قد أبدو ساذجاً، ولعلّني هكذا فعلاً، حين أتساءل عن طبيعة تفاعل زعيم دولة عربية ما، إثر مشاهدته لمجموعة الصور الشاهدة على الموت الجماعي لمواطنيه. الصور المنشورة بالألوان في الجرائد (هل يطلع عليها؟) والأخرى المتحركة الحيّة في نشرات الأخبار التلفزيونية وتقاريرها التسجيلية (هل يتابعها – طبعاً بعد رصده لأخباره الرئاسية، واستقبالاته للوفود الرسمية، والشعبية، ومبعوثي الأمم المتحدة وسواها من المنظمات الدولية التائهة بحثاً عن حلول ليست بحلول؟)
أتساءل عمّا إذا تفاعل الزعيم حقاً، في أعماقه العميقة، وإلى أي قرارات من الجائز أن يتخذها للحيلولة دون مواصلة الموت حصده اليومي، شاهراً منجلهيتحدى الحياة بلا توقف. هل أتوقع من الزعيم فرماناً رئاسياً يحظر على ملك الموت أن يختطف مواطنيه في عهده الميمون.. وإلّا؟ أو حجزاً لجوازات سفر هؤلاء المواطنين اليائسين البائسين لمنعهم من الإلقاء بأنفسهم في دوامات الهلاك خارج البلاد.. مثلاً؟ غير أنّ تساؤلي الأخير رَدّني إلى صوابي، فأعدتُ ترتيب المسألة على النحو التالي:
لن يشكّل فرقاً، في نظر الزعيم، إنْ ماتَ مواطنوه بالجملة في كلّ يوم داخل "الوطن" الذي يرعاه بعنايته، أو هلكوا بالتقسيط خارجه انتحاراً على أمواج المتوسط وفي أعماقه وعلى شواطئه، برعاية القدر وعنايته.
وهكذا، ولأنّ "المكاتيب تُقرأ من عناوينها"، والأيام تشهد على نفسها؛ فإني واثقٌ من أنّ الزعيم لن يفعل شيئاً. لن يفكّر لحظة واحدة فيهذا الأمر غير الجَلَل. سيتناول عشاءه بكل هدوء وسكينة، رغم عجز جدران قصر رئاسته السميكة عن منع أصوات الانفجارات القريبة من الوصول إلى سمعه: سيقوم بإعادة جدولة لقاءات الغد بناءً على آخر تقارير جهازه الأمنيّ الخاص: سيلغي بعضها ويستبدل الأخيرة بالأولى: سيراجع أسئلة الإعلامية العالمية، ويعيد حفظ إجاباته المتماسكة وضبط كلماتها، ولن ينسى ربطة عنقه التي حرصت زوجته على اختيارها لتتناسب مع لون بدلته المدنية: سيتأكد من عدم نفاد حبوب منع الكوابيس السوداء، التي وفرّتها له الدول الحليفة والصديقة، ليهنأ بنوم الملائكة المسالمين! أما الحبوب الأخرى؛ حبوب استجلاب الأحلام الوردية، الأحلام الكبرى الجديرة بزعيم كبير في مثل حجمه وقدْره؛ فإنها واجبة التوفر الدائم كونه الوريث الدستوري للأب الذي لم ييأس من اليافطات العملاقة الموزعة في طول الوطن وعرضه، والشاهرة لمجده الأبديّ وخلوده.. بصرف النظر حتّى وإنْ في الجحيم كان خلوده وتأبده!
بماذا يحلم الزعيم؟
فعلاً، وبكلّ جدية أتساءل عن طبيعة أحلام الزعيم، خاصة إذا كان يرى نفسه "زعيماً حقيقياً - لا وهماً أو استعارة" في مرآته كلّ يوم. هل أحلامه تشبه أحلامنا، نحن المواطنين الذين لم نمت بعد داخل دولته المزدهرة؟ أو لم يحن موعد هلاكنا المُرجأ في جوف المتوسط ومياهه المالحة التي استطابت أسماكُه طعمَ جثثنا؟
هل يحلم، متدرجاً من العادي اليومي إلى الاستثنائيّ الذي أصبح عادياً ويومياً، بحسب التالي:
هل يحلم الزعيم بصباح لا تعكّره فاتورة كهرباء استثنائية جرّاء موجة حرارة استثنائية؟
هل يحلم بظهيرة لا تُخرج أرواحنا منا عشرات المرّات قبل أن يصلنا باص النقليات العامة؟
هل يحلم بأمسية رائقة، بسيطة، على شرفة مترين بمتر ونصف، يصحبنا فيها صوت فيروز؟
هل يحلم بفنجان قهوة يُحتسى على مدخل البناية، دون قذيفة تؤدي دورها كاملاً،فتقذف بنا إلى سماء مذهولة؛ إذ استحال الواحد آحاداً تعجز عن عدّه؟
هل يحلم بالرجوع إلى أسرته بربطة خبز من فرن الحي، قبل سقوط برميل متفجّر، فيربح يوماً مُضافاً إلى عمره؟
هل يحلم بأن لا يقع أسيراً في أيدي داعش وأخواتها – لا لسببٍ سوى الصُدَف العمياء، أو لا يعبر شارعاً مزروعاً بسيارات مفخخة، فيتناثر في ألف قبر؟
تلك هي بعض أحلامنا البسيطة بساطتنا، الفقيرة فقرنا، المتواضعة تواضع حياتنا، العاجزة عن أن تتحوّل إلى حقائق نعيشها فعلاً.
تلك هي بعض أحلامنا الصغيرة التي ليس هنالك من مجال لأن تتحقق، لأنّ أحلاماً كبرى، لزعيم عظيم يتناسخ باضطراد، ينبغي علينا انتظار إنجازها أولاً.. وبعدها يصير لنا أن نحلم بأحلامنا حقاً!
وإلى أن يحين هذا، ثمة فسحة عُمْر لأن نتساءل جميعاً:
بماذا يحلم الزعيم هذه الأيام؟
- إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.