أمريكا في عشرين دقيقة روسية
بدت المواقف والمواقع واضحة من خلال أداء رئيسي أقوى دولتين في المؤتمر الختامي لقمة العشرين؛ بوتين واثق ويبحث عن أية فسحة إضافية تسمح له بالإقصاح، بينما بدا أوباما تائهاً يريد أن يتخفف من أحمال وأثقال نفسية دون أن يستطيع، فيما بدا في الوقت نفسه على موعد صعب في بلاده، التي لا تعرف ما يعرف.
فما الذي يعرفه الرئيس، الذي لا يعرف شيئاً لا تقدمه له القنوات الرسمية..!؟
إنها كنوز من المعرفة، ولكن امتلاكه لها لم يستغرق سوى عشرين دقيقة فقط هي مدة لقائه بالرئيس الروسي بوتين. نعم، بوتين الذي حرص على أن يلتقي نظيره رغم أن الجانب الأمريكي كان قد أعلن استباقياً أن لا قمة بين رئيسي الدولتين العظميين، بما ينسجه هذا الإعلان من احراجات دبلوماسية وبروتوكولية تضمن تقييد الجانب الروسي بحساسيات تجعله يحجم عن تعريض أوباما للقاء لا يريده، ولكن هو مضطر للمرور بقربه.
ما الذي قاد بوتين لذلك اللقاء..!؟
قاده إلى ذلك أن الحديث السوري على عشاء قمة العشرين اللينيغرادي كان موجهاً إلى العموم: لا حرب خارج مجلس الأمن. لا حرب تجري خارج القانون الدولي ونكتفي بالتفرج عليها من شاشات السامسونج. ولا يخوض أحد حرباً مع حليف دون كلفة روسية. وأي خطوات أحادية الجانب ستحرر موسكو ودمشق وطهران وحلفائهما من قيود عالم ما بعد الاتحاد السوفيتي..
وقاده إلى ذلك أن الحديث السوري على عشاء قمة العشرين اللينيغرادي كان مخصصاً لوضع النقاط على بعض الحروف الحائرة: السعودية ليست الناطق الأول باسم العالم الإسلامي. المخاطر الجدية على الإقتصاد العالمي تأتي تحديداً من أوروبا والولايات المتحدة. القانون الدولي ليس مزحة ولا لعبة: لقد شنت بموجبه وباسمه حروب كونية على شعوب كاملة (العراق، يوغوسلافيا، ثم العراق مرة أخرى..إلخ)، وخسرت هذه الشعوب مئات الآلاف من أبنائها في طريق إنفاذ ما أُعتبر انه القانون الدولي؛ وبالتالي ليس هذا الوقت الذي يمكن فيه تجاهله والقفز فوق مؤسساته!
وقاده إلى ذلك أن الأمريكي يتصرف مع الأوربيين وسواهم باعتباره سيداً أوحداً، وهم لا يتأخرون ولا يخيبون ظنه فيستجيبون له كأتباع، وبذا كان يتوجب أن يكون هناك حديث خاص مع سيد البيت الأبيض..
وكان بالفعل ذلك الحديث..
حديث صريح. حديث بمعلومات تؤكد المواقف، ولا يستغرق استعراضها أكثر من عشرين دقيقة، ولكنها ستدفع سيد البيت الأبيض ومساعديه للتجهم والتفكير بمخاطبة الشعب الأمريكي، رغم أن الرئيس الأمريكي وجماعته سيتقلبون كثيراً، حتى ساعة ذلك الخطاب، بين صياغة وأخرى. بين واحدة تبحث عن حفظ ماء الوجه، وثانية تتوسل الوسيلة لحفظ الكرامة من خلال تنفيذ الوعيد الأمريكي لسوريا..!
نحن لا نمزح..!
هذه عبارة لم ينطقها بوتين. لم ينطقها لأنه كان مشغولاً خلال تلك العشرين دقيقة بوضع نظيره الأمريكي بصورة ما لن يقبله الروسي كلاعب أول جديد في السياسة الدولية، وما كان قد أمّن على موقفه منه مسبقاً. كان مشغولاً باطلاع سيد البيت الأبيض الذي أُنتخب لينهي الحروب لا أن يبدأها، على ما سيفاجأ به إن أقدم على توجيه ضربة لسوريا.
نحن لا نمزح..!
عبارة لم يسمعها الرئيس الأمريكي من نظيره الروسي، ولكنه فهمها جيداً، وسيطرت على عضلات وجهه في المؤتمر الصحفي الختامي لقمة العشرين، إذ أدرك أنه على موعد مع إدارته ومجلس شيوخه وشعبه والمعتاشين من بني قومه على اقتصاد الحروب، وليس بوسعه إلا أن يطلب العون من الرب أن يلهمه ويهبه مهارة الإقناع وتبرير نفسه..
نحن لا نمزح..!
هذه ليست عبارة، بل واقع جسيم أدركه سيد البيت الأبيض في عشرين دقيقة عصيبة، ولا يتيح له تنفيذ وعوده لزعماء القارة الأوروبية العجوز، ولشيوخ النفط دافعي أمواله السياسية، إلا من خلال التوجه لمجلس الشعب السوري طالباً منه، هو بالذات، تفويضاً وسماحاً بذلك..
وربما، حينها، سيضطر لقصف سوريا بالياسمين..!
المفارقة الأعظم والأطرف في التاريخ الحديث هي أن حسم أمر ومصير الدولة النووية الإمبريالية العظمى، التي امتلكت القرن العشرين بكامله، لم يستغرق سوى عشرين دقيقة روسية!