أفكار غير قابلة للبيع

أفكار غير قابلة للبيع
الرابط المختصر

الفكرة الرائجة، التي يجري تسويقها بنشاط على نطاق واسع، هي أننا بلاد لا علاقة لحكومتها بالتطرف، ولا "مصلحة" لها به، وتقاتله ولا تستثمر فيه. وجاءت مفاوضات استرجاع الطيار الشهيد معاذ الكساسبة، لتعطي دفعاً لجهود تسويق مثل هذه الفكرة الشائعة..

 

وبالطبع، ليست كل فكرة شائعة صحيحة!

 

المفزع في الأمر أن حملات ترويج مثل هذه الأفكار لا تستهدف، كما في مرات سابقة، مجرد تسويق موقف أو خطوة سياسية ما، بل تذهب إلى ما هو أبعد وأخطر من ذلك تماماً: السيطرة الكاملة على عقل وتفكير المجتمع وإرادته، وتحويله إلى مجرد جمهور جاهز للتصفيق، أو الغرق في موجات من الانفعال العاطفي، بحسب ما يتناسب مع وضع الحكومة، ووفق ما تريد. وبما يؤدي إلى تجريم أي تفكير لا ينضبط في هذا السياق!

 

إنه النزوع نحو توليتارية بقامة قزم قصير النظر!

 

لقد قامت استراتيجية الدولة على تدمير آليات المشاركة السياسية واستبدالها بأدوات مكتبية بأيد مسؤولين، هم بدورهم تحولوا من سياسيين إلى مجرد موظفين يتبعون التعليمات، ويتبارون في تنفيذها بحذافيرها. وأنتجت نسختها المبتذلة المناسبة من "الوطنية الأردنية"، التي تضع شرط وطنية واطمئنان الأردنيين على مستقبل بلدهم رهناً بالتسليم بضرورة "التحالف" الأعمى مع المؤسسات الرسمية!

 

أو بالأحرى، بقبول دور "تسحيجي" بعناوين وطنية!

 

هذا "التسحيج" الوطني سخّر أفكاره المذهلة، وحججه العبقرية، مستهدفاً فتح الطريق مسبقاً أمام الحكومة للتنصل من مسؤوليتها؛ فراح يذكرنا بكل الشهداء الذين قضوا في سبيل فلسطين في المعركة مع العدو الإسرائيلي، ويتساءل بالمحصلة "لماذا نستكثر على الأردن مجرد طيار"!

 

هل هذه تعبئة وطنية، أم استهتار!؟

 

كأنما الشهيد الطيار الكساسبة تقاعس عن أداء واجبه الوطني، الذي رسمته له ووضعته أمامه حكومته؛ وأن عليه، بالتالي، أن يعوض عن "تقصيره"، فيزيد على ذلك بتقديم حياته. مع تناسي أن تلك اللحظة كانت امتحاناً لوطنية حكومته، وكان نجاحها فيه يتحدد بالأصل في عدم المغامرة به في ساحة خارجية!

 

هي من كان يخضع لامتحان الوطنية، لا الشهيد الكساسبة!

 

ويبلغ "التسحيج" الوطني مداه فيطلب منا الإقتداء بشقيق الرهينة الياباني القتيل، "فنشكر الحكومة التي حاولت إنقاذ الكساسبة"، متغافلاً عن تفصيل صغير للغاية وهو أن الحكومة اليابانبة انتقلت إلى عمّان بأعلى مستوياتها لمتابعة مصير مواطنها، وتحملت مسؤوليته رغم أنها لم ترسله إلى "داعش"، وجاء بمحض إرادته ورغبته، وعلى مسؤوليته الشخصية، ليقوم بعمل لم تكلفه به. أما طيارنا الشهيد فقد كان يقوم بواجب رسمي، لم يحدده هو، ولم يسع إليه؛ وكان ينفذ بانضباط سياسة حكومته!

 

هذه، باختصار، أفكار غير قابلة للبيع!

 

ولا يتطرق "التسحيج" الوطني، لا من قريب ولا من بعيد، إلى سكوت الحكومة على ترويج الأفكار المتطرفة باستخدام الاعلام الممسوك والمؤسسات الرسمية والمناهج، ولا يناقش دوافع التورط في حرب ليست لنا، ومصلحتنا في مواصلة الاشتراك فيها. ولا يقلقه أن حكومتنا تتبنى سياسة لا تنظر إلى الأردن كدولة، بل تذهب للتعامل معه ومع مؤسساته باعتبارة منظمة محلية قابلة للاستثمار في تجارة الحروب والسياسة الدولية.

 

رحم الله الشهيد، الذي خذلناه يوم أرسلناه!

 

  • ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.

 

 

أضف تعليقك