أن نزرع الريح

أن نزرع الريح
الرابط المختصر

داعش!

عنوان هذه المرحلة وصندوق أسئلتها الدائرة حول نفسها كأيّ لغز، كلّما وقعتَ على حلٍ له تعقَّدَ أكثر. أو مثل كل الأفاعي التي تخدعك إذا آمنتَ أنها بتلولبها حول نفسها لن تفاجئك باستقامتها الواثبة، لتمنحك لسعتها القاتلة! لن تنجو أبداً. لن تنجو من دفعهم إيّاكَ أكثر نحو التسليم بلا جدوى محاولات الفهم.

 

لستُ أتحدّث عن ممارسات داعش في ذاتها؛ إنما هي شبكة المتاهات التحليلية التي يحشروننا فيها "المتخصصون العاملون والناشطون" في كُلٍّ من الشأن الديني، والشأن السياسي، ضمن المشهد الاجتماعي الشامل. متخصصون من كل الاتجاهات، والأقوام، واللغات، والدول، والقنوات الفضائية، وإذاعات الـF.M، والشيوخ/ الدُعاة المتأنقين بلغتهم الأشبه بآثار الرصاص الرصين على جدران مدينة أنهكتها الحروب الخاسرة – تسمعها وكأنك تستعيد مواعظ بُريَت كلماتها من كثرة الاستخدام غير النافع – لكنهم، رغم هذا، لا يتورعون عن معاملتك ككائنٍ بذاكرة سمكة!

 

ويبتسمون. غالباً ما تراهم يبتسمون استحساناً لما نطقوا به للتو، ولا يلبثون، مباشرةً، أن يعبسوا تهيئةً لما سيفوهون به من قولٍ عظيم! هيا، فلنضعْ أيادينا على قلوبنا، ونستعد لتلقي جوهرة الحِكَم!

 

أوصلونا إلى نقطة القرف منهم، إلى جانب نشرة أخبارنا اليومية الزاعقة بالجثث، والسيارات المفخخة، واغتيال الموتى في قبورهم، وتفجيرات الشوارع، وشرذمة البشر. المتخصصون. المتفقهون. القرف الكامل بلا نقصان. ولا يتعبون، أولئك الملتمعة وجوههم وسِحَنهم الطالعة من شاشات التلفزة ذات الألوان النقية والصورة الديجيتال الدقيقة.

 

داعش تفعل ما تفعل على الأرض، قتلاً وسبياً وحرقاً للأحياء وجزاً للرؤوس وتهجيراً جماعياً قسرياً واستباحةً لمساحات شاسعة من "الأوطان"، بينما يُعملُ المتخصصون أصابعهم في رؤوسنا ينبشون فيها وكأنهم يفلّونها من جيوش القمل! هذا ليس الإسلام الصحيح.

 

هذا إرهابٌ لا سابقة له في تاريخنا. يقولون. طيّب، رغم ما يعتور تاريخنا من فظاعات تزدحم بوقائعها كتبنا، وباسم الدين أيضاً، وبرايات ليست داعشية بالضرورة، وماذا بعد؟

 

ما بعد فضاءٌ مفتوح على احتمالٍ واحد وحيد: الكارثة كالدم المتفشي تتمدد في كل الاتجاهات، بينما المتخصصون الناشطون يقتلونها تحليلاً وتفكيكاً وتركيباً، ويتركون معالجة أسبابها ومقدماتها لمستقبلٍ مجهول التوقيت. لمستقبلٍ قد لا تأتي فيه ساعةُ المراجعة الصادقة والجريئة لماضٍ انخرطت خلاله السلطات العربية (جميع السلطات بجميع توصيفاتها ولبوساتها الرسمية وأشباهها والمتشبهة بها إلى ما لا نهاية) في تخليق الكارثة وتجميع الإعصار!

 

تُرى؛ أهذا ما كان يتراءى لفرج فودة قبل اغتياله، ولنصر حامد أبو زيد عند استلامه لورقة الأزهر التكفيرية، ولنجيب محفوظ لحظة طعنه في رقبته، ولمحمد شحرور الذي ينتظر دوراً قد يأتيه من حيث لا يحتسب.. أو يحتسب؟ مَن بقي، إذن، لتفعيل الشعار المرفوع: تجديد الخطاب الديني!

 

داعش: صندوق أسئلتنا المفتوح على إجاباتٍ كلّما تعامينا عنها، تطايرت الشياطين وسدّت حياتنا بأجنحتها السوداء.

 

داعش: صندوق "بَندورا" الذي أخرجته السلطات العربية من مخازن إخفاقاتها المتوالية لتتوارى خلفه، وبدأت بفتحه. بدأت ولم تنته بعد من إطلاق شروره كاملةً.

 

أهي السلطات العربية بركائزها وأغطيتها الشرعية المتنوعة فقط؛ أم هنالك سلطات العالم الشريكة، المحترفة تصنيع الإرهاب والتطرف والموت بموادٍ خام استخرجتها من أرضنا؟

 

*  *   *

داعش: أهو سؤال الأنظمة العربية المؤرِّق حقاً، أم كابوس الشعوب الجاثم فوقها ليلاً نهاراً؟

داعش: أهو النتيجة/ الردّ على الأنظمة العربية الفاشلة المتحللة الفاسدة والقامعة، باللانظام والفوضى والعنف والدم الصريح المباح، أم التهديد الهاجم على بنى المجتمعات العربية ابتغاء إعمال التفتيت الأعمق للوصول إلى نقطة اللاعودة: نقطة التفسيخ النهائي، وإبطال كل إمكانيات الوجود الفاعل؟

داعش: أهي حربها علينا بمجموع مكوناتنا كما ترانا (أنظمةً طواغيت ومجتمعات كافرة)، أم حربنا على أنفسنا للخلاص من مسرحية رديئة الكتابة والإعداد والإخراج والتمثيل، اسمها: حياة سياسية ديمقراطية، وإيمان دينيّ سمح.

 

*   *   *

داعش ليست موضع السؤال، بقدر ما نحن جميعاً برسم التساؤل عن مصيرنا.

مصيرنا المتأتي عن حاضرنا الراهن.

حاضرنا الراهن الإبن الشرعيّ لماضينا.

 

*   *   *

يُقال: مَن يزرع الريح يحصد العاصفة!

 

 

  • إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.

 

أضف تعليقك