أساليب تخويف الأطفال وتأثيرها على ذاكرة الشبان اللاجئين لاحقاً
ورث الخيال الشعبي الكثير من المعتقدات والأساليب الخاطئة في إخافة الأولاد للحد من شغبهم وضجيجهم في المنزل وخارجه، ورغم ما لهذه الأساليب من دور سلبي في تكوين شخصية الطفل -كما يقول علماء النفس- فإنها تظل جزءاً من الموروث الفولكلوري ومن الثقافة الشعبية السائدة التي ننتمي إليها، وأنموذجاً لدراسة علم نفس المجتمعات وطرائق تفكيرها وتنسحب هذه المؤثرات إلى مرحلة اليفاعة والشباب .
ومن هذه الأشكال تخويف الأطفال بالغول فإذا لم يخلد الطفل للنوم وأصبح مصدر إزعاج لوالدته وبخاصة في الليل تقول له "إجاك الغول" أو "إجتك الغولة" ويصورون الغول أو الغولة بأنه شيء ضخم وله أظافر طويلة وعينان بارزتان وأسنان طويلة وشعر طويل يأخذ الأطفال الأشقياء وينهش لحمهم بأظافره ويأكلهم، ويقصون على الأطفال أن " الغويلة " سمعت ابن فلان يبكي في الليل فمدت يدها الطويلة المكسوة بالشعر الأسود الطويل من النافذة والتقطت الطفل الباكي وأخذته، وعند الصباح وجده أهله بلا عينين ولا أذنين ولا قدمين.
شوحة تأكل الطيور
ولكن ما تأثير هذه الأساليب على ذاكرة الشبان السوريين الذين اكتووا بنار الحرب وعاش الكثيرون منهم بعيداً عن وطنهم، يستذكر الشاب السوري وطالب التمريض في جامعة آل البيت "فيصل الهلال" في حديثه لـ"صوت شبابي" جانباً من أساليب التخويف التي كانت تقوم بها والدته في طفولته ومنها "أبو همامو" الذي يأكل الأطفال أو أبو رجل مسلوخة وأحياناً بالخيال أو بالطيور الضخمة ويقول لـ"صوت شبابي" كان في منزلنا بمدينة حمص عندما كنت طفلاً شجرة برتقال وكانت والدتي إذا ازداد شغبي تقول لي إن على الشجرة شوحة تأكل الطيور والأطفال مما يجعلني نهباً لهذه المخاوف، وكانت العتمة –كما يقول- عاملاً في تخويف الأطفال، وكذلك البيوت المهجورة التي كان يُطلق عليها "بيت الجان " أو " الحيوانات " وربما " بيت الحطب " يُضاف إلى ذلك النواحي السمعية المتمثلة في الأصوات البعيدة كصوت الريح أو اهتزاز الشجر أو أصوات الحيوانات المخيفة وبخاصة نباح الكلاب، وكذلك بـ"البعبع" و" العو".
خرافة الغولة
والتخويف بالفئران في الصغر وبخاصة في المدارس الابتدائية من قبل المعلمات والمعلمين عقدة لازمت بعض الشبان السوريين حتى بعد أن أصبح لديهم أبناء ويقول " هاني سرور" أن معلمته في إحدى مدارس حمص عندما كان في المدرسة الابتدائية هددته وبعض رفاقه في الصف بوضعهم في "غرفة الفئران" ووضع زيت على آذانهم عندما يشاغبون أو يأتون دون كتابة وظائفهم المدرسية، وهو الأمر الذي كان له تأثيرات نفسية لسنوات لاحقة وبخاصة أثناء فترة النوم.
وبدوره روى الكاتب "محمد فتحي المقداد" الذي ينحدر من مدينة "بصرى الشام" بريف درعا لـ "صوت شبابي" أن بعض الأمهات في بلدته كن يخفن أولادهن الصغار بـ "طوير الليل "- طائر الليل– وهو الخفاش وبتشكيل خيالات أمام الفانوس القديم وبخيال الإنسان لذلك قيل في الأمثال الشعبية (هادا بيخاف من ظلو).
وأضاف محدثنا سارداً تفاصيل عاشها في طفولته ومرتبطة بتخويف الأمهات : في صغري كنت أجلس متسمّراً أمام جدتي أصغي بكل حواسي المشدودة إليها وأرهف سمعي لما ترويه من أخبار الغولة وحديدان البطل المخلّص والمغامر والذي يدفع أخطار وشرور الغولة عن المجتمع".
