إعرابُ الدستور: العتبُ مرفوعٌ

إعرابُ الدستور: العتبُ مرفوعٌ

 

احتاجت الدولةُ الأردنية 17 يوماً فقط، لتضربَ نظامَ "الحكم النيابيّ الملكيّ" في جوهره، بفضل التعديلات الدستوريّة "المُستعجَلة" التي أقرتها الحكومةُ في 18 نيسان الماضي، ومرَّت  في مجلسي النوّاب والأعيان، وصادقَ عليها الْمَلِكُ في الرابع من أيّار الحالي، في إيقاع سريعٍ، يُذكِّرُ بجيراننا الَّذِينَ عدّلوا دستورهم في ساعاتٍ قليلة، ليُصبحَ بشارُ الأسد رئيساً "جبّاراً" لسورية في العام 2000.

 

تغيَّرَ العقدُ الاجتماعيُّ في أيّامٍ قليلة. لم نعرفْ تسارعاً، بمثلِ هذا اللهاث نحو تشريعاتٍ أكثر إلحاحاً وضرورةً طوال العقود الماضية. وفيما تركّز النقاشُ على محصلة التعديل في الدمجِ بين رأس الحُكم والسلطة، وشرخ النظام البرلمانيّ بقوّة، لا سابقَ لها، بَدَاْ أنَّ المزاجَ العام منهمكٌ في الشكوك، وأشدّ غضباً تجاهَ السماح لمزدوجي الجنسية بتولي المناصب العليا، وعضوية مجلسي الأعيان والنوَّاب.

 

الدستورُ عُدِّلَ ثلاثَ مراتٍ منذ 2011. والقاعدةُ الديمقراطيةُ تؤكَّدُ أنَّ الأردنيين موافقون على ذلك حُكماً، فقد انتخبوا مجلساً نيابيّاً، لا تتأخَّرُ لجنته القانونية عن التجاوب مع دوائر صنع القرار، ولا يتردَّدُ أعضاؤه في التصويت بـ"نعم" مكررة بما يُرجًّحُ الكفَّةَ المطلوبة، وما من جديد، حينَ يواصلُ النوابُ تكريسَ التقاليد البرلمانية عند الدستور، وهم تاريخيَّاً يوافقون على الحكومات بـ "ثقة ونص"، وجرياً على المألوف، فإنَّ التمريرَ العاجلَ للتعديلات بَدأَ أصلا من قانون الانتخاب "الواثق" بالشعب، وبالشعب "الواثق" بـ"نخبه". إذاً، فكلّ "عتبٍ مرفوع"!

 

ما إعرابُ هذه التعديلات الدستورية؟ ما هذه الجملةُ المكتظّةُ بالأخطاء، ولماذا تُكتبُ الآنَ على سطرٍ مائلٍ ومهزوز. الريبةُ تطالُ النصَّ، والمخاوفُ كلها: القريبةُ والمستبعدةُ والمدفونةُ تحرَّكت في الخيال الشعبيِّ الأردنيِّ المُدرَّبِ على التقاط إشارات الداخل والجوار والإقليم، وهو لا يقلُّ حذراً وتحوُّطاً عن دولته "الواثقة" أيضاً بمناعتها المتراكمة ضدَّ ضجرِ الشارع، وتأويلاته، وإعرابه المتمكِّن من التجربة، وليس من اللغة الجديدة.

 

تعديلات العام 2011 سعت إلى امتصاص ثورات الربيعِ العربيّ، وَكَانَ ما كانَ من استيعاب الحراك، وصمِّ الآذان عن خروجهِ عن المعتاد، والمتّفق عليه، وقد رأت مراكز القرار أن الشارع مهيأٌ للذهاب بعيداً في مطالبه، وأحلامه، قبل الخيبة القوميّة الكبرى بالربيعِ ومآلاته، لتجدَ الدولةُ أنَّ مناعتها صلبة بما يكفي، لتُعدِّلَ الدستورَ ثانيةً في 2014، وتستولي على مساحات من السلطة التنفيذية، وتُضعفَ ولايتها العامة، ثم لتشدَّ الخناق على السلطة التشريعية، بعد عامين فقط، في تشريعات 2016.

