آذِن المدرسة والنظام
أشعر بامتنانٍ شديدٍ لشخصيتين بارزتين عايشتهما في المدرسة الابتدائية، التي تلقيت فيها أول الحرف والدرْس، وأعترف أن طيفهما يلاحقني حين أتابع نشرة أخبار، هذه الأيام، أو أقلبّ الحال مع أحد الأصدقاء، أو كلما انطلقت حملة "أَمنية" لدعم أو استنكار حدثٍ ما.
أبو محمد، الآذِن الطيب، كان يؤمن باستقامة المدير والمعلمين جميعاً، وبأنهم لا يخطئون مطلقاً، ولذلك كان يوّبخ أبناءه الستة لتقصيرهم في الدراسة، ولم يصدّق يوماً شكوى أحدهم بسبب عجز معلمٍ عن شرْح الدروس الصعبة في المنهاج، وإيقاع معلم آخر عقوبة على ابنه غير وجه حق.
عمِل أبو محمد في البناء عشرين عاماً، ثم استطاع أن يحصل بشق الأنفس على وظيفة مستخدم في وزارة التربية والتعليم بعد تعرضه لحادثٍ حالَ دون استمراره في عمله، لذلك حرِص على إخلاصه في وظيفته الجديدة وتقديمه الولاء الكامل لـ"رسل العلم".
وكان يصرّ على الحضور قبل بدء الدوام بنصف ساعة وكان آخر من يغادر المدرسة، ويذهب أحياناً لمساعدة المدير و"الأساتذة"، كما يناديهم، لتحميل أو إنزال أغراض إلى منازلهم، ويرفض أن ينال أجراً مقابل خدمته لهم، لكنه يقبل ما يعطونه من صدقةٍ، وما يبيت من طعامهم، ويعتق من ملابسهم.
خلافاً لما اعتاد عليه، اختط الآذن أبو حسين طريقاً مختلفة؛ إذ قدّم إلى الإدارة تقارير دورية حول كل ما يجري في المدرسة، ولم يفوّت فرصة للوشاية بالمدرسين الذين يختلفون مع المدير، وكان لديه عيونه من الطلبة الذين يزودونه بالأخبار لقاء فتحه بوابة المدرسة لهم بعد انتهاء الدوام ليلعبوا الكرة في الساحة أو التنس في غرفة الألعاب.
لم يتوان أبو محمد، أيضاً، عن التبليغ عن كلّ ما يعتقد أنه خروج عن القانون والعرف والأخلاق العامة، غير أن دوره الأهم اقتصر في اللحظات الحرجة التي ارتأت فيها الإدارة أن شهادته مصدّقة مقارنة بـ"أقوال" زميله.
لم يترك أبو حسين مهنته جلاّباً "دلاّلاً" في سوق الحلال (الماشية)، حيث أتقن فن المساومة والمفاصلة، وقد وظّف مهاراته في عمله الموازي، فكان يعلم جيداً كيف يجعل الآخرين يقدّرون خبراته "الخاصة"؛ يُقرض المعلمين حين تنفد رواتبهم، ولديه معرفة ممتازة بـ"المرابين" ومحلات البيع بالتقسيط، ويساعدهم في شراء أي سلعة بأرخص سعر لها في السوق، ويحضّر لهم مقويات جنسية مجرّبة قبل سنين طويلة من اختراع الفياجرا!
أقام أبو حسين علاقةً مميزة بالمعلمين كافةً، لذا نجح أولاده في صفوفهم الأولى، لكنهم رسبوا جميعاً في امتحانات شهادة الثانوية العامة، والتحقوا بوظائف هامشية أمّنها لهم والدهم.
تعاقبَ عدد من المديرين، ونُقل مدرسون من المدرسة وإليها، وظلّ أبو محمد يؤدي واجباته وأكثر منها، راضياً بما يُمنح من شكرٍ وصدقات، وكذلك الأمر مع أبي حسين، الذي استحق تقدير الجميع وعدم استغنائهم عن خدماته.
لم يقع خلافٌ يُذكر بين الآذنين رغم افتراق سلوكهما، واجتمعا على همومٍ مشتركة بأبناء فاشلين في الدراسة، وتكاليف الحياة التي تتعاظم يوماً إثر يوم، وشجارات دائمة مع زوجتين لم تكترثا يوماً بمهن زوجيهما.
بقيا سوية حتى تقاعدا في العام نفسه، وأبو محمد يعتقد بصواب النظام التعليمي وحكمة الإدارة وحُسن أخلاق المعلمين ويعزو الأخطاء التي تحدث إلى وجود مخرّبٍ ومستغلٍ مثل أبي حسين الذي، بدوره، لم يغيّر قناعته، يوماً، بأن تردي الأحوال سببه الوحيد غباء زميله وطاعته العمياء.
- محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.