أحلام الشباب السوريين في الأردن بعضها تحقق والآخر في مهب الريح
في ظل انسداد الأفق، وموت الأحلام والأمنيات،وظروف العيش الصعبة، اضطر الكثير من الشبان السوريين للتخلي عن أحلامهم بالدراسة، والتعلم وتحقيق الذات والعمل في أي مكان أو مهنة بأجور قليلة، وساعات عمل طويلة لمساعدة ذويهم في التغلّب على مصاعب ومشاقّ الحياة لتتبدد هذه الأحلام وتصبح أوراقاً في مهب الريح .
منذ أوائل عام 2011، فرَّ ملايين الأطفال السوريين من العنف المدمر الناجم عن الحرب التي دارت رحاها لأكثر من 10 سنوات ، والأطفال الذين كانوا في يوم من الأيام على طريق أن يصبحوا أطباء أو مهندسين أو مدرسين أو علماء، جُرِّدوا فجأة من الفرص التعليمية. وأصبحت حياتهم الآن تتسم بعدم اليقين الغامض في حين تحاول منظمات الإغاثة توفير مستقبلهم. ولكن قبل حالة عدم اليقين والحرب، كانت هناك أحلام.
وأمضى الشباب السوري أكثر من نصف حياتهم وسط الصراع والعنف والأحلام المحطمة. ويريد جميع المراهقين أن يسمعهم الآخرون ويستمعون إليهم ويأخذوا على محمل الجد، ولكن هذا الأمر أكثر أهمية بالنسبة لهؤلاء الشباب. فقد أُجبروا على النضوج بسرعة كبيرة، وعاش العديد منهم حياتهم بأكملها قبل أن يبلغوا سن التاسعة عشرة.
وقبل اندلاع الحرب الكارثية في بلادهم عام 2011، كان الشباب السوريون من بين الأكثر تعليماً في منطقة الشرق الأوسط، حيث حققت سوريا معدل التحاق بالتعليم الابتدائي شبه الشامل بنسبة 97%، ومعدل إكمال التعليم الثانوي بنسبة 74%، معدلات معرفة القراءة والكتابة تزيد عن 93% لكل من الإناث والذكور.
ولكن الحرب غيّرت كل ذلك. فاليوم أصبح ما يقرب من ثلث الأطفال في سن الدراسة في سوريا (من سن 5 إلى 17 عاماً) خارج المدرسة، مع وجود 1.3 مليون طفل إضافي معرضين لخطر التسرب.
وفيما انقطع كثيرون عن دراستهم ووضعوا حداً لأحلامهم المهنية لأنها لم تعد الأولوية، خاصة إذا كان عليهم إعالة أسرهم، لم يتخل آخرون عن أحلامهم وتمكنوا في مواطن لجوئهم من تحقيق الكثير من النجاح والتفوق رغم الصعوبات والعراقيل الجمة.
ومن هؤلاء الشباب الصحفية السورية "أنوار العرفي " ابنة مدينة حمص التي لم تمنعها ظروف الحرب ومعاناة التهجير واللجوء من الوصول إلى حلمها المنشود
وشق طريق النجاح لتحصل بعد سنوات من الجهد والمثابرة على المرتبة الأولى بين أقرانها الطلاب في قسم الصحافة بجامعة اليرموك الأردنية بمعدل 96% وتقدير ممتاز.
وروت "أنوار" ابنة حي "بابا عمرو" غرب حمص أنها مع بداية الحرب كانت تعلّم الأطفال المتسربين من المدارس القراءة والكتابة تحت ظروف القصف والحصار، ومع ازدياد الأوضاع سوءاً اضطرت للخروج من حمص واللجوء إلى الأردن مع أشقائها السبع ولم تتمكن من الحصول على أوراقها الثبوتية لإكمال دراستها الجامعية.
وتروي الإعلامية الشابة لـ"صوت شبابي" أنها أمضت أسبوعاً كاملاً على الحدود السورية الأردنية في ظروف الأمطار والبرد حتى تمكنت من دخول مخيم "الزعتري" الذي بقيت فيه مع أشقائها فترة قبل الخروج منه لتسكن في مدينة "المفرق".
وعملت "أنوار" على إعالة أشقائها السبع بمفردها نظراً لوفاة والدتها واضطرار والدها للنزوح إلى منطقة "إعزاز" بريف حلب وآلت على نفسها -كما تقول- تعويضهم عن غياب الأب والأم وتعليمهم ورعايتهم مع أختها الأكبر منها، وتقومان بإعطاء دروس خصوصية بسبب سوء وضعهما المادي.
ورغم كل الظروف الصعبة التي مرت بها أنوار تمكنت من الحصول على شهادة البكالوريوس في الإعلام بمعدل لم يحصل عليه أي طالب من قبلها
بعد انتقالها إلى قطر وبعد تعب مضن وجهد لمدة عامين أعلن في نيسان 2022 عن تخرجها رسميًّا من قسم الصحافة في معهد الدوحة للدراسات العليا، بمعدّل امتياز وبمرتبة الشرف، وذلك بعد مناقشة رسالة الماجستير بمعدل ٩٨ متميز .
