جمهوريَّةُ أفلاطون: كيانُ الدولةِ المثاليّ!’’1‘‘

     يُعتبَر كتاب”الجمهورية“أحد أفضل كتب التراث العالمي المتناوِلة للشّأن السياسيّ، فكلمة”سياسة – Politic“مُندرجة من المُفرَدَة اليونانية:”πόλις, pólis  والتي تعني : المدينة“.

     ولهذا كان المجتمعُ اليونانيُّ أوّلَ من ظهر فيه نظام الدولةِ المدنيَّة، وأنَّ الحديثَ عن  فكرة تكوين دولةٍ بكلِّ مقوَّماتِها وأجزائِها البِنائيّة هو أمرٌ لم يُسقطه أيُّ فيلسوفٍ في التاريخ كتابيًا قبل أفلاطون.

الواقعُ السياسيُّ الأثيني في القرن الخامس قبل الميلاد

  صَدَر مؤلَّفُ أفلاطون سنة 386 ق.م، وهي نفس سنة تأسيسِه للأكاديميّة[1]، وكانت دواعي اللّجوء للخوضِ في مضامينِه راجِعةً لاستياء أفلاطون من الظروف السياسية التي قادَت إليها أقطاب الحُكم آنذاك (الأوليغارشيّة)، حيث اشتدّت الثَّوراتُ الداخليَّة وسقطت أثينا إثرَ الحروب البيلوبونيسيّة التي نَشبَت مع إسبرطا، كما أنَّ مُعلّمه الأكبر سقراط نُفِّذَ فيه حُكم الإعدام بالتّسميم خلال حِقبة الحكم الديمقراطيّ.

[1] أرنست باركر، النظرية السياسية عند اليونان، ترجمة لويس اسكندر، مؤسسة سجلّ المغرب، ص215.

     أدّى هذا التّتالي إلى توتّر الأحداث  وإحداث نقطة الفصل في اتّجاه الفيلسوف أفلاطون نحو الاهتمام بالإحاطة النقديَّة والكلاميّة في الفلسفة السياسيَّة، من خلال ثُلاثيّته: الجمهورية، السياسي، القوانين، إلاّ أنَّ كتاب”الجمهوريَّة“كان المرجع النّفيس والإلزاميّ كونُه باكورَة شبابه[2]، استلهَمت قواعِده الكثيرَ من المفكّرين والعلماء ودَفعتهم لإعادة اِستقرائها بشكلٍ مباشر أو جانبيّ في مؤلّفاتهم كابن خلدون (المقدّمة)، والفارابي (المدينة الفاضِلة)، والقدّيس أوغسطين (مدينة الله) نموذجًا.

[2] مصطفى النّشار، تطوّر الفكر السياسي من صولون إلى ابن خلدون، ط1، دار قباء للنشر والتوزيع، ص67.

حوى كتاب أفلاطون على عشر كتيّباتٍ رساليّةٍ في مختلف المواضيع، أتَت على شاكِلة مُحاوراتٍ مؤطَّرةٍ على نهج الجَدَل السُّقراطي، حيث ارتبطَت هذه الأخيرة بمحاولة تصميم نموذجٍ مثاليٍّ”ideal‘‘لِدولته.

    وتبدو الجمهوريَّة من حيث الشّكل الخارجي كحِوارٍ ضخمٍ من عشرة كتب يجري وِفق الوهم المُعتاد بين سقراط النّاطق باسم المؤلّف، وبين السفسطائي ثراسيماك، وشقيقي أفلاطون أديمُنت و جلوكون.

1. العدالة في الجمهورية

 اشتملَ الكتاب على تعريفٍ مبدئيٍّ حولَ خصائص النَّفس البشريّةِ وأوصافِها: (العدالة، الحكمة، المعرفة، الشجاعة) وأشارَ لأهمية انصهارِها مع القالَبِ السياسيِّ للحُكم لِتشكيل ركائز الجمهورية، وقد عرّف العدالة على”أنّها قدرة كلّ فرد على أداء الوظيفة التي سخَّرتها  له الطبيعة خير قُدرة على أدائها في المجتمع“[1]. ممّا يعني أنَّ العدالة عنده هي تأديةُ كلِّ فردٍ لما عليه من التزاماتٍ وواجباتٍ بحُكم موقع المواطن وحالتِه الطبيعيّة، ومن هذا المدخل اتّجه الفيلسوف أفلاطون إلى تقسيم المهام المُساقَة لكلّ طبقة ضامِنة في الجمهور، وهذا ما يقودنا لترتيب الدّعائم البنائيّة الرئيسة لتحقيق العدالة في أكمل تصوّرها المثاليّ،”من العدل أن يَنصرِف المرء إلى شؤونه دون أن يتدخّلَ في شؤون غيره، أعني انصراف كلٍّ إلى ما يعنيه، وهو ما قد يؤدي بِنا إلى العدالة“[2].

