مناجاة إنسانية بين قامتين أدبيتين
اقتحم كتاب «رسائلنا ليست مكاتيب» ذاكرتي بقسوة، ردّني إلى كتابات مؤنس الرزاز في الاعترافات، وأعادني إلى وقائع عايشتها، فقد تعرفت إلى مؤنس في السنوات الأخيرة من حياته، واقتربت منه في صداقة ودودة عميقة، وسمحت لنفسي في أكثر من مناسبة أن أعاتبه على ذلك الارتداد العنيف الذي يمارسه حين يعيش زمنه الماضي، زمن أحلامه، مغلباً إياه على الواقع.
كان مؤنس عندها ملء السمع والبصر، رجلاً وسيماً له هيبته من كونه مستشار وزارة الثقافة، وأحد أبرز المثقفين العمّانيين، وريث مجد عائلي سياسي صُنع بالكفاح، كان نجماً اجتماعياً إذا صح التعبير، يمثل الصف الأول من المبدعين، كان روائياً مميزاً يُنتج بغزارة ويُحتفى بنتاجه بترحيب، لكن هذه المنحة العمّانية التي أُسبغت عليه لم تتمكن من إسعاده، فقد مارست الكآبة دوراً لئيماً عليه وهي تضربه مرة بعد أخرى. لم تخدعني تلك الصورة البهية للنجم الأديب اللامع، بدا لي أشبه ما يكون بحوتٍ خرج من الماء لا ليتشمس ولكن لانتظار نهايته.
في تلك المرحلة لم يكن مؤنس يُكثر الحديث عن الأدب، لم يكن مهتماً بالحوار في النظريات الأدبية، رغم اجتماعنا به أنا ونخبة من الكتاب مساء كل أحد، كان يعرج دائماً على الخديعة السياسية التي عرفها مرات عديدة في تاريخ أسرته، وأتعجب كيف كانت تلك الوقائع ما تزال تحفر في جرحه القديم، لماذا لم يتجاوزها كما فعل سواه من المناضلين السياسين الذين احترفوا الأدب؟ لكني وقتها لم أكن عرفت «مؤنس» إلا في حقبة قصيرة لا تزيد عن ست سنوات، أي بعد عودتي من الخليج، وكل ما سمعته وعرفته عن تاريخه الشخصي كان من ذاكرته ونصوصه الإبداعية التي تشبهه تماماً. وكان قد أشار أكثر من مرة إلى العلاقة الخاصة التي ربطته بإلياس فركوح، فأتعجب، لأني لم ألتقِ بإلياس عنده في بيته أو مكتبه، وأسأل في سري: ماذا حدث بين المبدعَين الصديقَين حتى لم يعودا يلتقيان كما يجب على الأقل وهما في مدينة صغيرة واحدة؟
بعد رحيل مؤنس تجمّع أصدقاؤه كما أحجار في لوحة فسيفساء ضخمة، بدا لي حكاية عمّانية عربية تستحق أن تُحكى، لكن معظم ما تركه من أوراق ظلت حبيسة الأدراج، حتى نشر إلياس فركوح كتاب «رسائلنا ليست مكاتيب»، فأعاد لنا نتفاً من الحكاية، لعلها أكثر الأجزاء حرارة ووهجاً، ذلك أنها تمثل مرحلة شباب مؤنس، حيث سنراه بعيون جديدة، ليس ذلك الرجل الساخر الموجع الذي بالكاد يشعر بنشوة نجوميته، بل الشاب المقبل على الحياة يغترف منها بنهم، المسلّح بإيمان عجائبي، هو سمة الإيمان لشباب ذلك الزمن، إيمان بالوطن والإنسان وبالقدرة على التغيير، الشباب الذي يحلم بعالم جديد يظن أنه يساهم في تشكيله، حتى وهو يتلقى دروس السياسة الموجعة متنقلاً بين مدن الأحلام التي كانتها دمشق أولاً ثم بغداد، ولا شك أن تجربته الخاصة عرضت مجمل هذه الأحلام إلى الانكسار مرات، ربما من هنا جاءت حساسيته الفائقة اتجاه الانحرافات الطفيفة في الدفة، وتعكس رسائله تلك المخاوف على شكل أحزان تراوده حين لا يكون العالم مثلما ظنه تماماً.
