أزمة إدارة الدولة قائمة قبل الرفاعي وبعد البخيت!!
تجب بلورة مرجعية للجوامع الوطنية وقيم تحدد سيكولوجية المواطن للمحافظة على الامن المجتمعي والبناء على منجزات الوطن«
يواجه الجنرال السابق معروف البخيت -- الشخصية السياسية المحافظة الوحيدة التي أعاد الملك عبد الله الثاني تأهيلها بين نادي أصحاب الدولة الذين خدموا في عهده -- التحديات ذاتها التي ساهمت بصورة كبيرة في الإطاحة بسلفه الشاب سمير الرفاعي, ابن وحفيد عائلة سياسية يمينية خدمت العرش لعقود.
فبغض النظر عن الشخصية التي تقود السلطة التنفيذية ولونها السياسي ومرجعياتها الفكرية والثقافية, فإن التحديات أمام أي رئيس وزراء لم ولن تتغير إن لم يتغير النهج السياسي. فعنوان التحدي الرئيسي ثابت: "أزمة إدارة الدولة" بتفاصيلها السياسية, الاقتصادية والاجتماعية.
العلاج, بحسب ساسة, مسؤولين سابقين وحاليين, يكمن في بناء توافق وطني حول آلية عمل جديدة تحسّن من طريقة إدارة الحياة السياسية العامة وتحدّد من خلالها حقوق المواطنة والهوية, المسؤوليات والواجبات بكل وضوح في ظل نظام ملكي هاشمي لجميع مكونات الشعب على أرض الأنصار والمهاجرين.
والأردن مهدد بملامسة دائرة الخطر إذا لم تعاد الشرعية لمفاصل الدولة ومؤسساتها على نحو يعين أجهزتها المختلفة على صون العدالة الاجتماعية وحماية الأمن, بعد أن ضعفت خلال العقود الماضية. ذلك يتأتى من خلال وضع حد لتفكك الهوية الوطنية الجامعة التي باتت تمس مستقبل الوطن وأمنه المجتمعي, من خلال توافق وطني على نسج عقد اجتماعي - سياسي بين المكونين الرئيسيين: الأردنيين وفلسطينيي الجذور.
فالتفاهمات التي ربطت نسيج المجتمع عقودا تقادمت كثيرا. وباتت غالبية مكونات المجتمع تتطلع لأردن جديد قائم على خلطة شعبية تجمع شتّى المكونات وتلاوينها السياسية من يسار, يمين ووسط, في إطار ديمقراطي يحمي حقوق الإنسان ويؤدي لتكريس حياة سياسية عصرية تضمن حق الانتساب إلى أحزاب وتيارات مؤثرة, والمشاركة الفاعلة من خلال توسيع قاعدة التمثيل, وضمان الكرامة.
فهل الدولة بجميع مكوناتها مستعدة للتعامل مع هذه العناوين المتداخلة, بدءا بالإقرار علنا بوجود أزمة في إدارة الدولة, وتسمية الأمور بأسمائها قبل تشخيص المرض ووضع خطة علاج تدريجي بعد أن هزّت التداعيات الاقتصادية, الاجتماعية وتعبيراتها السياسية المتلاحقة معادلة التفاهمات التي كانت قائمة بين الأردنيين من القمة إلى القاعدة?
الأردن اليوم على مفترق طرق.
ساهمت شظايا الثورات الشعبية التي أطاحت في اقل من شهر بنظامين عربيين, تونس ومصر, بوضع قضية الإصلاح الشامل والتحديث هنا على طاولة البحث كأولوية, بخاصة ببعدها السياسي عبر إطلاق إصلاحات "حقيقية" تبدأ بسن قانون انتخاب جديد في أقل من ثلاثة أشهر تمهيدا لإجراء انتخابات قائمة على أفكار وبرامج تفضي إلى تشكيل حكومة برلمانية يفترض أن لا تختبئ خلف الملك.
