للناسِ فيما يَهوُون مذاهب، ينتحلونَ أقربَها إلى قلوبِهم، يجتمعون فيها ويختلفون وتحمَّرُ في مسالكها الأنوف، إلّا أنَّ أُم كلثوم، كانت مذهبًا في الفنِّ فاق كل المذاهب، ونَحَت بالطرب ناحيةً تقاصَرَت عنها هممُ المتعلمينَ والمتحذلِقين، وأسَّست للحبِّ زاويةً صوفيَّةً جديدة، مارست في حناياها ومع مُريديها طريقةً لذيذة في الحب، وإذ بالذين كانوا لا يتفقونَ البتّة، يصيرون في زاويتها طلابَ هوىً، وتصيرُ هي المثالُ الذي يحتذى به.
لامَت المُحِبَّ بطريقةٍ تجعلُ كلَّ غائبٍ يُقدِمُ على العودة، وجعلت كلَّ خائنٍ ينظرُ إلى نفسِه على أنَّه مقصر، رسمتِ الأحاسيسَ بلوحةٍ غنائيةٍ تُطرِبُ الرُّوحَ قبلَ الأُذن، وتذهب بمشاعرنا إلى بلادِ ما بعدَ العِشق، وَصَفَت الحبَّ قائلة: “الحُب كله حبيته فيك” وعندما نقضت العهد أطربت مغنية “أنا في انتظارك خليت”، ووصفتِ الجمالَ قائلة:”القلبُ قد أضناهُ عشقُ الجَمال“إنَّها”أم كلثوم“التي حرَّقت بنيرانِ صوتِها كلَّ مُحِبٍ عاش الوَلَه في ليالي القرنِ الماضي.
فاطمة بنت الشيخ إبراهيم السيد البلتاجي والتي اشتُهِرَت باسم”أم كلثوم“، وُلِدت في 31/12/1898، في قرية تاماي الزاهريّة في محافظة الدِّقهلية في دلتا النيل في مِصْر، والدها الشيخ إبراهيم يعمل إمامًا في مسجد القرية، وأمُّها فاطمة المليجي تعملُ ربةَ منزل تَصُّبُّ جُلَّ اهتمامها لرعاية”أم كلثوم“وشقيقها.
بدأت”كوكب الشرق“مسيرَتها في الغناء برفقة والدها الذي كان يعملُ منشدًا دينيّاً في حفلاتِ زواج القرية، وكان يُقدِّمُها آنذاك باعتبارها صبيّ لتغني في المناسباتِ والأعياد الدينية برفقته، حيثُ أنَّه لم يكن يسمحُ للمرأة أن تُغنّي علناً في المناسبات أو حتّى أنْ تقرأَ القرآن، في عمر السابعة بدأ يذيعُ صِيتُها وأخذت تُغني في منازل الأثرياءِ الذين أُعجِبوا بقوة صوتها وأدائها.
وبمجرَّدِ أنْ بدأَت تقدِّمُ العروضَ الموسيقيَّة في القاهرة باتَ يُعرَفُ في مِصْر عن بزوغ ظاهرةٍ موسيقيَّة ثريّة للمكتبةِ الموسيقيِّة الأوبرالِيَّة في القاهرة، والتي لُقِّبَت حينها بالبدوِّية نظراً لِخلفيَّتها الريفيّة وأدائها التقليدي، بالإضافةِ إلى ملابسها التي تعكسُ البيئة التي أتت منها، فكانت ترتدي ملابسَ تمثِّلُ بيئَتها وهي عبارةٌ عن عباءةٍ فضفاضةٍ طويلة حتى الكاحل ووشاحٍ تلُفُّه حولَ رأسها، عدا عن أنَّ العديدَ من حفلاتِها الموسيقيَّة كان يتخلَّلُها أغانٍ ريفيّة إلى جانب أغاني الحبِّ التي تبنَّتها“الست“.
لتنطلقَ”أم كلثوم“في العام الذي شكَّل المحور الأهمّ في حياتها الموسيقية و فارقاً في تاريخها الموسيقي 1926، عندما وقَّعت عقداً مع شركة تسجيلات لأقراص”الغرامافون“تضمنُ لها راتباً سنوياً بالإضافة إلى نسبةٍ على كلِّ قرص يتمُّ بيعُه، فشكَّل هذا العام أماناً اقتصادياً ل”كوكب الشرق” وبرزت بعدها بشكلٍ أكبرَ نجمةً ساطعة خاطِفةً للأنظار.
