أولاد الأمّهات
هذه المجتمعات، ستبقى أموميّة، وإن راودكم الشكّ في ذلك، فاسألوا الشعراء، عن السبب الذي يجعلهم يلوذون بأمّهاتهم، لحظة الخوف أو لحظة الشعر!
أن تكون المجتمعات أموميّة، لا يعني فضيلة بالضرورة، كما ترى الأنثروبولوجيّات أو الناقدات النسويّات، اللّواتي يجمعن على أنّ المجتمع الأموميّ مجتمع سلام، في حين أنّ المجتمع الأبويّ مجتمع حرب، لكن لابدّ من أسباب ثقافيّة تجعل الرجل يصرّ على أن يطلق اسم أمّه على ابنته، وربّما اسم جدّته، وأن يرى بينهما ملامح مشتركة، وأن يطمح لأن تكون ابنته شجاعة وحنون، مثل أمّه التي ربّته حين مات أبوه أو تخلّى عنه، في حين يصر على حقّه الكامل في الوصاية والإرث المضاعف! عجيب التشظّي الذي يعيشه الرجل حين يكون سيفه مع أبيه وقلبه مع أمّه!
في المراحل التي وسمت بالذكوريّة، عبد العرب إلهات ثلاث: اللاّت، والعزّى، ومناة، وكان كلّ من شعرائهم الذي مثّل نموذج الفحل، قد اتخذ مساراً لحياته وفاقاً لخريطة أمّه، بكثير من التعاطف الطفوليّ حيناً، أو بكثير من الجاهليّة حيناً آخر، فبمجّرد أن صرخت "هند" أمّ "عمرو بن كلثوم" صرختها، اندفع الولد وقطع رأس الملك من أجلها. قام بذلك بثقة مطلقة بأمّه، لدرجة لم يسأل فيها عن السبب الذي دعاها للصراخ!
العقدة التي حدّدت حياة عنترة بن شدّاد، كانت أمّه "زبيبة" التي أورثته سوادها، وعبوديّتها، فزاد التصاقاً بها. يمكن أن نعرّف السيّدة "وردة" على أنّها أمّ طرفة بن العبد، التي ربّته يتيماً صغيراً، وتحمّلت ظلم أعمامه الذين أكلوا ميراثها من زوجها، فقضى الولد حياته القصيرة يذود عنها الظلم، وينتقم لكرامتها التي هدرها ذوو القربى، ومع ذلك حين نكتب طرفة ابن الوردة، تفرض علينا القاعدة الإملائيّة أن نثبت ألف (ابن)، في حين نسقطها حينما نكتب "طرفة بن العبد"، لأنّ اللّغة منحازة وذكوريّة، تفصل بين اسم الأمّ واسم ولدها الذي خرج من رحمها، مثل كلّ شيء: قوانين الحضانة، والنسبة، وإذن السفر، وحقّ الولاية...
لاشكّ في أنّ "أمّ المعتزّ" القدّيسة الحلوة، من الأمّهات الاستثنائيّات، إذ منحتنا نزار قبّاني بمواجهاته العنيفة كلّها، وكذلك هي السيّدة "حوريّة" التي شاركتنا قهوتها وخبزها عبر نصوص محمود درويش، حتّى صرنا نخجل من دموعها إذا ما متنا! لقد صنّعت الأمّهات عبر حدائهنّ لغة خاصّة، والشاعر لا يحتاج في الحياة إلى غير امرأة تعلّمه الحداء، وتفلّي شعره حتّى يرى المعنى، فيلتصق بها هرباً من مطاردات الزمان والأعداء، كما فعل قاسم حدّاد منذ ديوانه الأوّل "البشارة":
"يا ثوب والدتي المرفرف فوق هامة بيتنا/ يعطي البشارة...غداً نرحل/ نعيد حكاية البحّار يا أمّي من الأوّل..."
"ويا أمّاه/ أين حنانك المعطار/ أين يداك تنشغلان بالتجديف في شعري/ وكيف نسيت صوت فُتاتك المحتار/ همس الشوق يا أمّي/ كهمس النار في صدري..."