[1] أفلاطون، الجمهورية: ترجمة فؤاد زكريا، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنّشر، مصر، (2004)، ص304.

[2] أفلاطون، نفس المرجع السابق، ص304.

 

2. تركيبة المجتمع المثاليّ حسب أفلاطون

     قسّم أفلاطون المجتمع إلى ثلاثِ طبقات، وتُناظر كلُّ طبقةٍ قوّةً من قوى النفس وفضيلةً من فضائِلها:

  • الصُّناعُ والفلاحون: -فضيلتها العِفة-  وأكَّد على وجوبِ أُحاديّة مهنتِهم، أي عدم امتلاكهم لقابليّة تعدديّة الحِرَف لأنَّ كلّ شخص وُجِد مبدعًا في مجاله الخاصّ.
  • الحراس: -فضيلتُها الشجاعة- وقد شملهم نساءً ورجالاً، وطالَب بِتعليمهم وتكوينهم جسمياً وعقلياً (بالرياضة والموسيقى). 
  • الملوك:  -فضيلتُها الحِكمة- هنا أشار بإلزاميّة امتلاكهم للخاصية التفلسفيّة، أيّ أنّ الفلاسفة هم من يجب أن يكونوا في هَرَم السلطة.

      إنَّ دلالة المجتمع عند أفلاطون ممثّلَةٌ على هيئة طبقاتٍ تتبادَل المنافِع، ناتِجةٌ عن حاجةٍ بشريّة للتجمّع، فكلّ طبقةٍ تشارِك بأداء تخصّصها ونقلِ فضيلتها المُحدّدتان لها لِتحقيق غرضها النّفعي.

’’ولكي تتحقّق العدالة في الدولة، لابدّ أن تتحقق أوّلاً داخل نفس كلّ فرد من أفرادِها، ولكي تتحقق داخل النفس الفردية لا بدّ أن تؤدي كلّ قوة من قِواها الثلاثة وظيفتها على الوَجه الأكمَل وبصورة مُنسجمة ومتوازنة، ولكي يتمّ ذلك لا بدّ أن تتحلّى كلُّ واحدةٍ من هذه القِوى بإحدى الفضائل“[1].

[1] مصطفى النشار، تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي، دار قباء للنّشر والتوزيع، مصر، (1999)
ص259.

 

3. التربية في الجمهوريّة

يُعرِّف المُحدَثون التربية على أنّها تنمية الوظائف النفسيَّة بالتمرين حتى بلوغِ كمالِها بالتدريج[1]، وهذا ما طمح إليه أفلاطون لِتحقيقه من خلال وضع نظام السيرورة التعلّمية في مؤلّفه “الجمهورية”، بالتالي تكوين فلاسفة في المقام الأوّل، وهم خرّيجو أكاديميّته.

   -وقد قسَّم محاورَته في نظم التعليم إلى أربع مراحل:

  • المرحلة الأولى (التعليم الأوّلي): مبرمجةٌ في مرحلةٍ مبكّرة من العمر، يتمّ فيها التدريب الجسمانيُّ العضويّ والضّبطُ النفسيُّ لكلا الجنسين، يتحقَّقُ المطلبُ الأوّل بممارسة الرياضة البدَنية لِتقويّة البدَن وتهيِئتِه للمواجهة والدّفاع سواء أكان ذلك من كيد الأعداء أم الأمراض، أمّا المطلب الثاني فقد اقترح فيه أفلاطون الموسيقى كسماعيّات لها غايَةٌ أخلاقيّةٌ تهذيبيَّةٌ للرّوح تعلّمها تذوّق الجمال والنّفور من القبح.

’’يجب على المحارب أن يجمع بين الحِسّ الرقيق المرهف من ناحية، والشجاعة والإقدام من جهة أخرى‘‘[2].

  • المرحلة الثانية (التعليم المتوسِّط): تبدأ هذه المرحلة في سنّ الـ18 بعد اجتياز الطلاّب لِلاختبارات المُنعَقدَة لهم في خِتام المرحلة الأولى، يخضع النّاجحون منها إلى تدريباتٍ عسكريّةٍ  مكثّفةٍ وإجباريّة مدّتُها ثلاث سنوات، ثم ينتقِلون إلى دراسة بعض المواد المقرّرة لهم: منها الرياضيات -كمادة أساسيَّة- وعلم الفلك.

    هدف هذا التكوين هو حثُّ الطلبة على الانصهار مع التفكير المجرّد وإدراك العلاقات المجرّدَة وبالتالي التفلسف.

