أبو رمان و"سوق" المناهج
لا أناقش مقالتي محمد أبو رمان الأخيرتين:"حرب المناهج.. رؤوس أقلام"، و"المعضلة الأولى في المناهج" من زاوية اهتمامات السوق ومعايير العرض والطلب في تكريس "باحث"، أو سلعة، أو ظاهرة، غير أن الرد على أفكاره المتناقضة وتحليله غير العلمي يصب في انتقاد "لعبة" السوق ذاتها المسؤولة عن عدم ولادة منظومة اجتماعية وثقافية جديدة رغم انهيار منظومتنا الحالية منذ زمن بعيد!
يدعو الكاتب، المتخصص في شؤون الإصلاح والتحول الديمقراطي، الزملاء والأصدقاء الذين يقومون بنقد علمي مشكور للمناهج الدراسية إلى "ضرورة الانتباه والحذر من أن يتحول خطابهم أو سجالهم من النقاش بشأن مفاهيم تربوية وعلمية إلى نقاش عن الدين نفسه، فحين ذلك سيخسرون معركتهم الإعلامية والشعبية بجدارة كبيرة"، ما يعني أن أداة قياس النجاح الوحيدة لديه تحددها مؤشرات الإعلام وكسب الشعبية، منسجماً مع منطق "المؤسسة The Establishment" ومنطقه في تقييم اتجاهات المجتمع المعرفية والفكرية، وهو منطق يحتاج عقوداً من توطين المعرفة والجرأة الأخلاقية لمواجهته.
وكالعادة، يحاول أن يسوّق قضية المناهج باعتبارها منازلة سياسية بين إصلاحيين ومحافظين، وأن دعوته إلى عدم تحويلها إلى "نقاش عن الدين" بمثابة تحذير من "محاولات التيار المحافظ جرّ الإصلاحيين إليه"، ولا يفطن أساساً إلى المعطيات، التي يكررها بأن "جدلية المنهج لا تدور حول التنكّر للهوية الإسلامية لأغلبية المجتمع الأردني"، تؤكد بأن مقاربته تماثل ما يطرحه "المحافظون"، سواء بانشغاله في تثبيت المثبت (الأغلبية والهوية)، أو اهتمامه في نفي تهمة "معاداة" الدين عن الإصلاحيين، أو في سعيه لتبسيط معضلة المناهج وحصرها في "المواطنة" لا في مجابهة عقل أحادي ومستبد وشمولي!
إن اختزال نقد المناهج بهذه الصورة يقود الكاتب إلى جعل "مهمة التنوير" –التحدي أمام وزارة التربية- مقتصرة في الإجابة عن سؤال "أي إسلام نغرس في نفوس أطفالنا؟"، وهو بذلك يعيدنا إلى المربع الأول الذي يفشل فيه المسلمون، تاريخياً، بالاتفاق حول نسخة "منفتحة" و"متقدمة" من الإسلام، فكيف يمكن التوافق على الفريق المتخصص من أهل العلوم والشريعة ممن يتوافرون على درجة من المصداقية والمعرفة العميقة، الذين ينادي أبو رمان باختيارهم، وهل من التقاء على أعلام "المدرسة العقلانية التأويلية المنفتحة" الذين اقترحهم، وقد يكون التساؤل الملح إن كان التنوير ينحصر في هذه الأسماء أو في رؤيتها "الإصلاحية الدينية".
إن أخطر ما يروج له هذا النموذج من الكتّاب هو إلزامنا بنموذج وحيد للتنوير عبر "احتكار" المعرفة وتفسير النص، وعلينا أن نخضع إلى تبديل كهنوت "محافظ" بكهنوتٍ "إصلاحي"، وبذلك تحدد أهداف التغيير المنشود بـ"كتب تربية إسلامية وتربية وطنية منبثقة من معين واحد"، ومرة أخرى يُكتب علينا رفض تعدد الآراء والروايات والسرديات لتاريخنا وثقافتنا وتشكل مجتمعاتنا ودولنا، وقبول نموذج واحد بمجرد أن اعتبره البعض "منفتحاً" و"إصلاحياً".
ويناقض الكاتب نفسه حين يعارض ما أسماه الإصلاح الشكلاني لكنه يرى "ضرورة الخروج من الجزيئيات الصغيرة في عملية النقد"، وأن القضية –بحسب منظوره- ليست بعرض المناهج لصورة البنت المحجبة فقط، وهنا تكمن مشكلته بافتراض أن هذا الانتقاد يعني "نزع الناس من ثقافتهم"، وكأن ثقافة المجتمع تحددها هذه الصورة النمطية للمرأة التي قد يخالفها الكاتب نفسه في حياته الشخصية.
وعند انتقاده "المثالية المفبركة" التي تجعل شبابنا يتعلقون بماضٍ مثالي ناصع الجمال، يسارع أبو رمان إلى الدفاع عن نفسه بالقول إن طرحه لا يعني إدانة الخبرة التاريخية الإسلامية، وهو تفلّت من تحميل كلامه أية مسؤولية تترتب عليه، باستثناء تقديمه مقولات وشعارات عامة وفضفاضة.
ينتهي مقاله الثاني بالدعوة إلى الاستعانة بالمشروعات البحثية والأفلام الوثائقية في تدريس التاريخ والجغرافيا والتربية الوطنية، وكذلك الرياضيات والعلوم لتحديث الوسائل التعليمية، لكنه يلجأ إلى المراوغة والعبارات الإنشائية عند تعرضه لـ"منهجية" و"فلسفة" التعليم.
يسعى الكاتب إلى ربط التعليم برؤيته الخاصة للإصلاح المبنية على تجديد الخطاب الديني بالعودة إلى طروحات بعينها لمحمد رشيد رضا ومحمد عبده وآخرين، وأن التنوير يلزمه الإجابة على سؤالهم حول أي إسلام نريد، وأن الخلاصات "التوفيقية" التي سنصل إليها تستدعي "عصرنة" بعض الأدوات والوسائل التربوية، وهنا أذكّر بأن "السوق" يفرض تبسيط أزمة التعليم، وغيرها من أزماتنا، وتجزيء مسارات إصلاحه لإعاقة أي فرصة أمام تغيير حقيقي وجذري!
آمل أن يعتبر هذا المقال مساحة حرة للنقاش، الذي يتطلب انفتاحاً وحواراً هادئاً ومعمقاً بين الجميع، وليس استقطاباً وتراشقاً إعلامياً قد يصل حدود "شخصنة" رأيي، ومقاطعة المنبر الذي ينشره.
محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.