وفي نفسِ الفترة تعرَّفت على الشاعر أحمد رامي الذي كتبَ لها 137 أغنية وعلى الملحِّن محمد القصبجي، حينها بدأَ القصبجي في إعداد”كوكب الشرق“فنياً ومعنوياً مُشكِّلًا لها فِرْقَتها الخاصَّة، وأن يكونَ لها فرقة”تخت شرقي“بديلاً عن الفرقة التي كانت تُرافِقها دائماً في محافِلها والتي شكَّلتها من أمهر موسيقيي عصرها، عدا عن قرارها بتغيير اللونِ الفنيّ الذي كانت تُغنيه من الأغاني التقليديّة والدينيّة إلى أغانيها التي ما زلنا نستمعُ إليها إلى يومنا هذا، والتي جعلتِ الشُّعراء والكتَّاب يتنافسون على تقديمها إليها في ذلك العصر.
لتنتقل”أم كلثوم“في الأربعينيّاتِ من القرن الماضي لمتابعةِ نجاحها بتصويرها لفيلمَيْ”سلامة“و”فاطمة“، والتي أثارتْ بهما قضايا لتغيير واقع المجتمع المصري بالقيم والأخلاق على انعدام الضمير.
كانت حفلاتُها تُبَثُّ كلَّ يوم خميس إلى جميع إذاعات الوطن العربي، ليترنَّم على صوتِها كلُّ من يسمعها، وعلى إِثرِ سِحرِ صوتِها الخميسيّ لُقِّبت ب”صوت مِصْر“حينها.
في خمسينيّات وستينيّات القرنِ الماضي بدأتْ صحّتُها بالتراجع وشُخِّصت بالتهاب الكلية عدا عن إصابتها بالغدَّةِ الدَّرقيّة التي أصابتها بجحوظٍ دائم في العينين، وكان السبب وراءَ إرتداءها نظاراتِها السَّوداء على المسرح، وبهذا تكن أناقة”الست“وسواد لباسها وعدساتها ما هو إلا معاناةٌ مرضيَّة تقتحمُ ذاك الجسد.
وبالرَّغمِ من مرضها لم تتوقفْ عن تقديمِ حفلاتِها، وتزوَّجت عام 1954 من طبيبِها وأحد مستمعيها ومعجَبيها الكِبار، وفي عام 1967 قدَّمت للمرة الأولى حفلةً خارجَ أقطار العالم العربيّ كانت في باريس، وقامت بجولةٍ عربيّة شمِلت معظمَ العالم العربيّ لحملها للجواز الدبلوماسي، ولِتَكن خيرَ سفيرةٍ عن”أمِّ الدُّنيا“بعدَ حادثةِ النَّكسة التي أودَت بخسارة الجيش المصري، حيثُ كانت تقدِّم حفلاتِها وترسلُ رَيعها إلى الخِزانَة المِصْريّة والجيش المصري.
في الثالثِ من شُباط عامَ 1975 كان عام وفاة”كوكب الشرق“، الحنجرة التي أطربت كلَّ من أصغى إليها، نتيجةَ فشلٍ قلبي، وبهذا تكون”الست“قد ماتت بذاتِ الألم الذي غنَّت لأجله عندما غنَّت”حيَّرت قلبي معاك“، لتقامَ جنازتُها بحضورِ أربعة ملايين إنسان احتشدوا متناقلين نعشها ليعبُرَ حزنُ وفاتِها حدودَ الأوطانِ كلِّها، فكما كان صوتها مطربًا، كانت وفاتها مدوِّيةً لعُشّاق صوتها ومعاصري حقبتها.
لتبقى”رباعيَّة الخيَّام“و”حب إيه” و”سيرة الحب” وغيرها الكثير، تؤرشف في تاريخ الموسيقى العربية، كمذاهبِ عشقٍ تُدَرَّسُ ولا يُملُّ سماعُها.
بالتعاون مع موقع عربي360