قد يذهب بعضهم إلى خصوصية تلك الرسائل ويعتب على إلياس فركوح أن فرَّط بها، ولكني بعد أن قرأتها أقول: كنا سنعتب لو أن إلياس احتفظ بتلك الرسائل لنفسه، أولاً لكونها مرآة صادقة عن العصر، ثم لكونها نصوصاً أدبية رفيعة المستوى، ومؤنس الكاتب ليس ملك صديقه ولا نفسه، ومن حق القارئ أن يقع على تلك الكنوز، فيتعلم ويعرف. أما غياب رسائل إلياس التي كتبها رداً على تلك الرسائل في تلك الحقبة فمفهوم من ناحية أن مؤنس انتقل بين مدن كثيرة، وأضاع أوراقاً أكثر من بينها رسائل صديقه، ولكن إلياس عمد إلى حيلة إبداعية في تقديري أضفت أهمية على المعنى العميق لتلك الرسائل، حين أخذ على عاتقه الرد على الرسائل في زمن آخر ووعي مختلف، قطعاً لم تكن رسائل إلياس القديمة مثل هذه، ولا يمثل هذا في تقديري خللاً، لأن المطلع على الرسائل في الكتاب ليس بصدد مقارنة لغوية أو معرفية أو فكرية، إذ تقاربت هذه الأمور في زمانها، فإن إلياس في كتابته اليوم يتمتع بأفضلية الوعي والتجربة، ولكنه يمثل عيناً فاحصة على زمن ماضٍ، لا عيناً نقدية على مؤنس كشخص ومبدع، إنه يحاكم المرحلة والأفكار، فينداح حزن مؤنس الخفي على حزن إلياس الظاهر في نصوصه الحديثه.
تشي رسائل مؤنس برجل ذي ثقافة متنوعة وعميقة، وعطش مستمر إلى تثقيف نفسه في قراءات جادة لأبرز الأعلام الفكرية والأدبية آنذاك، ونجده قد تعامل مع هذه القامات بثقة الشاب الذي يمتلك رؤيا للحياة ووجهة نظر إلى حد تفكيك هذه الخطابات ساخراً مرة وجاداً مرات، وقد أتاح له موقعه العائلي وتنقلاته العلمية أو العلاجية ومزاجه ووعيه أن ينفتح على تجارب عالمية، وفي تلك النصوص «الرسائل» آراء نقدية على درجة عالية من الأهمية تتناول أعمال كتّاب مكرّسين.
في لقاءاتنا الكثيرة لم أسمع «مؤنس» يبدى رأياً نقدياً حول كتاب، ربما تفلت منه كلمة إعجاب عابرة، أو سخرية صريحة بلا تفاصيل، كأنه غير معني بتكوين رأي أو وجهة نظر عما يقرأ، كأنه ليس هو هذا الذي يكتب رسالته حول كتاب أو مقال فيناقش ويبدي الرأي ويدفع الطرف الآخر إلى الحوار، مما يجعلني أسأل: ماذا حدث لمؤنس ما بين شبابه وكهولته؟ هل وقعت السكينة العمانية على الرجل سكوناً؟ هل ترك التجذيف عكس التيار لأنه تعب؟ هكذا ببساطة، بل، هل نحن جميعاً نشبه الشباب المتوهجين الذين كانوا في أجسادنا الفتية في الماضي؟ أم إن الضربات القاسية التي وقعت على عائلة مؤنس جعلته ذلك الحائر؟
عرفتُ حيرة مؤنس في أوراقه التي لم تُنشر بعد («اعترافات جوانية» و»اعترافات روائي»)، ولكني في الرسائل أرى قطَعاً مختلفاً من حياته، حيث ما يزال متوهجاً بالأمل، وحيث هو قادر على صنع علاقات صداقة مميزة ومختلفة. أين يمكن أن نجد اليوم الصديق الذي نبوح له بما في أعماق الروح، كما نناقش معه مقالاً أو كتاباً، ونضحك ونبكي على كتفه؟ كما هي حال تلك الصداقة المغايرة التي جمعت «إلياس» و»مؤنس».
أما رسائل الياس، فهي اعترافات بتلك الثقوب التي كانت تنخر جسد القارب وهو يمخر عباب الأحلام، وأعني هنا المسيرة السياسية، حيث تقدم رسائله إطلالة واعية بعد حصيلة التجارب، وإن جنح الكاتب أحياناً إلى التوغل في تفسير الذات، وهذا اتجاه مقبول ومعمول به في مثل تلك الكتابات الوجدانية، قد يفيض حيناً وقد يحجم حيناً، إلا أن الدفاع عن آرائه وحقه في نشر الرسائل والاختلاف مع مؤنس، وهي دفاعات متفرقة تأتي في متن النصوص صريحة أو خفية، مما لا أظنه مهماً، فما الذي يضيفه قبول القارئ بالكتاب أو رفضه له أو تشكيكه بدوافعه، أعتقد أن هذه الأمور كلها لا معنى لها، والمعنى الذي يبقى أصيلاً هو أهمية تلك النصوص، وكونها شهادة على العصر، ومرآة لروح جيل، وعاكسة لغوية لمبدعين يتباريان في مضمار الأدب والفكر.
