إخفاق إستراتيجي
حينما قدّمت موسكو، في شهر سبتمبر/ أيلول الفائت، مشروع قرار في مجلس الأمن لإدانة الإرهاب، وعلى وجه التحديد «الداعشي»، لم يأت ذلك لأن طائرتها قد أسقطت بعبوة داعش الناسفة، وليس حصراً لأسبابها الخاصة. وحينها اجتهد الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند ووزير خارجيته لوران فابيوس، في المشاغبة على مشروع القرار الروسي، وتطوعا للتشويش عليه.
وبالمقابل، كان أول شيء يقوله، ويطلبه الرئيس الفرنسي من العالم، على إثر الهجمات الدموية التي أدمت عاصمته، هو أن يصدر مجلس الأمن قراراً يجرم داعش ويعلن الحرب عليها. أي، القرار نفسه الذي شوش عليه هو نفسه قبل أقل من شهرين!
وحينما دعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تحالف دولي للقضاء على داعش وكل المجموعات الإرهابية المماثلة، لعب الرئيس الفرنسي الدور ذاته في التخريب والتشويش؛ لكنه بالمقابل، لم يجد شيئاً يقوله للجمعية الوطنية الفرنسية التي اجتمعت استثنائياً بعد هجمات باريس، سوى إعلانه أنه سيلتقي خلال أيام بنظيريه الروسي والأميركي «لتشكيل حلف كبير موحد، ليس لمحاصرة تنظيم داعش فقط، بل تدميره نهائياً»..
وحينما قررت روسيا التدخل عسكرياً في سوريا، كان هولاند في طليعة المشاغبين على التواجد الروسي في سوريا، ومن أوائل المحرضين عليه، لكنه ما أن أصيب إصابته في باريس، حتى بلع لسانه.
ومع بدء الغارات الروسية على مواقع الإرهابيين في سوريا، انبرى الرئيس الفرنسي يردد مع غيره من القادة الغربيين أن خمس وثمانين بالمئة من الغارات الروسية تستهدف أماكن لا وجود لتنظيم داعش فيها، لكنه بعد هجمات باريس لم يجد بأساً في أن تقود الطائرات الروسية أسراب طائراته إلى أهدافها، ولم يخش أن تخطئ الهدف بنسبة خمسة وثمانين بالمئة..
وبالطبع، لا أتوقع من الرئيس الفرنسي، الذي لم يفهم أن الإرهاب أعمى ولا يعرف عدواً ولا صديقاً، أن يدرك اليوم لماذا لم يكتف تنظيم داعش بضرب مصالح روسيا التي تدعم النظام في سوريا، بل وشمل بارهابه فرنسا التي تعادي النظام نفسه، وتساند معارضيه.
وهو كذلك، لن يحب أن يلاحظ أن الخلاف على الحل السياسي في سوريا، لم يكن ليقصر عمر النظام السوري، لكنه بالمقابل أطال يد الإرهاب، ومنحه الوقت والقدرة على الوصول إلى باريس نفسها.
وفي الواقع، حال الرئيس الفرنسي في ذلك مثل حال المعارضة السياسية السورية، قلل من أولوية معالجة مشكلة الإرهاب، وأصر أن السوريين الذين يكتوون بناره يومياً يمكنهم الإنتظار، ولكن ليس يمكنهم تحمل البقاء دون تغيير سياسي في بلادهم.
للأمانة، تورطت المعارضة السياسية السورية بما هو أشنع، فقد لجأت، لأسباب معروفة تتعلق بمحاولة اختلاق وجود ووزن لها على أرض الحدث السوري، إلى توفير غطاء سياسي لمجموعات إرهابية متطرفة، وترويج هذه المجموعات باعتبارها «إرهاب» طارئ مؤقت مرتبط بوجود النظام السوري يزول بزواله، بينما كشفت الأحداث الأخيرة أن الإرهاب شبكة عالمية مترابطة، وأن ليس من بينه مجموعات ذات طابع محلي خالص، مستقلة بوجودها أو بأسبابها، أو بأهدافها.
وهذا ليس مجرد خطأ جسيم، بل اخفاق إستراتيجي، ستكون له تداعياته التي قد تنعكس على شكل تحفظ على حجم مساهمة المعارضة السياسية السورية في أي عملية سياسية مقبلة. بل ويمكن أن يتسبب اليوم بخسارتها للحاضنة الفرنسية.
وفي المحصلة، قطعت هجمات باريس بأن تعريف القانون الدولي، الذي يجرم كل من يرفع السلاح في وجه حكومة معترف بها ويعتبر نشاطه إرهاباً، ما يزال صالحاً، وينجي من التردد الذي يؤدي إلى الآثار الوخيمة التي شاهدناها في العاصمة الفرنسية.
والقانون الدولي يرفض استخدام العنف ضد الدول والمجتمعات والأفراد لتحقيق أهداف سياسية، وهو لا يفرق في ذلك بين أفراد ومنظمات ودول؛ ومن هنا، فإن التمسك بأهداب القانون الدولي، هو سبيل فرنسا الأكيد لاتخاذ موقف فعال ضد الإرهاب. وقبل ذلك، مغادرة المكان الذي وضعها فيه رئيساها الحالي والسابق، لتعيد تأهيل نفسها في العالم، عدواً لدوداً للإرهابيين.
ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.