منذ بدايات التكوين قبل 90 عاما تغيّرت الآليات والتحالفات طبقا لمراحل زمنية. مفعول كل آلية تواصل لعقدين قبل أن يهرم ويشيخ. ما بين 1950 و 1967 مثلا, اعتمدت الآلية عناوين استرضاء داخلي وخارجي. وبعد أحداث ,1970 تحولت إلى السلطة التنفيذية لتصبح الكل بالكل, وتحول الأردن إلى "دولة بوليسية" تجلّت تراكماتها باندلاع المظاهرات الاحتجاجية عام ,1989 التي كشفت الحاجة إلى توسيع قاعدة المشاركة الشعبية في عملية اتخاذ القرار, على وقع التحول صوب اقتصاد السوق. استشعر الملك الراحل الحسين نبض الشارع آنذاك. وكانت العودة للخيار الديمقراطي المجمّد منذ .1957 عقدت انتخابات تشريعية عام ,1989 الأولى منذ حرب ,1967 ضمن آلية جديدة عمادها تقاسم السلطات وإعادة الاعتبار للسلطة التشريعية. أخذ مفعول هذه التركيبة بالتلاشي عام ,1993 مع بدء التحضيرات الفعلية لمعاهدة السلام مع إسرائيل. فكان إسكات صوت المعارضة الداخلية للمعاهدة, التي أبرمت عام .1994 بعدها أعيد العمل بآليات قديمة سمحت للحكومات والأجهزة الأمنية بالتغوّل على مجلس الأمّة لتنتهي صلاحية هذه الآلية مع تداعيات تزوير الانتخابات عامي 2007 و .2010
الآلية المطلوبة للسنوات ال¯20 المقبلة, قد تتمحور حول إعادة الاعتبار للسلطة التشريعية واستعادة روح الأجندة الوطنية التي صيغت عام 2005 في محاولة جادة من الملك لإحداث تغيير تدريجي سياسي-اقتصادي-اجتماعي. لكن الأجندة ولدت فاقدة للشرعية, بعكس الميثاق الوطني لعام ,1990 لأن الشخصيات التي وضعت الأجندة فشلت في خلق حال من التوافق الوطني حولها.
شاخ العقد السياسي - الاجتماعي الذي قام وترسخ بين النظام والأردنيين نتيجة توافق تاريخي حول آلية بناء دولة القانون وحفظ الحقوق مع نشوء الإمارة عام ,1921 قبل أن يترجم إلى دستور عام 1952 في مملكة نظامها نيابي ملكي وراثي.
المجتمع المقسوم عموديا حول شكل وهوية الأردن الجديد.
فتزاوج المعادلة السياسية والاقتصادية التي أطرت المجتمع على مر العقود الفائتة استنزفت مخزونها. ولم تعد قادرة على حمل الدولة في زمن العولمة والانفتاح وحقوق الإنسان من جهة, وانسداد أفق إقامة دولة فلسطينية مستقلة غرب النهر من جهة أخرى. هذا كلّه بات يضغط على المشهد الداخلي وسط دعوات إلى التغيير.
لم يعد لدى مكوني المجتمع الرئيسيين نقاط التقاء أساسية حول دولة القانون والمؤسسات باستثناء الالتفاف حول النظام الملكي الهاشمي والخوف على المصالح الخاصة مقابل المصلحة العامة للدولة.
في غمرة هذه الأجواء المأزومة, ظهرت فئات تعتقد بأنه آن الأوان للحديث عن عقود اجتماعية جديدة لمراعاة مصالحها الضيقة وطمأنة مخاوفها عبر ضمان حصّة أكبر في الكعكة السياسية من دون أن يمس ذلك حق العودة والتعويض في حال قامت الدولة الفلسطينية.
مكون رئيسي آخر يطالب بعقد اجتماعي جديد لأنه بات يشعر أن المسلمات التي كان يعيش في كنفها في دولة "الرعية والعطايا" لم تعد قائمة, وأنه لم يعد مصدرا رئيسيا في قوة الدولة وشرعيتها أو المستفيد الأكبر من تركيبة سياسات الأمر الواقع. هذه الشريحة تطالب بتأجيل استحقاق الإصلاح السياسي الحقيقي لحين حل القضية الفلسطينية واستعادة الفلسطينيين حقوقهم على أراضيهم. في المقابل, يطالب جزء ثالث بعقد جديد يضمن محاصصة سياسية وعدالة تمثيل لجميع دافعي الضرائب وحاملي الرقم الوطني مهما كانت أصولهم.
