محمد طمّليه.. كتابة ساخرة لا يمكن أن تكون وسطية

محمد طمّليه.. كتابة ساخرة لا يمكن أن تكون وسطية
الرابط المختصر

لم يكن محمد طمّليه صديقاً شخصياً لي. كان اللقاء عابراً في منتصف التسعينيات، وبعدها هاجرتُ إلى قطر. في برد إحدى "المربعنيات" كانت فعالية ثقافية لا أذكرها، في "المركز الثقافي الملكي". جئت مرتدياً معطف سلاح الجو الأردني (تسمّى "فلدة")، ظللتُ أتقي به البرد بعد انتهاء خدمتي في الجيش.

 

 

في البهو، حيث الفعالية الأهم هي استغابة الفعالية التي جئنا من أجلها بوصفها - كالعادة - مخيبة لآمالنا. مددتُ يدي إلى جيبة المعطف العسكري لأُخرج قلماً. ومن المفترض بحسب عاداتنا وتقاليدنا المحترمة أن يمدّ الكاتب المحترم يده في جيبته فيُخرج قلماً. لكن بدل القلم خرجتُ في يدي لهّاية ابني حازم الذي كان عمره أشهراً.

 

 

من أين أتت؟ وكيف اندسّت في معطف شخص يبحث عن قلمه في مركز ثقافي وملكي؟ لا أعلم. وانفجر الجميع ضاحكين حين علّق طمّليه مشيراً إلى اللهاية، تعليقاً يصعب إيراده هنا.

 

 

مات محمد طمّليه (1957 - 2008) بسرطان اللسان. وقبل يومين كانت الذكرى العاشرة لرحيله. وسأقول ما يلي: إن طمّليه قاص موهوب أذعنت كتابته القصصية لصالح ماكينة الكتابة الصحافية الساخرة. وفي هذا يمكن أن نتمهّل قليلاً. فالكاتب لمع نجمه في القصة. وحين اشتغل في الصحافة آثر أن يصرف من جيبه القصصي على أعمدته الصحافية، المتهكّمة من ذاته ومن محيطه، والمتألّمة والمتطرّفة في جملها القصيرة، وبالنتيجة فإن نصوصه دائماً قصيرة لا يزيد واحدها عن 200 كلمة.

شهرة الكاتب الساخر باتت مغرية، وتوفر الخبزة والخمر، ومغرية أكثر بسبب ريادته التي جعلته فاتحاً في بيئة صحافية وقور، وجدت فجأة في مطلع الثمانينيات شاباً يتسرمح بين أعمدة الصحافة (كان محمود درويش يسميها التوابيت) ببنطلون جينز و"بوط" رياضة. لا يمكن للمادة الساخرة أن تكون وسطية. الوسطية يمكن أن تجعلك وزير مالية أو مأذوناً شرعياً.

 

 

الذين جايلوا طمّليه أو أتوا من بعده، يدركون في اللاوعي أدوات الكتابة الساخرة. وإدراك الأدوات أغرى العديدين بدخول الكتابة الصحافية الساخرة في الأردن، ونجحوا بالفعل وكانوا مثابرين في حفظ منوال طمّليه عن غيب دون أن يستعيروا الموهبة. الموهبة منحة سماوية لا يمكن لأي مثابرة أن تخلقها. وظيفة المثابرة فقط أن تحمي الموهبة.

 

 

لهذا كان طمّليه يتحفّظ على تسميته كاتباً ساخراً، لالتباس التقييم. فقد رأى - ورأينا معه - أن الكتابة الساخرة نادٍ واسع سيق إليه أريستوفان اليوناني والجاحظ العربي وبوشكين الروسي وغابرييل غارسيا ماركيز الكولومبي والنطيحة والمتردّية وما أكل السبع. كلهم جميعاً في ناد واحد، هذا مع العلم أن الرجل مات قبل اندلاع الفيسبوك ورصفائه.

