أعداء الموسيقى
قبل عامين، وفي صباح يوم الخميس 30 تموز 2015، ضربت هزة أرضية منطقة البحر الميت بقوة 4.3 على مقياس ريختر، وشعر بها سكان عمان ومأدبا والكرك...
يومها صرح النائب السابق ورئيس "لجنة التوجيه الوطني" في البرلمان الأردني في ذلك الوقت، زكريا الشيخ، بأن سبب الزلزال هو الفسق والفجور المنتشر في الأردن، وقال تحديدا"”: عّم الفساد في البر والبحر والجو، من انتشار اللوطيين ومطالبهم بالسماح لهم بفاحشة اللواط في الاْردن، مروراً بانتشار مواخير الخمور والزنا من نواد ليلية وغيرها والقائمة تطول، وليس انتهاء بمهرجانات الرذيلة في جرش والفحيص وما يحدث فيها من انتهاكات لشرع الله... فماذا نتوقع؟"
هكذا ودون أن يرمش أو يخجل، فسَّر النائب المحترم الظاهرة الجيولوجية على هواه، وأقحم آيات القرآن في تصريحاته للمطالبة بإلغاء مهرجان جرش، وشتم الذين يحضرون هذا المهرجان ووصفهم بأقبح المسبات والأوصاف...
هذا العداء للفن وللموسيقى للأسف متأصل في تكوين وثقافة هذا التيار الوهابي في بلادنا ولم يأت من فراغ...
ففي تشرين الثاني 2016، هكذا ومن دون مناسبة كما يحلو لها أن تفعل، تقيأت علينا دائرة الإفتاء الأردنية فتوى مكررة لفتاوى شيوخ الوهابية المعروفة بتغليظ تحريم الموسيقى برمتها، حيث قامت دائرة الإفتاء التي ندفع رواتب موظفيها من عرقنا ومن ضرائبنا بتعريف الموسيقى بأنها:
"الأصوات التي تنبعث من آلات عند تحريكها بأسلوب خاص، وتسمى المعازف"
"يا سلام، ما هذه العبقرية في الوصف!
واستندت دائرة الإفتاء فيما استندت من مصادر وهابية في تغليظ تحريم الموسيقى إلى حديث مُلَفَّق افتراه ابن ماجه على النبي محمد، ويزعم هذا الحديث المزوَّر أن نبي الإسلام توعد من يعزف "المعازف" بأنهم سوف:
"...يخسف بهم الله الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير..."!!
وهنالك أحاديث أخرى مدسوسة وروايات مختلقة تزعم أن الله توعد من يعزف أي آلة موسيقية بأن يذوبها ويصهرها ويصبها في أذنيه يوم القيامة، وغيرها من صنوف العقاب لجريمة عزف الموسيقى أو سماعها...
وهذه الأحاديث المشبوهة كلها تجعلك تظن أن الـ"يثرب سيمفوني أوركسترا" بقيادة المايسترو طلحة بن موزارت كانت حفلاتها تملأ الجزيرة العربية ضجيجاً وفسقاً ومجوناً، مما دعى سيدنا محمد والعياذ بالله للتدخل ومنع الفجور الذي كانت تتسبب به هذه "المعازف" والأصوات الصادرة عنها من دار الأوبرا التابعة إلى قريش...
ما هذه المهزلة، وكيف يسمحون لأنفسهم بهذا الإفتراء على نبي الرحمة والخلق العظيم وتقويله ما لم يتفوه به في حياته؟؟!!
ولكن إليكم السر:
في نفس الفتوى المذكورة، تشرح وتقول لنا هذه الدائرة الحكومية الممولة من خزينة الدولة بأنه على الرغم من تحريم الموسيقى تحريماً قطعياً، إلا أن "الفقهاء أجازوا الضرب على الطبل لجمع الناس على الجهاد ونحوه..."
هل فهمتم القصة؟
الوهابية تحرم الموسيقى وجميع الآلات الموسيقية... ما عدا الدف والطبل!!
نعم، كل الآلات الموسيقية الجميلة والساحرة خطر على البشرية، ما عدا الدف والطبل البدائي، ولذلك ترى الأناشيد الداعشية من صليل الصوارم وغيرها ملتزمة بحذافير هذه الفتاوى، فها هم ينشدون من أنوفهم أناشيد النشاز القبيحة التي يقطعون الرؤوس على ألحانها ويذبحون البشر دون استعمال أي آلة موسيقية...
هكذا يريد المتأسلمون لأوطاننا أن تكون؛ صحاري جرباء خالية من الموسيقى وآلاتها الجميلة...
ولكن لكي تعلموا حجم النفاق والإنفصام الإكلينيكي عند هؤلاء، ما عليكم إلا أن تنظروا إلى نموذجهم المفضل في تركيا تحت ولاية خليفتهم العثماني...
المرة الوحيدة التي زرت فيها تركيا مع عائلتي كانت في صيف 2009، حيث صادفت الزيارة في منتصف شهر رمضان من تلك السنة، وهناك رأيت بعيني كيف أن الناس في رمضان يأكلون جهاراً نهاراً في الشوارع والأزقة ولا يزعجهم أحد، ويشربون على ضفاف البسفور في عز الظهر الراكي والنبيذ المصنوعَين في تركيا، ولا يجرؤ أحد أن يتفوه بكلمة لمنعهم أو "تعزيرهم" كما يريد جماعة إردوغان أن يفرضوا علينا هنا في الأردن...
هل تعلمون أيها الأعزاء أنه وحسب إحصاءات ويكيپيديا، يقام في تركيا سنوياً ليس مهرجاناً يتيماً مثل مهرجان جرش المغضوب عليه من دواعش الأردن، ولكن في تركيا أيها السادة يقام أكثر من ألف مهرجان سنوياً للموسيقى والثقافة والرقص والفنون – نعم، أكثر من ألف مهرجان – وهذا في نظر جماعتنا لا يعيب خليفة المسلمين الذي يطبق شرع الله في أنقرة...
اذهبوا هناك، وستكتشفون أنه في رمضان اليوم في تركيا وفي منتصف النهار تسرح عارضات الأزياء وتمرحن في مهرجانات الاختلاط وفي شواطيء التعري، فما بين كل خمارة وماخور يوجد كازينو قمار ومطعم يقدم الأكل والشراب والأرجيلة، دون أن ينخدش حياء الأتراك أو تنجرح مشاعر الصائمين، فعلى من تستهبلون يا عشاق إردوغان؟
ختاماً، أقول لكم أن الموسيقى هي خمرُ الرُّوح، وأن الشعوب التي تَحتَسي الموسيقى حتى الثَّمالة وتهتم بها وتعلمها لأبنائها وتحتفي بِمُبدِعيها هي الشعوب التي أصبحت خير الأُمم على وجه الأرض، بينما تنشغل الشعوب الكارهة للموسيقى بأي أنواع الطبول المسموح ضربها أثناء الجهاد، وبأي قدم يدخلون الحمام، وبعدد الحوريات في الجنة، وبجواز أن يُستتاب تارك الصلاة قبل قتله أم يُقتَل دون استتابة، وبجواز الترحم على أموات غير المسلمين أو تهنئتهم بأعيادهم، وفي ما إذا كانت الأرض كروية، وبغيرها من الأسئلة الجوهرية والمصيرية التي فيها صلاح البشرية وخلاصها..
زيد النابلسي: كاتب أردني