الوضع الداخلي صعب, معقد وحساس للغاية.
لكن بالتأكيد, سمعت مؤسسات الدولة وأصحاب القرار, حال د. البخيت وأعضاء فريقه, ما تقوله مكونات المجتمع وفئاته المختلفة.
آن الأوان لأن يتحرك الجميع ضمن رؤية إستراتيجية. وبدلا من أن تجلس الدولة مع المكونين الرئيسيين كلا على حدة حسب ما يقترح بعض المتنفذّين, من الأفضل أن ترعى من خلف الكواليس حوارات مكثفة بين رموز الكتلتين, بشيوخها وشبابها, حتى يخرجوا بمقاربة مشتركة تختزل هواجس وإيجابيات الطرفين وصولا إلى الخروج من بوتقة الهويات الفرعية. في الوقت ذاته, المطلوب بلورة مرجعية للجوامع الوطنية وقيم تحدد سيكولوجية المواطن للمحافظة على الأمن المجتمعي والبناء على منجزات الوطن.
فالدستور لم يستنفد بعد. وبالإمكان شطب الإضافات التي كبّلت السلطة التشريعية وإدخال تعديلات تعطيها دورا أوسع. في موازاة ذلك, ينتظر تفعيل وتحديث القوانين واستنباط أخرى لخدمة دولة القانون والمؤسسات.
بعد ذلك العرض, يبقى السؤال: من أين يبدأ سياسي محافظ مثل د. البخيت, 63 عاما, تطارده شبهات تتعلق بدوره في ملف الكازينو المعلق وعملية تزوير الانتخابات النيابية في ولايته الأولى (2005 -2007)?
وكيف سيدير البخيت مجلس وزراء يضم أسماء مجربة وتكنوقراط, لم يكن له رأي في اختيار وزيرين منهم على الأقل. عدد من أصحاب المعالي الجدد انتهى مفعولهم منذ سنوات. وبينما قد يكون لبعض الوزراء قدرة على التواصل مع الشارع, إلا أن ذلك لا ينسحب على النخب الاقتصادية والسياسية صاحبة المال والنفوذ. وكيف سيتعامل مع حفنة تكنوقراط من الشباب يديرون دفة العلاقات الدبلوماسية والمساعدات المالية مع حكومات العالم, ووزير مالية لا خيار أمامه إلا استمرار البحث عن منافذ لسد العجز الخطير في موازنة 2011 عبر سياسات غير شعبية كتلك التي قصمت ظهر حكومة الرفاعي.
على طاولة الوزراء ملفات كبيرة شائكة تبدأ بالإصلاحات السياسية وتحرير الإعلام من اللون الواحد, محاربة الفساد, رعاية الشباب وتأمين منابر للتعبير عن أفكارهم سيما أنهم يشكلون 70 % من المجتمع- وانتهاء بمراجعة السياسات الاقتصادية "الإصلاحية" ومكافحة الفقر والبطالة ودعم القطاع الخاص.
الأيام العشرة المقبلة ستكون مصيرية لحكومة د. البخيت في بلد تتفاوت آراء مواطنيه بين مؤيد ومعارض ومراقب بحذر بانتظار ما ستنجز حكومته من وعود. ليس من المستبعد تحرك الشارع مرة أخرى ضد الحكومة في حال تلكأت في الإنجاز.
وهناك مجلس نواب "يسن أسنانه لمرمرة الحكومة الجديدة" في محاولة لاستعادة ثقة الشارع, التي فقدها بعد أن منح حكومة الرفاعي ثقة عمياء غير مسبوقة قبل شهرين.
أمام ذلك كله, يقع على د. البخيت شخصيا عبء "تبييض صفحته مع الرأي العام والإجابة بسرعة, صراحة ووضوح عن حيثيات قضية الكازينو وتزوير الانتخابات" التي عاصرها قبل أن ينتقل إلى أمور أخرى ضاغطة.
من دون ذلك, لن يكسب مصداقية في الشارع أو ينتزع الشرعية المطلوبة للتعامل مع أكوام التحديات الجاثمة في الدوار الرابع.
العرب اليوم