أصدقاء الصمت

أصدقاء الصمت
الرابط المختصر

كان مخطّطو روزفلت يجتمعون في أثناء الحرب العالميّة الثانية، ليرسموا عالم ما بعد الحرب، العالم الذي نعيش تفاصيله المدمّرة اليوم. بالطبع هم لم يكتبوا يوميّاتنا، بل حدّدوا أهدافاً، ورسموا استراتيجيّات عامّة، وتركوا لنا الخطوات التكتيكيّة، و"لنا"، لا تعني أنا وأنت، بل تعني السلطة المباشرة التي تحكمنا.

 

لاشكّ في أنّ الهدف هو أن تمتلك أميركا العالم، أي أن تبقى الأقوى، والأغنى، والأكثر أماناً، وأن يبقى العالم تابعاً لها بشكل افتراضيّ، إذ أنّ أيّ قوّة قوميّة أو وطنيّة ستظهر، ستشكّل خروجاً على ممتلكاتها، حتّى لو لم تكن تملكها حقيقة، كما يقول تشومسكي. تتجلّى الاستراتيجيّات بالقضاء على حركات التحرّر، وعلى استقلالات الدول الأخرى، وقتل النماذج المشرقة، وصناعة ديكتاتوريات في كلّ مكان، ومعاداة القوميّات المستقلة، والتحكّم بالثروات أو إراقتها، ويلخّص تشومسكي الاستراتيجيّة الدبلوماسيّة بتمثيل بليغ، وليس علينا سوى قياس الحالات التي نعيشها عليه:

"حين يقع أحد طغاتك المفضّلين في ورطة، أوّلاً ادعمه، مادام ذلك ممكناً، لكن إن أصبح ذلك مستحيلاً في الواقع، قل: فلينقلب الجيش ضدّه، وعندها اطرده إلى المرعى، واجعل الطبقة المثقّفة تصدر بيانات رنانة عن حبّكَ للديمقراطيّة، ثمّ حاول إحياء النظام القديم بأقصى ما يمكن".

 

لم تتجاهل الاستراتيجيّات الجهود المخلصة حول الأمن البيئيّ، ومعجزات إيقاف الحرب النوويّة في اللحظة الأخيرة، والإشاعات حول زوال أميركا، وأفول أسطورتها التي تطلع بين الحين والآخر، في مقولات المفكّرين، ورجال الدين، ودعم وجود فرقة قاتلة هنا، ومقتولة هناك، حتّى ضمن الحرم الأميركيّ ذاته، وذلك كلّه تدعمه تكتيكات القوى الوطنيّة، وتؤمن به، وتتورّط في تغوّله وتنفيذه.

 

أمّا نحن الذين لسنا على طاولة روزفلت، ولسنا في السلطة أيضاً، فنتلقّى كلاًّ من الاستراتيجيّات والتكتيكات بوصفنا ضحايا مزدوجين، إنّنا نتعامل مع  ذلك كلّه بمستوى آخر من مستويات الوجود البشريّ الموروث، إذ نناطحه بصخرة القيم الصلبة، ونعزّي أنفسنا بالمجد، لأنّنا في الحقيقة لا نملك غير ذلك. بعضنا يصدّق بإخلاص، وربّما بسذاجة، في حين يسكت بعضنا الآخر لأنّه يعرف أنّ الشرّ مغبّته وخيمة في حكايات الجدّات فحسب، وأنّ الأشرار لم يسبق أن نالوا عقابهم المقرّر في الحياة الدنيا، وما علينا إلاّ أن نتسلّح بالصبر حتّى نراهم يُجازَون في الآخرة كما تخبر الرسالات السماويّة.

 

ومع ذلك علينا أن نعلّم أطفالنا مثلما علّمنا آباؤنا، أو علّمتنا المتعاليات كلّها، كيفيّة إجراء عمليّات تجميليّة للموت، ذلك الإرث الذي امتلكه البيادق منذ حرب طروادة، لقد كان أبطال الإلياذة، مثلنا، يواجهون مصيرهم كما نفعل، وينفّذون رغبات سلطويّة، ما هي سوى تكتيكات لاستراتيجيّات آلهتهم، والفرق أنّ استراتيجيّاتهم تُرسم في السماء، واستراتيجيّاتنا رسمها روزفلت وصحبه، قال ساربيدون أحد أبطال طروادة إلى صديقه قبيل المعركة:

يا صديقي النبيل! لو رفضنا القتال الآن

لكنّا معاً، يا ذا الشباب الدائم، خالدين أيضاً.

أنا نفسي ما كنت لأطير إلى الأمام مقاتلاً في مقدّمة الفرسان

وما كنت لأجتذبك إلى أخطار المعركة المجيدة.

ولكنّ حوادث الموت كثيرة الآن كما كانت دائماً

وهي تحيط بنا، ولا يستطيع الإنسان الزائل تفاديها أو الهرب منها.

هيّا معاً إلى الأمام، لنجلب المجد لغيرنا أو نجلبه لنفسينا..

أرجو أن أكون قد وفّقت في تقديم ملخّص للمتاهة الزائفة التي نمرّ بها، لكن بمناسبة الحديث بين صديقين طرواديين، ما أخبار أصدقائنا؟!

غيّبتهم الحروب، وتقطّعت بيننا وبينهم السبل...

 

غاب مفهوم الصداقة عن عالمنا، المفهوم الذي طالما كتبنا عنه موضوعات الإنشاء، لكنّنا لم نكتشف جوانبه كافّة، وهنا لا أبحث عن الصديق الذي أتكلّم معه، بل عن الصديق الذي أصمت معه، كما جلس إمرسون في مطلع القرن التاسع عشر، حينما كانت أميركا تتخذ شكل الضحيّة، مع صديقه الكاتب الإسكتلنديّ كارليل، حينما زاره في مزرعته في كريجنبوتك، وتذهب القصّة إلى أنّه في المساء أعطى كارليل غليوناً لزائره الأميركيّ الشاب، وتناول هو غليوناً. وفي صمت تام، جعل كلاهما ينفث الدخان، حتّى كان موعد النوم، فتصافحا، وهنّأ كلّ منهما صاحبه بتلك الليلة المثمرة التي أمضاها معه.

 

أين هم أصدقاء الصمت! وهل تركت لنا استراتيجيّة روزفلت فرصة لنصمت مع أصدقائنا! لاحظوا أنكم حين تجلسون إلى أصدقائكم تتكلّمون كثيراً، عن الموت، والحرب، والفقد، والألم.. لم تصمتوا يوماً معهم، وربّما لن تصمتوا إلاّ حين لن تجدوهم على قيد الحياة.

 

  • د. شهلا العجيلي: كاتبة، وروائيّة، وأستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية "عين الهرّ" الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و"سجّاد عجميّ".
أضف تعليقك