قصة الـ”92%” التي تذرعت بها الحكومة لزيادة سعر فاتورة الكهرباء قبل شهر ليست “النموذج” الوحيد لاستغفال الناس وتمرير قرارات خاطئة وغير مدروسة، لكنها تكشف عن الاستخدامات المغشوشة للارقام،هذه التي اعتمدها بعض المسؤولين العباقرة في تزيين الصورة والتغطية على الفشل سواء فيما يتعلق بالتنمية واوهامها، او بالضرائب التي قيل انها لاتمس حياة الاقل دخلا ،اوباستطلاعات الرأي المصممة سلفا لقياس ثقة الناس بحكوماتهم.
حين صدر قرار رفع اسعار الكهرباء اكد المسؤولون ان نحو 92% من شرائح المستهلكين لن يتأثروا بالقرار،لكن بعد ان احتج الناس واشهروا دعواتهم للامتناع عن تسديد الفواتير ،اعترفت الحكومة بأن تقديراتها كانت خاطئة وسمعت وزير الطاقة يقول بان شريحة المستهلكين التي لم تتأثر لا تتجاوز 70%، الان نسمع من المسؤولين عن قطاع المياه ذات التصريحات لتبرير رفع اسعار المياه التي مرت دون ان ينتبه اليها احد،وقد نكتشف ان الشرائح التي مستها الزيادة على الفاتورة لا تتعلق فقط ب%10 او 20 % كما تقول الارقام الرسمية وانما بما يفوق ذلك بكثير،ويمكن ان نتذكر هنا قصة ارقام النمو التي اوصلها بعضهم الى 8% في احد الاعوام مع ان فقر الناس ازداد ومعاناتهم في الواقع تصاعدت ،وقصة توقعات تراجع ارقام المديونية وعجز الموازنة مع انها تضاعفت ووصلت الى نحو 18 مليار دينار،وقصة نسبة البطالة والفقرالتي تتراوح وفق الارقام الرسمية في حدود 14% فيما الواقع يؤكد انها ضعف هذه النسبة ,,وغيرها من الارقام والاحصائيات التي “ابتدعها”هؤلاء للضحك على عقول الناس وخداعهم من اجل تمرير سياسات ثبت انها افقرت الناس،واصدار قرارات شجعت على الفساد،وترحيل مشكلات كان يفترض ان تواجه بالصراحة والمكاشفة لا بالغش والتزوير ،او من خلال وصفات”الوهم” والهروب الى الامام.
الارقام المغشوشة لا تتعلق فقط بحجج رفع الاسعار والضرائب ولا بتجاربنا الفاشلة في تقديرحجم الانجاز ونسب النمو ولا باقتاع الناس بخطأ انطباعاتهم عن واقع البطالة والفقر الذي يرونه ويعيشونه وكذبة الاحصائيات والارقام الرسمية،وانما ايضا بارقام اخرى مغشوشة تتعلق بالسياسة والاعيبها:فثمة اغلبية صامتة لا تريد الاصلاح،واقلية تخرج الى الشارع للاحتجاج،وثمة ارقام مضللة عمن سحبت منه الجنسية او منحت اليه،واخرى عن وزن بعض الاحزاب في الشارع “وحصصهم”المتوقعة في الانتخابات، والسياسة هنا “تلعب” بالارقام كما تريد ،بل وتتعامل احيانا مع المواطن وكأنه رقم قابل للتوظيف والاستخدام،واحيانا للشطب والحذف ايضا.
لا يوجد لدينا مؤسسات محايدة تتعامل مع الارقام بنزاهة وموضوعية،ولا يوجد قانون يحمي الناس من “كذبة” الارقام ويحاسب المسؤول على التضليل الذي يمارسة من خلالها،لكن من حسن حظنا ان اغلبية الناس تعرف الحقيقة،وان الوعي الذي وصلوا اليه بفضل انكشاف الطوابق والالغاز ،وسيولة المعلومات وتحطم الجدران ، لم يترك امام المسؤول اي باب لخداعهم او تضليلهم او تقديم الاوهام اليهم على انها حقائق.
المشكلة بالطبع ليست في الارقام وحدها ،فهي صماء لا تعبر عن شيء ،لكن
حين تتكلم اوتترجم الى معلومات، اوحين تستخدم لاتخاذ قرارات تتحول الى كارثة ان لم تكن صحيحة او دقيقة، وقد رأينا بأعيننا هذه الكارثة ،لا في فواتير الاسعار والدعم المباشر وغير المباشر وعموم الملف الاقتصادي الملغوم،وانما بما جرى من غسيل لاصوات الناس في الانتخابات،ومن تضليل لمواقفهم وآرائهم في الاستطلاعات ،ومن تلاعب بمصيرهم في قضايا أخرى أخطر وأهم.
نريد أن نخرج من لعبة الارقام والاحصائيات المغشوشة،وان نشم هواء الحقيقة ،ونقف على تخوم الحرية،نريد ان نعرف اين نقف ومن نحن ،ماذا انجزنا،ومما نعاني،ومن يتحمل مسؤولية الغش في الارقام,نريد ان تدلنا الارقام على سكة الصح وعلى طريق السلامة لا ان تغرقنا في مستنقع الاخطاء والارتجال والازمات التي تتناسل في بلادنا كل يوم،وتتحول مع الاسف الى كوارث.