وأكمل محدثنا أن "تلك القصة والأخبار المخيفة, كانت تحمل بين طيّاتها المتعة والدافع الحماسي للمتابعة للحدث الطريف, مما ينعكس على نفوسنا بالخوف من الظلام والأشباح".
وتابع: "بعد أن كبرت وعيتُ حقيقة الأشياء, وخرافة الغولة, لكنني كنت أحاول رسم شكل للغولة في مخيلتي وبعد لَأْيِ وجهد, تخيّلتً صورتها على شكل مخلوق أسود طويل جداً, والشعر الطويل المتهدّل يكسو كل جسمه".
وأنهى المقداد كلامه قائلاً: "رغم عدم وجود هذه الخرافة في دنيا الواقع, لكن ترسباتها مازالت عالقة في ذهني, و من المستحيل أن يوجد لها أدنى أثر في الحقيقة, فقد قيل: " ثلاثة من المستحيل أن تجدها في الدنيا, الغول والعنقاء والخِلُّ الوفيّ".
قلق مزمن
وتظهر الدراسات أن تجارب مثل التخويف وان كان غير حقيقي أو مقصود لذاته يمكن أن تتسبب بالقلق المزمن لدى الأطفال وقد تؤدي هذه الحالات إلى تنشيط شديد ومطول لنظام استجابة الجسم للتوتر وينسحب ذلك على مرحلة المراهقة والشباب لاحقاً.
وبحسب ما جاء في بحث نشرته جامعة "هارفارد" الأمريكية عن تأثير الخوف والقلق المزمن على صحة الأطفال وقدرتهم على النمو تبين أن هذا النوع من التنشيط المزمن لنظام الإجهاد في الجسم يعطّل كفاءة دوائر الدماغ، ما يؤدي بدوره إلى مشاكل جسدية ونفسية فورية وطويلة الأمد، فدماغ الطفل مازال في مرحلة النمو وأن هذا النوع من الضغط والحمل الزائد لنظام الإجهاد يحدث خلال فترة حساسة لنمو الدماغ.
وأكدت الدراسة المذكورة أن التهديد والتخويف وتعريض الطفل لمشاعر القلق يمكن أن يقلل بشكل كبير من قدرته على التعلُّم والمشاركة والتفاعُل مع من حوله وتطوره العاطفي والشعوري في مختلف مراحله العمرية وليس فقط في طفولته.
مخاطر ونزوح
وعاش الكثير من الشبان السوريين طفولتهم في بلادهم تحت وطأة القصف والنزوح مع عائلاتهم واضطروا إلى ترك أصدقائهم وعائلاتهم وتعرضوا كذلك لمجموعة متنوعة من الصدمات المرتبطة بالحرب في سوريا، في حين شكلت رحلة الهروب ومخيمات اللاجئين مخاطر إضافية على حياتهم. كما عرّضهم النزوح وضغوط الأسرة للفقر والعداء من أقرانهم والصعوبات التعليمية وعمالة الأطفال والعنف المنزلي، وهذا ما أدى إلى ارتفاع معدلات الإكتئاب والقلق واضطراب ما بعد الصدمة "التروما" .
وقدم تقرير أولي لتقييم الاستجابة للصحة العقلية والنفسية في سوريا أجراه فيلق الطب الدولي منذ سنوات صورة واضحة عن وضع اللاجئين السوريين، بما في ذلك الأطفال والشباب في بلدان لجوئهم ومنها الأردن.
و"التروما" أو "الصدمة النفسية" -بحسب الأدبيات الطبية- هي حالة اضطراب تتسم بقلقٍ قد يُصاب بها الشخص بعد أن يشهد أو يعيش بشكل مباشر أو غير مباشر حدثاً مأساوياً أو ظرفاً قد يُهدّد حياته، مثل التعرض للموت أو التهديد بالموت ومواجهة العنف الجنسي الحقيقي أو التعرض لتهديده.
وتظهر معظم أعراض هذا الاضطراب خلال الأشهر الثلاثة التالية للحدث الصادم، إلا أنها قد تظهر في وقت متأخر أي بعد عدة سنوات من الحدث. كما حصل مع شبان سوريين كانوا أطفالاً قبل اللجوء.