أمّ الفلسطينيّ لها فهرس آخر للعذاب، استحقّت به مدوّنة سمّيت باسم "كتاب حمدة"، والتي وضعها وحيدها محمّد القيسيّ، ليرسم خريطة هجرتها، ونزوحها، ولجوئها منذ أوّل خيمة:
"وحمدةُ أمّي، وحمدةُ ما لم أقله إذن في النصوص... أذكر أوّل المخيّمات/ وأوّل الخطى في شارع المنفى/ وما طهت يداكِ في ظهيرةٍ بعيدة/ في يومك الأوّل من معراجكِ الطويل..."
لأمّ المعتقل جغرافيا أخرى، لا تشبهها تلك التي لأمّ المهدّد، والمطارد، والقتيل، جغرافيا تعرفها جيّداً أمّ "مظفّر النوّاب" التي ولدته في ظرف استثنائيّ، وأدمنت زيارة السجون، وكتابة الرسائل التي تُقرأ من قبل عشرات المخبرين، قبل أن تصل إليه وراء القضبان، وهو يرثي طفلاً صغير يدفنه، فتقول له مقلة الطفل: "خذني إلى حضن أمّي أنام قليلاً/ بكيتُ، وأطبقتُها، وأهلتُ التراب الحزين...".
كانت أمّ "وهب اللات"ملكة مملكة تدمر، واسمها زنوبيا، ويقال إنها حكمت باسمه، بعد مقتل زوجها أذينة، لكنّه في الحقيقة هو من حكم باسمها، فقد استماتت في الدفاع عن وجود ولدها، لأنّ فناءه بالنسبة إليها يعني الثكل. صكّت النقود باسمه العربيّ، بدل استعمال نقد أنطاكية البيزنطيّة، فانقلب عليها أورليان ملك روما، وحاربها حتّى وقعت في الأسر.لم تفكّر الصبيّة ذات الأربع عشرة سنة، بتكاليف الحياة، قبل زواجها من أذينة، كانت مراهقة قد لعب الهوى برأسها.الروائيّ ودارس التاريخ الفرنسي"جين دانييل بالتاسات"، في روايته"رقص الألهة"، أزاح الستار عن حبّ زنوبيا لمسيحيّ من جماعة الكيساييت المتصوّفة تقريباً، والذي كان قد أنقذ حياتها في طفولتها، وأدار بينهما هذا الحوار:
- - إنّ ما يعجبني هو الجواهر البرّاقة، وأسعد كثيراً، لكوني أميرة ولست قملة من الصحراء، وأستمتع بلحم الخرفان الصغيرة، والرقص، والغناء، والارتماء بين ذراعيك!
- - إنّ مكانتك في قلبي لأقوى من تعاليم المسيح...
لكنّ زنوبيا حينما تزوّجت بأذينة، وصارت أمّاً، حملت همّ مُلك ولدها، وامتلكت من أجله مشروعاً سياسيّاً، لا مكان لعواطف أخرى فيه غير عاطفة الأمومة، فتحدّثت إلى أذينة قبل الزواج بليلة واحدة:
- - يمكنك أن تكون واثقاً من كلماتي أيّها الشريف، فكما تعتمد على "نوربل" بالأمور الحاسمة، يمكنك بكلّ ثقة أن تبادلني به. إنّني لن أكذب عليك أبداً، فأنا زنوبيا ملكة تدمر، عطيّة بعل إلى العالم بأسره.
لقد أنصف "بالتاسات" بين تخييل وتوثيق الأمّ فيها، وفينا، فـ "زنوبيا" رمز راسخ لأصولنا كنساء عربيّات، الرمز الذي تمّ انتهاكه مؤخّراً، مثلما انتهكت نساء من لحم ودمّ في حروب التطهير العرقيّ باعتبارهنّ حاملات رمزيّات للهويّة.لا نعرف إن كان أولئك الذين اقتحموا عرش الملكة، قد امتلكوا من الثقافة ما يعرّفهم بـ "زنوبيا" كأيقونةً. لو حدث ذلك فعلاً، فسيكون عزاء لنا عن انتهاكات مجّانيّة أو جيوسياسيّة، وإن كان الأمر قضاء لله ولابدّ من أن يجري، فتعساً لأولئك الذين يجري على أيديهم!
- د. شهلا العجيلي: كاتبة، وروائيّة، وأستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية "عين الهرّ" الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و"سجّاد عجميّ".