مدونة أبدأ
ومثل أنوار تمكّن الشاب السوري -ياسر الحراكي- الذي يعيش في الأردن من أن يحجز لنفسه مكاناً بارزا كواحد من أشهر المدونين التقنيين على المستوى العربي، إذ حصل الشاب على دبلوم جامعة "كامبردج" البريطانية في مهارات "IT" على المستوى المتقدم بسبعة برامج، ثم نال شهادة "MCP" من "مايكروسوفت" الأميركية كمحترف معتمد من قبلها، ثم أتبعها بشهادة "MCSA" كمساعد حلول أول معتمد أيضا من "مايكروسوفت" الأميركية، وكل هذه النجاحات حققها الشاب المتحدّر من مدينة "معرة النعمان" 1999 خلال دراسته في المرحلة الثانوية قبل دخوله إلى الجامعة.
وأنشأ مدونة باسم "مدونة أبدأ" التي باتت تتصدر اليوم قائمة المدونات التقنية العربية من حيث استقطابها للزوار من مختلف الدول العربية وعدد زوارها ومتابعيها ونشاطها وجودة محتواها الذي تقدمه.
وبرز شغف واهتمام "الحراكي" مواليد "معرة النعمان" بالتقنية والبرمجيات منذ صغره، وفي سن اليفاعة بدأ اهتمامه بالويب وانغمس بعالم المدونات، وبدأ –كما يقول يشعر بضرورة طرح مدونة تقنية فريدة من نوعها للشباب العربي تقدم محتوى حقيقيا بعيدا عن الأهداف المادية.
ومع بداية الحرب وامتداد رقعتها إلى منطقة سكنه سافر التقني الشاب إلى تركيا ليستقر في مدينة "مرسين"، وهناك استكمل حياته ومسيرته التعليمية ليحصل على الشهادة الإعدادية من مدرسة "أبناء الحياة السورية" على المنهج السوري، وبدأ بتأسيس مدونة عام 2013، ولم يكن قد تجاوز 14 من عمره ليختار لها اسم "ابدأ" لأنه يحمل معنى قيماً في طياته ويدل على الحماس والشغف.
وتوج الحراكي تفوقه ونجاحته في الأردن التي انتقل إليها لدراسة هندسة الطاقة، وانضم إلى أكاديمية "CISCO" الأم في المملكة الهاشمية والمنسقة لأكثر من 135 أكاديمية على أراضيها، ليكون بذلك أصغر أفرادها سنًا، إذ لا تقبل الأكاديمية من لم ينته من سنتين جامعيتين على الأقل، غير أن فرع منظمة "IEEE" الرائدة عالميًا في جامعة الأميرة "سمية بنت الحسن" للتكنولوجيا، استقبل "الحراكي" لديه أيضًا ليعمل ضمن فريق الفرع، ويعتبر فرع "IEEE PSUT" أحد الفروع منظمة "IEEE" الرائدة في المملكة الهاشمية والقارات الثلاث المعروفة إداريا عند المنظمة باسم "المنطقة الثامنة".
التخلي عن الأحلام
وتؤثر تجارب الصدمات والخسارة التي يعيشها الشباب السوري على كل جانب من جوانب حياتهم، بدءاً من الأدوار التي يتولونها في أسرهم وحتى الأحلام التي تخلوا عنها.
محمد ذو السنوات الـ 22 واحد من هؤلاء الشباب إذ اصطدم بظروف الواقع ووطأة اللجوء، ولم يتمكن من إكمال تعليمه بعد التوجيهي بل التحق بعمل في أحد مقاهي المفرق ليؤمن قوت عائلته بعد أن فقد والده عمله ويحصل دنانير قليلة مقابل عمله المضني الطويل .
ويبدو واضحاً في ردود أفعال محمد الذي غادر مدينة حمص إلى المفرق مع عائلته لاجئاً ذات يوم من عام 2012 ولم يكن قد تجاوز الـ 12 من عمره شعوره الفادح بالخسارة وعدم تحقيق أحلامه، يقول "لقد انكسرت أحلامي وتهاوت أمنياتي بسبب ظروف الحياة واللجوء، ولم يعد هناك ما أسعى لتحقيقه وأفكر في الهجرة إلى أوروبا من خلال قنوات غير شرعية، ولكن حتى هذا الأمر غير ممكن فمثل هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر مكلفة جداً وليس بمقدور عائلتي تأمينها.
والتقط الروائي والكاتب السوري "محمد فتحي مقداد" طرف الحديث ليصف الحرب بأنها جنونٌ وفناءٌ، خرابٌ ودمارٌ، دموعٌ وأحزانٌ، تشريدٌ وضياعٌ، كل شيء يبعث على اليأس والإحباط، تموت الفرحة في عيون الأطفال وتنطفئ بهجة الحياة في قلوب البشر وبالذات الشباب منهم.
وأضاف أن "ما حدث في سوريا من حرب طويلة، جاءت مُخرجاتها عظيمة هائلة المآسي. والشباب السوريّ كجزء حيويّ مُتأثّر، هما نوعان: هناك المولود في بلده وصار لاجئًا، يحمل معه ذكرياته وفي قلبه ونفسه ارتباط بداره وحرارته وقريته.
والنوع الثاني-بحسب مقداد- هم المواليد في بلاد اللجوء. وهؤلاء انتماؤهم للمكان الذي ولدوا به، ولا روابط تربطهم ببلدهم وموطنهم الأساسي.
وتمخضت هذه الظروف عن الهجرة غير الشرعيّة ومخاطرها العديدة في قوارب الموت، الاستغلال تحت الضغوطات النفسيّة، الهروب إلى المجهول أملًا بظروف حياة أفضل.