"مذكرة التفاهم" العسكرية الأميركية - الإسرائيلية: سياقاتها ومعانيها
تقدير موقف للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات-
وقّعت الولايات المتحدة وإسرائيل اتفاقًا تقدّم الأولى بموجبه للثانية 38 مليار دولار مساعدات عسكرية في السنوات المالية العشر المقبلة (2019-2028). وبحسب الاتفاق الذي جرى توقيعه في مقر وزارة الخارجية الأميركية في الرابع عشر من الشهر الجاري، فإنّ الولايات المتحدة سترفع مخصصات مساعداتها العسكرية السنوية لإسرائيل من 3.1 مليارات دولار، كما كانت عليه الحال في الاتفاق الموقّع بين الطرفين نهاية عام 2007، للفترة الواقعة بين السنوات 2008-2019، إلى 3.8 مليارات دولار. ويمثّل الاتفاق الجديد زيادة بنسبة 27% على المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل التي كانت 30 مليار دولار خلال العقد المالي الجاري الذي شارف على الانتهاء. وتعدّ هذه الاتفاقية أكبر التزام أميركي بمساعدات عسكرية لأيّ بلد على الإطلاق في تاريخها. وبحسب "خدمة أبحاث الكونغرس" فإنّ إسرائيل هي "أكبر متلقٍ تراكمي للمساعدات الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية". وعلى الرغم من الحديث عن تنازلات إسرائيلية في هذا الاتفاق، فإنّ "مذكرة التفاهم"، بحسب البيت الأبيض، تمثّل "انعكاسا آخر لالتزام الرئيس باراك أوباما الذي لا يتزعزع بأمن إسرائيل".
تفاصيل الاتفاق
استنادًا إلى "مذكرة التفاهم" الأميركية - الإسرائيلية التي نشرها البيت الأبيض، فإنّه يمكن إجمال أهمّ بنود الاتفاق في ما يلي:
- أولًا، توزَّع القيمة الإجمالية للاتفاق لسنوات 2019-2028، والبالغة 38 مليارًا، كما يلي:
• 33 مليار دولار (3.3 مليارات دولار سنويًا) للتمويل العسكري الأجنبي تستخدم كليًا في شراء معدات عسكرية أميركية.
• 5 مليارات دولار (500 مليون دولار سنويًا) لتمويل الدفاع الصاروخي الإسرائيلي. وبحسب "مذكرة التفاهم" فإنّ الالتزام الأميركي بتمويل الدفاع الصاروخي الإسرائيلي لسنوات عديدة "سيسهل بشكل كبير التخطيط الطويل الأجل عوضًا عن مستوى المساعدات في مجال الدفاع الصاروخي (الإسرائيلي) والتي تُعتمَد سنويًا". كما تشير "مذكرة التفاهم" إلى أنّ مبلغ الـ 500 مليون دولار سنويًا لتمويل نظام الدفاع الصاروخي الإسرائيلي يتجاوز متوسط الدعم الأميركي غير الطارئ الذي قدّمته الولايات المتحدة لهذا النظام في الخمس سنوات الماضية. ويشير بعض المصادر إلى أنّ الكونغرس الأميركي منح إسرائيل في الأعوام الأخيرة ما قدره 600 مليون دولار مخصصات سنوية اختيارية لهذا الهدف.
- ثانيًا، يتيح مستوى التمويل المحدد في "مذكرة التفاهم" لإسرائيل تحديث الجزء الأكبر من أسطول طائراتها المقاتلة، بما في ذلك الاستحواذ على المزيد من طائرات أف-35أس الهجومية، وتعزيز قدراتها الدفاعية الصاروخية، واكتساب القدرات الدفاعية الأخرى اللازمة للتصدي للتهديدات التي تحيط بها. ومن المقرر أن تتسلم إسرائيل 33 مقاتلة إف-35، وسيكون تسليم أوّل اثنتين من تلك المقاتلات في كانون الأول / ديسمبر المقبل.
- ثالثًا، إلغاء ميزة خاصة بإسرائيل بموجب اتفاقات سابقة مع الولايات المتحدة كانت تسمح لها بإنفاق ما نسبته 26.3 من التمويل العسكري الأجنبي السنوي الأميركي داخل إسرائيل على أسلحة غير أميركية. وإلغاء بند خاص كان يخوّل إسرائيل حق شراء وقود عسكري بما نسبته 13% من المساعدات الأميركية. واستنادًا إلى "مذكرة التفاهم" فإنّ إلغاء البندين السابقين يعني أنّ إسرائيل ستنفق مزيدًا من التمويل العسكري الأميركي، بحدود 1.2 مليار دولار سنويًا، على شراء "قدرات عسكرية متطورة لا تقدمها إلا الولايات المتحدة". وتشير "مذكرة التفاهم" أيضًا إلى أنّ "اكتساب المزيد من القدرات والتكنولوجيا الأميركية يتيح أفضل الضمانات لإسرائيل للحفاظ على تفوّقها العسكري النوعي".
