الرئيس على المشروع، الذي نسمعه إلى الآن، يأتي على خلفية تضرر آلاف العاملين في المؤسسات المستقلة، الذين رتّبوا أوضاعهم المالية على سقف الرواتب التي كانوا يتقاضونها، وهو ما يهدد حياتهم اليومية، بخاصة تلك الفئات الوسطى والصغيرة التي لا تملك البحث عن فرص عمل أخرى أو جديدة، كما هي حال الحيتان في هذه المؤسسات، وهم العبء الحقيقي على كاهلها.

ما نطلبه لمنح مشروع الحكومة الجديد مصداقية حقيقية ألا يستثني أو يتجاهل طبقة المديرين في هذه المؤسسات التي تأخذ، بغير حقّ، رواتب فلكية، ومجالس المفوضية الشكلية، التي يتقاضى أفرادها رواتب بآلاف الدنانير، من دون أن يكون لهم عمل حقيقي.

مصداقية هذا المشروع الكبير تكمن في شموله المناطق الخاصة، وبخاصة بعض المديرين الذين تبلغ رواتب بعضهم عشرين ألف دينار شهرياً، وكأنّنا في دولة نفطية مترفة، أو أنّ أمثال هؤلاء قد تجاوزوا كبار الإداريين في العالم، لولا أنّهم يتعاملون مع "مجتمعات متخلفة"!

في الخلاصة؛ إعادة هيكلة رواتب القطاع العام، خطوة جيّدة، وتحتاج إلى تطوير، خلال الأعوام المقبلة، لإنصاف هذا القطاع المهم والحيوي. ودمج المؤسسات المستقلة وتصحيح أوضاعها خطوة ضرورية لتصحيح المسار. لكن هذا وذاك ليس كافياً من دون أن يكون هنالك تصور متكامل عملي للقفز بالقطاع العام خطوات نوعية إلى الأمام، وإلاّ عدنا إلى تلك المؤسسات بذريعة عجز القطاع العام. الخشية الحقيقية هي أنّ هذه العملية الكبرى مرتبطة برؤية الفريق الحكومي الحالي، وهي رؤية لا تخفي معاداتها للمدرسة "الليبرالية الجديدة"، التي حكمت المسار الاقتصادي خلال الأعوام الماضية. ومصدر القلق أنّ هذا المشروع قد يتم التراجع عنه، بعد رحيل الحكومة الحالية، ومجيء حكومة أخرى، تنتمي للمدرسة الليبرالية السابقة. يعزّز الملاحظة السابقة وجود معلومات مؤكدة بأنّ "النزوع الاقتصادي المحافظ" للفريق السياسي في الحكومة الحالية لا يحظى بموافقة مراكز القرار المختلفة.

من الطبيعي أن تختلف الحكومات المتعاقبة في رؤيتها الاقتصادية، لكن أن يكون ذلك في مساحات محددة، وليس في العناوين الكبرى، وأن يتم عبر تداول سلطة ديمقراطي بين أحزاب لكل منها رؤيته الاقتصادية والسياسية التي جاء على أساسها باختيار شعبي، لا أن تكون البلاد والعباد حقلاً للتجارب والتباينات بين النخب الحاكمة.

المشكلة الحقيقية هي أنّ ضبابية الرؤية وعدم وضوح النموذج لا يقتصران فقط على السياسات الاقتصادية، بل حتى على منتج الإصلاح المطلوب على النظام السياسي، مع وجود أكثر من لغة ورؤية بين دوائر القرار والمسؤولين، وهو ما لخّصه أحد السياسيين الأذكياء بالقول إن من أبرز نقاط ضعف الدولة اليوم أنّها لا تتحدث بلغة واحدة، فكل مركز قرار له رأي وموقف مختلف عن الآخرين!

أضف تعليقك