’’فالرياضيات كانت بالنسبة إلى أفلاطون تعني عادَةً الحساب والهندسة، ولا سيّما هندسة المسطّحات وإن كان قد أبدى بعضَ الاهتمامِ بهندسة الحُجوم، كما أضاف إلى مجال الرياضة نظرية التوافق الموسيقي وعلم الفلك‘‘[3]، بعد اجتياز امتحان المرحلة الثانية، يواصل النّاجحون في استكمال السيرورة التعلّمية المتاحة لهم، بينما يشغل الرّاسبون مناصب ومهام أخرى (عسكريّة أو مساعدين تنفيذيّين.. إلخ) بعد عزلِهم المباشر من المتابعة، (يتحقق ذلك بإقناعهم بإدراج مسألة الحساب والعقاب في مرحلة ما قبل الطَّرد، بأنّ الأقسام التي سقطوا فيها هي من صنع الله قَسَمها لهم، وفرضها عليهم، وهي قطعيّةٌ وباتّة، ولا مردَّ لها)[4]

[1]  جميل صليبا: المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللبناني، لبنان، (1982)، ص266.

[2] أفلاطون، الجمهورية: ترجمة فؤاد زكريا، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنّشر، مصر، (2004)، ص133.

[3] أفلاطون، نفس المرجع السابق، ص135.

[4]  ول ديورانت: قصة الفلسفة من أفلاطون إلى جون ديوي، ترجمة فتح الله محمد المشعشع، ط6، مكتبة المعارف، لبنان، (1988)، ص39.

المرحلة الثالثة (التعليم الثانوي): تشغل هذه المرحلة العقد الثالِث من عمر الطّالب، لعلّ ذلك يحتاج إلى نضجٍ مُعتبَر في مواجهة الحياة وجاهزيّة القدرة على التبحّر فيما هو مجرّدٌ ومعقّد وهذا لا يقدِرعليه إلّا بالِغٌ في العمر، يتمُّ فيها دراسة”الديالِكتيك – الفلسفة“من أجل الوصول بالمفاهيم المدروسة إلى الحقيقةِ المجرَّدة بواسطة الجدل وبدون وساطَةٍ حِسيَّة، ولِتحقيق هذا المُبتغى يحتاج إلى خوض خمس سنوات من البحث والمعرفة، وحذّر أفلاطون من تناوُل الدراسات الفلسفية في سنّ مبكّرة، حيث ذكَر:”من أهم الاحتياطات أن نمنعهم من دراسة الديالكتيك وهم لا يزالون في حداثتِهم، إنّ المراهقين الذين تذوّقوا الديالكتيك لأوّل مرة يسيئون استعماله ويتّخذونه مَلهاة ولا يستخدمونه إلاّ للمغالطة“[1]

المرحلة الرابعة (التعليم العالي): يتحصّل -المُنتقلون إلى هذا السّقف الهرَمي في التعليم المثاليّ -على تدريبٍ عمليٍّ مدّته 15 عاماً،  يتلقّون فيه أسس ممارسة الوظائف العُليا وتولّي قيادة الجيش العسكريّ  وإدارة المهام العُليا، فتوضَعُ كلُّ إمكانيّاتهم وتُثبَت جدارتهم عبر سِلسلةٍ من الامتحانات المُرافِقَة لهم طول مدة التكوين وبذلك تحدّد الفئة السّديدة التي تُوَجَّه آلياً للسيادة وحكم الدولة.

[1] أفلاطون، الجمهورية: ترجمة فؤاد زكريا، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنّشر، مصر، (2004)، ص141.

4. طبيعة النَّهج التربويِّ الأفلاطونيّ

   أرسى أفلاطون معالِم شموليّة وارستقراطيّة المنهج التربوي لكلّ الشَّعب بمختلَف طبقاته[1]، فنظام الفَصل والعَزل من بلوغ  قطب الدراسات العليا تُحدّدها درجة الاجتهاد، والقدرة والكفاءة التي يتميّز الطالب بها سواءً أكان مسّاحَ أحذيةٍ أم ابن حاكمٍ، وهنا نلمَس تأثُّراً واضِحاً لأفلاطون بمسلّمات معلِّمه سقراط حول دمقرَطَة التعليم وجعلِه مُتاحاً للعامّة في المراحل الأولى.

[1]  – انظر إلى فقرة أسطورة المعادن- ول ديورانت: قصة الفلسفة من أفلاطون إلى جون ديوي، ترجمة فتح الله محمد المشعشع، ط6، مكتبة المعارف، لبنان، (1988)، ص39/40.

يُتبع…

بالتعاون مع عربي360

أضف تعليقك