 

 

أكثر مفردتين تكرّرتا في نصوص طمّليه هما: "اللعنة" و"زمان". واللعبة الأثيرة لديه هي المقابلة بين كوابيس الشخص الذي يعيش في هامش المدينة و "زمان" حين كان صبياً، أو حين يمكنه أن "يتصبين" ويتمرّد على مسطرة العرف، فيؤخذ على محمل الإعجاب من نموذجه "المتهتّك" ولا يؤخذ على محمل الجد.

لا تأتي سردية طمّليه إلا مرسومة بريشة عريضة للشخص المشاغب البذيء النبيل اليساري الأشعث والطفل الذي لا يعثر على حذائه.

 

والصحافة الساخرة هي التي جعلته نجماً، وهورضي باللعبة الشقية المربحة، معتبراً أن ميزته دائماً بأنه برشح جبينه يصنع نفسه، إضافة إلى أنه قارئ شغوف بالأدب الروسي خصوصاً ديستويفسكي وتشيخوف، بينما الآخرون شغوفون بما أنتجه هو في الصحافة.

 

 

كان يرى ينابيعه أبعد، حتى وهو يكتب مقالته عن الحلاق شكري الذي كان يشتمه هو وأقرانه لأن القمل يسقط من رؤوسهم على ملاءته البيضاء.

 

 

"

"
لم تحتك تجربة طمّليه بكتابة ساخرة مختلفة، والأهم أنها لم تحتك بقراءة نقدية ملائمة. أقصد بـ"ملائمة" تلك التي تبتعد عن شخصه. لماذا؟ لأن السرد الحكائي عن محمد طمّليه، الشخص الخارج عن المألوف، يكفي لفيلم روائي ممتاز. وهذا كان منافساً لمحمد الكاتب ومتفوّقاً عليه في أحيان.

 

 

لا أعرف كاتباً أردنياً تُسرَد عنه الحكايات أكثر من طمّليه. كل من يعرفه يمسك طرفاً من الحكاية، ويزيد عليها وينقص، حتى يصدق فيه ما قيل "إن الأسطورة ليست ما فعل الرجل، إنما ما تخيلنا أنه فعله".

 

 

 

ليس كل ما كتبه طمّليه في المقالة الساخرة ذا مستوى جيد. هذا أمر طبيعي ومتوقع لأي كاتب. وأحسب أن حياة كاتبنا كانت أكثر ثراء، وأكثر إغراء لاستنزافها من المتحمسين غير الأوغاد (هناك قصص شهيرة للكاتب بعنوان "المتحمسون الأوغاد") الذين ينشرون كل شيء كتَبه الراحل بعجره وبجره.

 

 

لا أعرف من الذي ارتكب بعد رحيله عنوان كتاب "على سرير الشفاه". إن الفارق بين لعبة "الحياء/ الحياد" في "نصوص خادشة للحياد العام" و "سرير الشفاه" فارق موهبة.

يصف أحد الأصدقاء كاتبنا بأنه أطلق رصاصة مرّة واحدة واخترقت السقف. حدث هذا في بداية الثمانينيات. وما زلنا حتى اليوم نتذكر الذي أطلق الطلقة وادعى أنه "شاهد العيان".

صاحب الطلقة الذي لم يسع للبرهنة على شيء ولم يكن حريصاً على إقناعك بوجهة نظره، وإنما "شرشحة" ما تعتقد أنه راسخ إلى الأبد.

تجاذبات القصّة والصحافة

برز محمّد طمليه، الذي وُلد في قرية أبو ترابة، قرب الكرك جنوب الأردن، لأسرة تعود جذورها إلى قرية عنابة بقضاء الرملة في فلسطين، بكتابته الساخرة التي تجمع بين الأسلوبَين الصحافي والأدبي. صدرت له مجموعات قصصية؛ هي: "جولة العرق (1980)، و"الخيبة" (1981)، و"ملاحظات حول قضية أساسية"، و"المتحمّسون الأوغاد" (1986)، وكتاب مشترك مع رسام الكاريكاتير عماد حجاج بعنوان "يحدث لي دون سائر الناس" (2004).

أضف تعليقك