«هوّ رايح وأنتً جيّة»
"جميع الأردنيين في تونس بخير"..."جيمع الأردنيين في مصر بخير"....أقترح أن تحتفظ وزارة خارجيتنا بنموذج يقول: "جميع الأردنيين في ...بخير" ، على أن يجري ملء فراغ "اسم البلد العربي" وتاريخ انتفاضته ، في الخانات المخصصة لذلك ، وأقترح أن يجري طباعة عدد من النماذج مماثل لعدد الدول العربية ، "السيّدة" أو ذات "الحكم الذاتي المحدود"...فالوقت يداهمنا ، وروح تونس والقاهرة تحوم فوق المدن والعواصم العربية...لقد دخلنا عصر النهضة والتنوير الثاني ، أو بالأحرى ، ها نحن نستأنف عصر النهضة والتنوير والاستقلالات الوطنية الذي بدأه أجدادنا ، ومن مصر بالذات ، قبل مائة عام أو يزيد.
"ليلة مبارح ما جليش نوم"..ولم يكن السبب "تجربة جديدة في العشق" ، كنت أنتظر بفارغ الصبر "الإعلان الهام" من التلفزيون المصري ، تماماً مثلما كان آباؤنا يترقبون باهتمام إعلانات "صوت العرب" الهامة... كنت انتظر فتحي السرور بفارغ الصبر ، اشتقت لطلته كما لم أشتق لأحد في حياتي...كنت أنتظر الرئيس الانتقالي المؤقت الذي سيشرف على إجراء انتخابات رئاسية بعد شغور المنصب...لم يحدث هذا ، أصبت بالصدمة ، لم أمض ليلة هانئة ، بيد أن الأمل لم يفارقني بعد...فساعات التغيير أزفت. ، ..سنوات الركود والاستنقاع تودع أيامها الأخيرة..."هوّ رايح وأنتً جيّة"...مصر "زعقت للصبح" وعندما "تزعق البهيّة...للصبح يصبح ، بعد ليلة ومغربية".
مصر نفضت عن روحها الوثّابة ، غبار عقود من الركود والمهانة والاستصغار...لم تعد تنطلي عليها مثل هذه الألاعيب والأحاييل...و"كل ما تهلّ البشاير من يناير كل عام...يدخل النور الزنازن...يطرد الخوف والظلام"....لم يفجر المصريون غضبتهم ، ونادراً ما ينفجر غضب المصريين ، لتغيير أحمد نظيف أو إزاحة أبو الغيط ، هم يعرفون أن هؤلاء ليسوا سوى "كومبارس" في مؤسسة صنع القرار...هم يريدون التغيير ، وهؤلاء لا معنى لبقائهم أو مغادرتهم للسلطة ، فهم أصلا ليسوا سلطة...السلطة في مكان آخر.
حاكم مصر ، فوّت على نفسه وعلى بلاده لحظة تاريخية بامتياز...كان بمقدوره أن يختتم سنوات حكمه المديد ، بعجره وبجره ، بمبادرة تاريخية ، تنقذ ما تبقى من سمعة وماء وجه ، وتخرج البلاد والعباد من مأزقها الطاحن ، وهذا هو الهدف في الأساس...كان بمقدوره أن يُضمّن خطابه السياسي وعداً بعدم الترشح في انتخابات الرئاسة القادمة ، وتعهداً بإغلاق الباب في وجه التوريث ، كان ينبغي أن يعلن بطلان الانتخابات الأخيرة ، وحل مجلس الشعب وإقالة الحكومة ، وتشكيل حكومة إنقاذ وطني ، تشرف على إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة ، نزيهة وشفافة ، وفي ظل قانون جديد ، ورقابة دولية ومحلية ، كان بمقدوره أن يعد بإطلاق آليات لمحاسبة الفساد والفاسدين ، بدل أن يتصرف كما لو أن شيئا لم يحدث بعد ، كما لو أنه لم ير "ملالات الجيش المصري" وقد تزينت بشعارات "يسقط مبارك" ؟
أمس ، برهن النظام على أنه عاجز عن الحراك ، مشلول ، ليس ذي صلة ، منفصل عن الواقع ، أمس عرفنا كيف ضيّع النظام صورة مصر وهيبتها وكرامتها ودورها...أمس عرفنا أن مرض الرئيس وشيخوخته قد أصابا النظام بمجمله بالمرض والشيخوخة ، بكل أعراضها...أمس عرفنا لماذا تتقدم دول لا يزيد تعداد سكانها عن تعداد المتجمهرين في ميدان التحرير ، تتقدم على الساحة الإقليمية والدولية ، لتملأ غياب مصر وفراغها.
كل من تحدثت إليه أمس وأمس الأول ، لم تفارقه لغة المقارنات والمقاربات ، وتحديدا مع الحدث التونسي ، كثيرون قالوا أن خطاب مبارك بالأمس ، يشبه خطاب زين العابدين بن علي الأول في الأيام الأولى لانتفاضة تونس ، والجميع ينتظر الخطاب الثاني والأخير: "خطاب فهمتكم" كما يوصف ، والذي خرج من بعده بن علي من تونس ولم يعد...نحن ما زلنا بانتظار "خطاب فهمتكم".
كل ما بناه النظام واستثمر فيه من أدوات قمع وأجهزة أمنية ، انهار في لحظة واحدة ، الأمن المركزي وقوات مكافحة الشغب أخلت مواقعها ، بعضهم تحوّل إلى لصوص وسرّاق ونهّابين ، لأول مرة نرى ونسمع عن مواطنين يعتقلون رجال الشرطة بتهمة السرقة ، ويقومون بتسليمهم إلى "قوات الجيش" ، سبحان مغير الأحوال والمواقع والمواقف.
فشلت محاولة النظام سرقة "الانتفاضة" وامتطاء صهوة مطالبها ، فمعيار نجاح الانتفاضة هو في هبوط الرئيس عن كرسي الرئاسة ، هذا هو المعيار الوحيد ، والأرجح أننا سنرى أمراً كهذا يحصل ، وقد يحصل قريباً ، قد يحصل بكلفة عالية أو بكلفة أقل ، لكن الكلفة لا بد من دفعها ، والكثير يعتمد على موقف الجيش المصري ، الذي يجد نفسه أمام خيارين: إما أن يظل مخلصاً لتراث "الفلوجة" و"السويس" و"حرب اكتوبر" ، وإما أن يرتضي لنفسه أن يكون منافحاً عن التمديد والتوريث والتجديد ، عن الفساد والمفسدين ، عن المتسببين في جوع الشعب وفقره وقهره...الأرجح أن جيش مصر سينحاز لشعبها وثورته المجيدة الباسلة ، عشتم وعاشت مصر.
الدستور