 

ما الإعرابُ التام للجملة، سوى أنَّ عصرَ الأسرارِ ولّى، مع الإعلام الرسميّ، ومع التبرير الإنشائي الحكوميّ في "تعزيز الفصل بين السلطات". فالمديونيةُ جديرةٌ بإعرابٍ صحيح، وهي تأكل معظمَ الناتج المحليّ، والاقتصادُ يئنُّ تحتَ ثقل الالتزامات لصناديق الإقراض الدولية، في ظلّ تغيُّر معادلات المساعدات والمنح أمريكيَّاً وأوربيّاً وعربيّاً، فثمةَ من يُريدُ ثمناً سياسياً، وليس معنيّاً بتشغيل اسطوانة الإصلاح، من حيث هي وسيلة تأجيلٍ، أو أنها محضُ أنغامٍ لم تعد تجد مستمعين، وثمةَ من يسعى إلى حلولٍ سياسية لصراعات الجوار، وتأمين مستقبل الحلفاء.

 

ولا يغيبُ الذين يرونَ أنَّ على الأردن التوقُّف نهائياً عن تجريب نصف الديمقراطية، ونصف الحياة البرلمانية، فحتى هذا "النصف" يُشكلُ إزعاجاً، لا تستقيمُ معه المساعدات الاقتصادية، إذْ لا بدَّ من الوضوحِ الكاملِ لنظامٍ أبويٍّ مطلق القرار، يسهلُ التعاطي معه، إذا كان مستعدَّاً للمغانم، دون المغارم.

 

لَنْ يعتمدَ الاقتصادُ الأردنيُّ على ذاته، ولَنْ يجترحَ أفكاراً، ووسائل، ومشاريعَ للإنتاج، عوضاً عن الدعم الخارجيّ. ربّما، ليس لأنَّ الزمنَ تأخَّرَ على ذلك -على الرغم من نجاح التجارب إقليمياً وعالميّاً- وإنما لأنَّ الدولةَ ظلّت أسيرةَ أدوارها الكلاسيكية في الجغرافية، والمُثمَّنة دوليّاً وعربيّا، ولم تنتبه للخرائط من حولها، ولا إلى مهارة الرسمِ والرسَّامين.

 

من هنا، فالدستورُ الذي ظلَّ محافظاً على الحدّ الأقلّ من شروط التعاقد، باتَ مطلوباً منه أنْ يؤدي العرضَ كاملاً على المسرحين: المحليّ والإقليمي، كأنّه بديلٌ للجغرافية، ولكلّ الأدوار التقليدية والمتوقّعة كذلك. السلطاتُ كلها مُركّزة ومتمركزة في نقطةٍ واحدة، وتُضافُ لها مصادرُ القوة الأردنية التي أسعفت البلاد في أشدِّ المراحل اضطراباً، وساعدت المانحين العرب في فرض الهدوء الأمنيّ في بلدانهم، عندما احتاجت هذه الخبرة، التي ما زلنا نحافظُ على قليلٍ من ميزتها التنافسية، وجهوزيتها للحركة، خارج الحدود. الحركة هنا إلى الجبهات المطلوبة للدور إيّاه. داخل الحدود وخارجها، وفي العمق، ولا تحتاجُ إذناً من البرلمان والحكومة، وعلى الطرفين ايجادُ الصيغةُ الملائمة للتسويغِ والمباركة.

 

هكذا، فإنّ الإعرابَ الخطأُ يشملُ مزدوجي الجنسية المرفوع عنهم الحظرُ السابق. واليمينُ يحصرُ أسماءَ مستفيدة، وهي دائماً محلُّ ريبةٍ وشكٍّ عميمين، إلا أنَّ ذلك يبدو شديدَ السذاجة، وتغذيه النزعاتُ العنصريَّةُ العاجزة عن قراءةِ المحذوفِ من الجملة. فهؤلاء تأتي بهم التعديلاتُ الدستوريّةُ، نزولاً عند مشيئاتِ اللاعبين، وقوانين اللعبة، وشروطها، وإلى ذلك الثمن، الذي يُميِّزُ بين الفاعل والمفعول، وبين مَنْ لا محلَّ له من الإعراب..!

 

باسل رفايعة: صحافيّ أردنيّ، عمل في صحف يومية محلية، وعربية.

أضف تعليقك