مفهوم الخوف
وتعليقاً على موضوع تخويف الأطفال وتأثيراته النفسية قال د. مهند فرعون رئيس قسم التدريب/ مدرب الاختصاص النفسي في معهد العناية بصحة الاسرة أحد معاهد مؤسسة الملك حسين لـ "صوت شبابي" إن مرحلة الطفولة تعتبر من المراحل المهمة في تكوين الشخصية الإنسانية، لكون أن الطفل يبدأ باستيعاب وتثبيت السلوكيات والإستجابات بناء على النتائج التي يحصل عليها.
واستدل د. فرعون على ذلك بأن الطفل عندما يقوم بالصراخ فإنه يحصل على ما يريد، وقد يستخدم هذا الأسلوب طيلة فترة حياته بما فيها فترة الشباب، خاصة إذا استمر الحصول على النتائج المرجوة باستخدام هذا الأسلوب.
واستدرك محدثنا أن هناك أنماطاً متعددة من التنشئة الأسرية لدى الأطفال ومنها الدلال الزائد المرتبط بإعطاء الطفل كل ما يريد وهذا يجعل الطفل شخصاً معتمداً على الآخرين وأنانياً في شخصيته.
وتابع: "هناك أيضاً التنشئة الديموقراطية التي تتيح للطفل الحصول على مساحات للتعبير عن ذاته وهذه –حسب قوله- من طرق التنشئة السليمة.
وألمح د. فرعون إلى أن الطفل يدرك المواقف بطريقة تختلف عن الشخص البالغ العاقل، واستدرك : "إذا كان هناك استجابات مرتبطة بالخوف عند الأهل بشكل مستمر فإنه سيعتقد بالضرورة أن هذه هي الاستجابة التي سيحصل عليها، وإذا كان الأهل يستخدمون التخويف بشكل دائم ضد طفلهم فبعد فترة سيثبّت هذا الطفل أن مفهوم الخوف هو مفهوم أساسي في حياتهم، وبالتالي سيعمم هذا السلوك طيلة فترة حياته، وبخاصة فترة الشباب وستتولد لديه شخصية قلقة.
منبهات الخطر
ونوّه د. فرعون إلى أن تخويف الأطفال بما يسمى الغول أو البعبع يجعل الأطفال يشعرون باستمرار بالقلق ويعتقد أن الوضع الطبيعي لهذه المعايشة أن يكون في هذه المرحلة، وعندما يتخيل بإدراكه أن هناك كائناً أو مخلوقاً عجيباً يمكن أن يؤذيه فهذا يحفّز استجابة الخطر بالنسبة له، من خلال زيادة الانتباه والترقب والاستثارة الجسدية".
واستدرك محدثنا: "عندما يستمر هذا الأمر لمدة طويلة قد يتكيف جسم الطفل ليستخدم منبهات الخطر بشكل مستمر، وهذا يجعل لديه شخصية قلقة حتى مابعد البلوغ، وقد لا يتذكر ما هو سبب القلق في شبابه ولكنه اعتاد على هذا الشعور.
وحول صدمات الحرب وارتباطها بشخصية الشاب اللاجىء أوضح د. فرعون أن مدى ادراك هذا الشاب في مرحلة الطفولة لموقف ما وخاصة إذا كان مهدداً للحياة سيؤثر بالتأكيد على التوازن الكيميائي في الدماغ، وبالتالي سيغيّر من استجابات الجسم للمواقف المتعددة ، ويمكن للجسم حيال أي صوت أن يتنبه بأن هناك خطراً شديداً يتهدّده، ويصبح هناك تالياً مبالغة في ردة فعل هذا الجسم، ويتولد لديه ما يُعرف بـ "اضطراب الصدمة" وهو ليس محصوراً بالكبار فقط ، بل قد يصاب به الأطفال أيضاً ، وهو من الإضطرابات المرتبطة بالضغط النفسي الشديد التي قد تستمر لفترات طويلة وتمتد لسنوات.
وأردف د. فرعون أن اضطراب ما بعد الصدمة قد يولد لدى الشباب أعرضاً كثيرة ومنها الكوابيس والأحلام، والومضات الإرتجاعية – فلاش باك- بالإضافة إلى تليف المزاج والعدوانية وزيادة في الترقب والتأهب وتوقع الخطر بشكل مستمر والنظرة السلبية للشخص نفسه وللآخرين وصولاً لظهور بعض الأعراض الجسدية كالارتجاف والتعرق وبرودة الأطراف .