الردود التي كتبها إلياس فركوح بعد مرور عقود على رسائل مؤنس الرزاز مكّنته من صنع فضاء حول المرحلة، تقاطعت ذكرياته الشخصية مع الذاكرة العامة للمرحلة، فوصف وفسر ما حدث له ولصديقه، واشتبكت السيرة الشخصية بسيرة الوطن، كأن كتاباته تفسير لما حدث من تغير في الأمزجة وانقلابات في الأفكار، وفي هذا الجانب بالتحديد يسجل إلياس شهادة واعية متأخرة حول العصر الذي صنع بدايات الوعي السياسي والثقافي لجيل كامل، في حين كانت رسائل مؤنس تسجل تلك البدايات في زمنها بعفوية بعيدة عن التدخل العاقل المتأمل، وإن لم تخلُ رسائل مؤنس من التأمل، ولكنه تأمل الباحث عن الحقيقة لا تأمل الذي وضع يده على الحقيقة. وفي الكتابتين هناك مشهد لزمان يبدو اليوم وكأنه ما كان، ربما بالنسبة للجيل الذي لم يعرف تلك الأحداث ولم يقرأ تاريخ بلادنا بصورة دقيقة خارج كتب المناهج المدرسية.
لقد منحَنا نشر هذه الرسائل حقنا كقراء في الاطلاع على التجربة الكاملة، المرة الحلوة، الإبداعية والنقدية والحياتية، فالمبدع مشروع رمى بخصوصيته وراء ظهره ليكون للناس، القارئ للرسائل لن يعثر على تفصيل صغير فيه خصوصية جارحة لأحد، وقد عرضَ الكتاب الصور الأصلية للرسائل، مما يعني عدم اجتزاء شيء منها، ومع ذلك ظلت الرسائل أشبه بمقالات نقدية وحوارات فكرية ذات فائدة، حوارات نتمنى في يومنا هذا لو أنها تقوم بين المبدعين والمثقفين على الساحة بعد أن صاروا جزراً مشتتة لا يجمعها جامع.
كان لدى مؤنس وإلياس قواسم كثيرة جمعتهما، والأهم الذي ظهر في رسائل مؤنس أكثر مما برز في رسائل إلياس، هو تلك المحبة الفائضة، ولعلي بحكم معرفة معقولة ولا أدعي عمقها بهما معاً أقول: إن هذا الاندفاع العاطفي والحرارة في المشاعر سمة من سمات مؤنس وإن كان يتبدد بالسأم أو الكآبة التي تنشب في روحه بين الحين والآخر، لكنه مؤنس الذي لم يكن يخط رسائله على أنها مجرد مكاتيب، وإنما مناجاة إنسانية رفيعة. بينما ينصاع إلياس في الردود التي كتبها متأخرة لطبيعته الخجولة المتحفّظة بعض الشيء إزاء التفاصيل الوجدانية، وطبيعته في التصادم إزاء التفاصيل الفكرية والسياسية، إذ يعمل عقله أكثر من عاطفته ويميل إلى رسم مشهد تلك الحقبة والشهادة عليها ومحاسبتها من الناحية السياسية والفكرية على الأقل.
مع ذلك تظل الرسائل، سواء الحقيقية منها التي أُنجزت في زمانها بقلم مؤنس، أو تلك التي استدعاها هاجس إلياس لينجز تقييمه للمرحلة ويوفي بحق صاحبه بنشر ما كتب، تظل تلك الرسائل مرسومة بالود الذي كان يمثل علاقة الصديقين، وليس سراً أن «مؤنس» (لو أمهله العمر) كان سيبوح في اعترافاته بما هو أكثر خصوصية من كل ما جاء في الرسائل. ما يجعل الحديث عن خصوصية الرسائل وعدم أحقية طرف بنشرها حديثاً لا معنى له، فنحن أمام قامتين أدبيتين وهبا كتابتهما أساساً للناس، مما يجعل منظر الأصدقاء الذين يتجاذبون قميص مؤنس ساذجاً، فمؤنس كان للجميع.