"تنازلات" إسرائيلية
عدّ البعض إلغاء البندين السابقين "تنازلًا" إسرائيليًا لإنجاح تمرير "مذكرة التفاهم"، وكذلك تخلّي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن مطالبه السابقة بأن تكون الزيادة في المساعدات العسكرية ما بين 4-5 مليارات سنويًا، وليس 3.8 مليارات دولار وعدم سعي إسرائيل للحصول على أموال إضافية من الكونغرس إلّا في حالة الحرب.
غير أنّ الحديث عن "تنازلات" إسرائيلية هنا فيه كثير من المبالغات؛ فالمساعدات ارتفعت عمليًا من 3.1 مليارات دولار سنويًا إلى 3.8 مليارات دولار، أمّا في ما يتعلق بإلغاء البند الخاص بحق إسرائيل في إنفاق 26.3 في المئة من التمويل الأميركي على صناعاتها العسكرية، فإنّ فيه نوعًا من التضليل أيضًا. ذلك أنّ هذا الإلغاء سيكون تدريجيًا، وقد يمتد إلى خمس سنوات، وهي مدة كافية لإسرائيل وللصناعات العسكرية الإسرائيلية كي تتكيف مع هذا الأمر. فضلًا عن ذلك، فإنّ بعض الشركات العسكرية الإسرائيلية استحوذ على شركات أسلحة أميركية صغيرة، أو أسس فروعًا لها في الولايات المتحدة؛ كشركة "إلبيت سيستمز" الإسرائيلية، على سبيل المثال. ويبدو أنّ كثيرًا من الشركات الإسرائيلية يسير على خطى هذه الشركة، بحيث أنّ إسرائيل قد تنفق قسمًا كبيرًا من أموال المساعدات الأميركية على شركات إسرائيلية في الولايات المتحدة.
الأهم من كلّ ما سبق، أنّ الكونغرس، الحليف الطبيعي لإسرائيل، قد لا يلتزم مستقبلًا بالسقف الذي وضعته إدارة أوباما في هذا الملف وشروطها؛ إذ صرّح السناتور، ليندسي غراهام، رئيس لجنة الاعتمادات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، بعد توقيع "مذكرة التفاهم" إنّ الكونغرس "لن يلتزم بالضرورة بمستويات التمويل المحددة سلفا". وغالبًا ما تلجأ إسرائيل إلى تقديم طلبات لمساعدات عاجلة في حالة تعرّضها لهجمات أو قيامها هي بهجمات، أو في حالة أيّ "تقدّم" في المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، أو في حالة إبداء الغضب على علاقة صفقة تسليح أميركية مع دولة عربية، فكلّ حدث يمثّل بالنسبة إلى إسرائيل مناسبة لطلب المال.
سياق الاتفاق
جاء الاتفاق حصيلة عشرة أشهر من المفاوضات الصعبة بين الطرفين، زادها تعقيدًا الخلاف الأميركي - الإسرائيلي حيال الاتفاق النووي مع إيران الذي عارضته إسرائيل بشدة، والخلاف على ملف التسوية الفلسطيني – الإسرائيلي أيضًا الذي أجهضه نتنياهو على الرغم من محاولات أوباما الحثيثة إحياءَه. ويمثّل هذا الاتفاق رسالة واضحة إلى جميع الأطراف بأنّ العلاقة الأميركية - الإسرائيلية لا تخضع لخلافات حكومتين، وهو ما عبّر عنه أوباما في معرض تعليقه على توقيع "مذكرة التفاهم" بأنّ "التزام أميركا بأمن إسرائيل لا يتزعزع". كما يمثّل الاتفاق إقرارًا أميركيًا بمزاعم إسرائيل بأنّها تعيش في محيط معادٍ ومحفوف بالمخاطر، وأنّ هذا الاتفاق يحقق مصلحة أميركية أيضًا. وقد لخصت مستشارة الأمن القومي، سوزان رايس، ذلك بقولها في حفل توقيع الاتفاق: "مذكرة التفاهم هذه ليست جيدة فقط لإسرائيل، بل هي جيدة للولايات المتحدة أيضا... وحين يكون شركاء وحلفاء كإسرائيل أكثر أمنًا، فإن الولايات المتحدة تكون أكثر أمنًا".
