"معان ليست مجرد مكان، بل هي ذكرياتي، هي طفولتي وشبابي وأحلامي الصغيرة، لكنني لم أستطع البقاء، فرص العمل هنا نادرة، وكنت مضطرًا للبحث عن فرصة في عمان "لقد كان خيار محمد صعبًا كما يصفه، لكنه كان ضروريًا للاستمرار في حياته، لم يكن وحده في هذا القرار ، بل هو جزء من موجة كبيرة من الشباب في محافظة معان الذين اختاروا نفس المسار واتخذوا نفس القرار .
تقع معان على بعد 218 كيلومترًا (135 ميلًا) جنوب غرب العاصمة عمان، وبلغ معدل البطالة عند الذكور 19.8% خلال الربع الثالث من عام 2023 مقابل 31.7% للإناث، وتعد المحافظة الأكثر فقرًا في المملكة، حيث يعيش 27% من قاطنيها تحت خط الفقر بحسب منتدى الاستراتيجيات الأردني، ورغم أنها تزخر بتاريخ وتراث عريق، إلا أن معان اليوم تنسج قصة جديدة للشباب وطموحاتهم، وهم يواجهون واقعًا اقتصاديًا صعبًا يُجبرهم على البحث عن حياة أفضل في أماكن أخرى، إذ تحولت تدريجيًا بالنسبة للكثير منهم إلى محطةٍ للرحيل.
وعند وصوله إلى عمان، وجد محمد نفسه في بيئة مغايرة تمامًا عما تعوده، كما يروي لـ "صوت شبابي" : "عمان مليئة بالفرص والتنوع، هناك الكثير لتكتشفه وتتعلمه، لكنها ليست مثل معان، الغربة في عمان ليست فقط غربة عن المكان، بل عن الأهل والأصدقاء "، صحيح أن محمد تمكن من العثور على وظيفة في شركة صغيرة، إلا أن قلبه لا يزال متعلقًا بمعان، حيث يأمل أن يتمكن يومًا ما من العودة، ليس فقط للزيارة، بل للاستقرار من جديد في تلك المدينة التي نشأ فيها.
ومع تزايد أعداد الشباب الذين يغادرون معان، أصبحت المدينة تشهد تغيرات جوهرية "نرى شبابًا يغادرون يوميًا، والمدينة تفقد حيويتها شيئًا فشيئًا"، هكذا وصف أبو خالد، وهو أحد سكان المدينة الوضع الحالي، معان التي كانت في السابق مكتظة بالحياة أصبحت تعاني من نقص في العمالة داخل المشاريع المحلية ، ما أدى إلى تعميق الأزمة الاقتصادية ، كل يوم يرحل فيه شاب، تفقد المدينة جزءًا من ديناميكيتها ، مما يزيد من التحديات التي تواجهها.
لا تقتصر المشاكل الاقتصادية على هذا الأمر فقط ، بل إن طبيعة معان الهادئة التي كانت تُعد في وقتٍ ما ميزة وتحولت إلى عبء ، فالمدينة تفتقر إلى المشاريع الكبيرة التي قد تجذب الاستثمارات وتخلق فرص عمل جديدة ، كما أن التعليم الذي كان يومًا مفتاحًا للتقدم ، أصبح الآن سببًا للهجرة ، الكثير من الشباب يغادرون إلى عمان للدراسة في تخصصات غير متاحة في معان ، مما يجعل العودة إلى المدينة بعد التخرج خيارًا صعبًا ، الأمر لا يقتصر على الفرص العملية فحسب ، بل إن العلاقات الاجتماعية أيضًا تتأثر ؛ فالانتقال للدراسة أو العمل في مدينة أخرى يضعف الروابط الأسرية والمجتمعية.
لكن مع كل هذه التحديات ، يبقى هناك بصيص من الأمل ، يتحدث البعض عن إمكانية إحياء المدينة من جديد إذا تم توفير الدعم اللازم ، يقول الناشط في المجتمع المحلي أحمد عبيدو لـ "صوت شبابي": "إذا استثمرت الحكومة في البنية التحتية بشكل جدي ، وقدمت حوافز لجذب المستثمرين ، سنرى تغييرات حقيقية ، يمكن أن يعود الشباب إلى مدينتهم إذا وجدوا فيها فرصًا تتيح لهم بناء حياة كريمة" ، وفي الواقع فإن تحسين مستوى الخدمات وتطوير الاقتصاد المحلي قد يكون المفتاح لاستعادة معان لعافيتها.
ومن الأمثلة على المشاريع التي بدأت تُحدث فرقًا في معان معمل خيرات الشوبك للألبان والأجبان ، وهو مشروع قائم منذ أربع سنوات ، تم توقيع اتفاقية مع جامعة البلقاء التطبيقية لبناء مصنع للألبان والأجبان ، إضافة إلى تشغيل محلب للأبقار بسعة 150 رأس ، حصل هذا المشروع على براءة ملكية من جلالة الملك بمناسبة اليوبيل الفضي ، ويتيح هذا المشروع أكثر من 25 فرصة عمل لشباب لواء الشوبك في محافظة معان.
المنتجات التي يقدمها المعمل تتجاوز 18 صنفًا ، جميعها من حليب الأبقار الطازج دون إضافة أي مواد حافظة أو زيوت مهدرجة ، وتبلغ الطاقة الإنتاجية اليومية 1500 لتر من الحليب البقري الطازج ، هذا المشروع انطلق في عام 2020، وكان السبب الرئيسي لإنشائه هو عدم وجود مصنع للألبان والأجبان في محافظات الجنوب.
تم تأسيس المصنع بسواعد أبناء لواء الشوبك ، ويُعد هذا المشروع مثالًا حيًا على كيفية استغلال الإمكانيات المحلية لخلق فرص عمل والمساهمة في تحسين الوضع الاقتصادي في المحافظة ، إضافة إلى ذلك يلعب المجتمع دورًا كبيرًا في هذا التحول .
العديد من المبادرات المحلية بدأت تظهر ، حيث يسعى بعض الشباب الباقين في المدينة إلى تأسيس مشاريع صغيرة تُلبي احتياجات السكان وتعيد إحياء الأمل ، كما أن هناك جهودًا لدعم المنتجات المحلية مثل الزراعة والحرف اليدوية التي تعتبر جزءًا من التراث المعاني ، هذه المبادرات رغم صغر حجمها ، إلا أنها تحمل في طياتها روح الإصرار والتفاؤل بأن هناك دائمًا فرصة لبداية جديدة.