أقوى بألف مرة
أستعيد في مقالي فيلم "أقوى بألف مرة" للمخرج السويدي بيتر شيلد، الذي يفنّد المقولات الجاهزة حول تمكين النساء، فالمساواة ليست قانوناً أو منظومة قيمٍ ثابتة تخضع لحسابات السوق ومتطلباته التي يحددها الرجل في نهاية المطاف.
يُقّدم العمل نقداً لاذعاً للنظام الاجتماعي الذي يفرض فيه الذكور –منذ سنيّ مراهقتهم- مواصفات الفتاة المثيرة، لتعتني بزينتها وجمالها بناء على ذائقتهم ورغباتهم، أو تنكفئ على ذاتها حال تجاهلهم لها، ويتم باكراً مصادرة حقها في الاختيار، وفرصتها في النضج مستقلة بجسدها ورأيها.
اختطاف خياراتها يتكرس عبر نظام تعليمي تشيده وصاية أبوية تفرض حرصها الزائف وعديم الجدوى على المرأة، في مجتمع غربي يبدو متماثلاً مع نظيره العربي، وإن بدت الصورة مقلوبة؛ فالغرب يسلّعها بذريعة تمكينها، والعرب لدواعي حمايتها ووضع وصاية عليها.
ينبني فيلم "أقوى بألف مرة" على نص الرواية الأكثر مبيعاً للروائية كريستينا هرستوم، التي أعدّت بدورها السيناريو، عبر تسجليها مجريات الأيام الدراسية من وجهة نظر الطالبات، وما يطرأ على سلوكهن الشخصي من متغيرات نتيجة التفاعل مع زملائهن من الذكور. وفي سبيل إيصال الفكرة الأساسية للفيلم، تركز الكاميرا على الفتيات التي تأتي تصرفاتهن من ترتيب مكياجهن وارتداء ملابسهن بناء على ذائقة الجنس الآخر، ويصبحن عدوانيات أو منطويات عدائيتها على إثر يتعرضن إلى سخرية أو اعتراض الذكر على سلوكهن.
وتبرز آلية الاستجابة لسلطة الذكور من خلال الفتاة "ساين"، التي تروي وتعلّق على الأحداث، وهي فتاة خجولة وانطوائية يكاد لا يلحظها أحد، وهي تمثل شاهداً صامتاً على تطور العلاقات بين الجنسين، إذ تعيش صراعاً داخلياً وتعبث بها الأسئلة حول هيمنة الفتيان وعملية التهميش المستمرة لها ولعدد من زميلاتها، وتنظر باستغراب دائم إلى الطلاب الأصغر سناً (الأطفال) وهم يعبرون عن أنفسهم بجرأة ومودة مفتقدتين لدى المراهقين.
مع التحاق فتاة جديدة بالمدرسة تدعى "سيغا" يهتز النظام التعليمي السائد، الذي تواجهه بذكائها وإيجابيتها في التعامل مع محيطها بتلقائية تفسرها مرافقة والدها ضمن إقامته في بلدان مختلفة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وانفتاحها على ثقافات متعددة، وهو ما انعكس على مظهرها البسيط والعفوي، وقوة شخصيتها النابعة من ذاتها غير المأسورة لصورة نمطية بعينها.
"سيغا" تشكل حالة مثيرة للاهتمام، حيث تخفت سطوة الطلبة الذكور وحظوتهم، نتيجة عدم اكتراثها لتعليقاتهم ومحاولاتهم الفاشلة في إبداء إعجابهم بها، كما يسيطر القلق والتوتر غير المفهومين على ملامح "ميمي" في سبيل الدفاع عن نفسها وحضورها الذي يتحقق بناء على تقييم الجنس الآخر لها، وسرعان ما تنكسر الحدود المتوهمة بين الجنسين، ويلتف الجميع حول "سيغا"، باعتبارها شخصية مركزية تعيد إنتاج علاقاتهم ببعضهم بعضاً على نحو أكثر توازناً.
يلجأ النظام إلى احتواء الضيف الجديد، بعد خسارته إحدى أدوات تأثيره القائمة على تقسيم الطلبة ذكوراً وإناثاً، وبدل الاستفادة من الأجواء الصحية التي خلقتها "سيغا"، يمتدح المدرس قدراتها الاستثائية، مطالباً إياها بمساعدته على تعزيز الفتيات، وإرشادهن إلى الطرق المناسبة في التعبير، وعدم السماح للبنين بالمشي ورائهن.
تنقلب هذه التوجيهات على المدرس نفسه، وبالتالي على المنظومة التعليمية بأسرها، لتمارس "سيغا" كل وسيلة لتفكيك الدور المرسوم لها والأدوار المتوقعة من زميلاتها، وتقودهن باحتجاج على كل الأنظمة والتقاليد المدرسية التي يًنظر لها كونها مسلّمات ينبغي عدم المساس بها، فتتحول حصص الرياضة إلى دورس لتعليم الرقص، وتعترض الفتيات على أسلوب التدريس الذي ينتهجه المدرس وضبطه الصف، ويتسبب ذلك في تلقيهن عقاباً جماعياً يرفضنه جميعاً ويغادرن على إثره المدرسة.
يجتمع مدير المدرسة مع الطالبات المتمردات، في سعي منه، إلى استرداد سلطته القائمة على ثنائية "المراقبة/ المعاقبة"، ويهدد بمنعهن من حضور حفلة التخرج في حال عدم العودة إلى سلوكهن المعتاد، وبذلك تستعيد السلطة نفوذها، وتجبر أفرادها على استعداء "العنصر الغريب".
تقرر "سيغا" ترْك المدرسة، بعد مواجهة مكشوفة مع المدرس أمام زملائها، وما أن تغادر باب الصف، حتى تثور "ساين" على صمتها وعزلتها، التي امتدت طوال الفيلم، وتصرخ في وجه مدرسها وتنعته بالنفاق.
يعود النظام التعليمي إلى سابق عهده، لأن الجميع ارتضى القبول به، لكن ثمة أثراً لا ينسى تركته "سيغا" في أعماق "ساين" التي أصبحت أقوى بألف مرة.
محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.