أسباب توقيع "مذكرة التفاهم"
1. إدارة أوباما
يمكن إجمال أهم الأسباب التي حثّت إدارة أوباما على توقيع "مذكرة التفاهم" مع إسرائيل، على الرغم من خلافاتها الحادّة مع حكومة نتنياهو، وعدم ترحيل الملف إلى إدارة مقبلة في ما يلي:
• حرص مساعدي أوباما على أن يكون الاتفاق جزءًا من إرثه الرئاسي، ولتأكيد أنّ خلافاته مع نتنياهو لا تعني خلافات بين البلدين إستراتيجيًا، وأنّ العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل تبقى حجر زاوية الإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط.
• لم يرد الرئيس أوباما إعطاء حجة للجمهوريين الذين اتهموه واتهموا إدارته أيضًا بعدم إبداء قدر كافٍ من الاهتمام بأمن إسرائيل ومصالحها وهواجسها وتحالفها الإستراتيجي مع الولايات المتحدة.
• دعم ترشيح هيلاري كلينتون للرئاسة في أوساط اللوبي الإسرائيلي.
2. حكومة نتنياهو
على الرغم من أنّ مطالب حكومة نتنياهو كانت أكبر مما تمّ تحصيله في الاتفاقية، وعلى الرغم من انتقاد عدد من الإسرائيليين المعارضين له بأنّه قدّم "تنازلات" كبيرة فيها، وبأنّه كان يمكنه الحصول على اتفاق أفضل لو لم يوتّر العلاقة مع إدارة أوباما، أو لو أنّه انتظر الإدارة المقبلة، فنتنياهو وافق على توقيع "مذكرة التفاهم" بصيغتها النهائية لأسباب ثلاثة؛ هي:
• توقيع هذا الاتفاق مع إدارة أوباما الأكثر نقدًا لإسرائيل، يؤكد الإجماع الأميركي على التحالف مع إسرائيل، ويزيل بعض الانطباع بأنّ دعم إسرائيل في الولايات المتحدة يتحول إلى مسألة حزبية، أي تزايد التأييد لإسرائيل في صفوف الحزب الجمهوري، مقابل تراجعه في صفوف شباب الحزب الديمقراطي الذي بينته ظاهرة ساندرز.
• يعطي هذا الاتفاق المؤسسة الدفاعية الإسرائيلية قدرة على التخطيط المسبق.
• على الرغم من توقيع هذا الاتفاق، فبإمكان الكونغرس، بموافقة أيّ إدارة مقبلة، زيادة المساعدة، ما يعني أنّ الالتزام الحالي هو قاعدة انطلاق ممتازة بالنسبة إلى إسرائيل.
خلاصة
بهذا الاتفاق فإنّ إدارة الرئيس باراك أوباما تكون قد طوت وعودها التي أطلقها أوباما نفسه، منذ وصوله إلى البيت الأبيض مطلع عام 2009، بتحقيق إنجاز على صعيد مفاوضات التسوية الفلسطينية - الإسرائيلية يقود إلى دولة فلسطينية مستقلة، وذلك بعد اصطدامه بعناد نتنياهو. بل إنّ أوباما نفسه لا يترك مجالًا للشك بتراجعه المذلّ أمام نتنياهو وذلك حين يعترف، بحسب "مذكرة التفاهم" العسكري الجديدة، "تحت قيادة الرئيس أوباما وصل التعاون المتعدد الأوجه بين الولايات المتحدة وإسرائيل إلى مستويات غير مسبوقة". وفي بيان بعد توقيع الاتفاق يقرّ أوباما بأنّ الولايات المتحدة تحت قيادته قدّمت 27 مليار دولار لإسرائيل على شكل مساعدات عسكرية أجنبية، بما في ذلك تمويل نظام دفاع صاروخي وتطويره. فالتحالف الأميركي مع إسرائيل ودعمها، بل والحرص على إرضائها، مسائل غير مرتبطة بانصياع إسرائيل للمواقف السياسية الأميركية في المنطقة، ولا سيما في قضية فلسطين. أمّا تصريحه بأنّ "السبيل الوحيد لاستمرار إسرائيل وازدهارها دولة يهودية وديمقراطية يكون من خلال تحقيق دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة"، فيبدو ذرًّا للرماد في العيون، مثل تصريحه بأنّ "مذكرة التفاهم" هذه تهدف إلى الدفع بذلك الاتجاه.