ليوناردو بادورا: رواية عن المصير غير المتكافئ

لقد بدأ اليوم عكراً بالنسبة لأديلا، الشّابة النّيويوركيّة من أصول كوبيّة. هذا الصّباح استقبلت مكالمة أمّها الغاضبة منها منذ أكثر من عام لأنها لم تنتقل إلى ميامي فحسب، بل تعيش مع ماركوس، الشّاب الهافانيّ الذي وصل مؤخّراً إلى الولايات المتّحدة واستطاع بجاذبيته احتلال قلب أديلا بالكامل، إلا أنّ والدتها لا تريد أن تقبل هذه العلاقة بسبب أصوله. بسحره، راح ماركوس يروي لأديلا حكايا الطّفولة مع مجموعة من الأصدقاء في الجزيرة الكوبيّة، حيث كانوا يطلقون على أنفسهم تسمية "الشلّة"، كاشفاً لها إحدى الصّور التي التقطوها لأنفسهم في آخر غداء في كوبا، لترى أديلا، التي كانت على ثقة تامّة أنَّ اليوم سيكون عكراً بالكامل، وجود أحد أفراد عائلتها في الصّورة التي عمرها أكثر من خمسة وعشرين عاماً. بابُ الهاوية فُتح على مصراعيه ومن الصّعب إغلاقه بعد الآن.

"مثلَ غبارٍ في الهواء" هو عنوان الرّواية الجديدة للروائي الكوبي ليوناردو بادورا، والتي صدرت مؤخراً عن دار "Tusquetes" (أغسطس، 2020)، وتروي قصّة مجموعة من الأصدقاء، "الشلّة"، الذين نجوا من مصير المنفى والشتات، في برشلونة، في أقصى شمال غرب الولايات المتحدة، في مدريد، بورتوريكو، وبوينس آيرس. ماذا حلَّ بهم وهل ظلّوا أصدقاء؟ ما مصير من غادر ومن قرّر البقاء؟ هل غيّرهم الزّمن؟ وهل سيعيدهم مرةً ذلك الشعور المغناطيسي بالانتماء، أم أن حياتهم تبعثرت تماماً كمثل غبار في الهواء؟

يبدأ بادورا في الإجابة عن هذه الأسئلة انطلاقاً من العام 1990، عندما تفجّرت الأزمة الكبرى النّاجمة عن سقوط المعسكر الاشتراكي في كوبا، وصولاً إلى العام 2016 والزيارة التّاريخيّة للرئيس الأميركي باراك أوباما إلى الجزيرة. ستة وعشرون عاماً يسرد خلالها الرّوائي الكوبي المنفى والشتات، وهو موضوع لطالما تعامل معه، لا سيّما في عمله "رواية حياتي" (2002)، إلا أنّه اليوم يحبك مصير شلّة كوبيّين مع ترنيمة الصّداقة وخيوط الحبّ الخفيّة، الولاءات القديمة، وشعور الانتماء والبقاء. 

وبطبيعة الحال، ستكون الصّداقة هي الرابط التي يجمع أواصر شلّة شباب متنوّعة اجتماعياً، مؤلَّفة من أطباء ومهندسين وموظّفين وفنّانين وكتّاب، مختلفين في ميولهم، إضافة إلى أشخاص من أصول متواضعة وحّدتهم صداقة تأسّست على كوبا ثوريّة شاركوا فيها أحلامهم وتجاربهم منذ أن كانوا مراهقين، ولكن مع مرور الوقت وتغيُّر المشهد السّياسي، لا سيّما مع انهيار الاتحاد السوفييتي، يجد هؤلاء الأصدقاء أنفسهم، لأسباب مختلفة وفي أوقات مختلفة، مضطرّين لاتخاذ قرار الرّحيل أو البقاء. غير أنّ المنفى لن يكون عائقاً أمام صداقتهم أو يمنعهم من البقاء على اتصال أو في بعض الحالات، مساعدة أولئك الذي قرّروا البقاء. كل هذا يحبكه بادورا في رواية ضخمة (650 صفحة) مادتها الخام خيوط صامتة لشخصيات تلقي بنفسها في البحر، ضائعة في رحلة حيويّة وشخصية وحميمية يمكن أن تكون رحلة بلد بأكمله.

وعلى عكس رواياته الأُخرى، يجدد بادورا هذه المرّة في تركيبة الرّواية وبنيتها الداخليّة، عابثاً، عن قصد، في الزّمن الذي يتحرّك ذهاباً وإياباً، للأمام وللخلف، متّبعاً منطق استحضار الشّخصيات وذكرياتها، تجاربها وشتاتها، دون احترام أيِّ تسلسل زمني، مؤلِّفاً بذلك كولاجاً ثلاثيَّ الأبعاد يتحرّك في الزّمن والمكان والقصص التي يرويها، ليبني، في نهاية المطاف، مكاناً واحداً، وزمناً واحداً وقصّة واحدة.

الصورة

رواية

ضمن هذا السّياق يأخذ بادورا شخصياته للعيش في الولايات المتّحدة الأميركية، في مدريد، برشلونة وغيرها من المدن، لتبدأ هذه الشخصيات باستحضار الماضي وتذكُّر ما كانت عليه حياتهم، مبرزين أهمية الصداقة من أجل الاستمرار. وكما العادة في كل روايات بادورا، لا بدّ من وجود لغز في حبكة الرواية يجب العمل على حلّه، ضمن هذا الإطار يأخذ الكاتب شخصياته لحلّ لغز الانتحار الغريب لأحد أفراد "الشلة"، علاوة على اختفاء إليسا الجذابة، إحدى الشخصيات الرئيسية ضمن المجموعة.

وبطبيعة الحال سيكون فكّ رموز هذه الألغاز عذراً درامياً بسيطاً لهجرة بعض شخصيات الرواية، وهكذا يتمّ السفر إلى سيناريوهات مختلفة مع هذه الشخصيات ومع أطفالهم، في محاولة من بادورا لتقديم صورة شاملة عن ظاهرة المنفى.

"في عام 1959، شخصيات مقرّبة من ديكتاتورية باتيستا غادرت كوبا لارتباطها بجرائم سياسية. ثم بعد ذلك، في السنوات اللاحقة، كان منفى البرجوازية العليا، ثم الطبقة الوسطى. في الستينيات والسبعينيات حدثت موجات هجرة كبيرة، وآخر هروب جماعي من كوبا حدث في العام 1994. ظاهرة المنفى غنيّة جداً، وهي اليوم حاضرة بشكل أساسي بالنسبة للشباب، فالكثير منهم يهاجر بحثاً عن احتمالات حياة جديدة، وعلى الرغم من أن البعض يعاني من الشتات، فإن خيار العودة ليس متاحا للكثير منهم، وهذا عامل وجداني مهم لا بدّ من الكتابة عنه". يؤكد الكاتب.

سيفاجَأ قارئ الرواية بعدم وجود بطل رئيسي في الكتاب، إنّنا أمام رواية شخصيّات تمرّر كل شخصية فيها الشعلة إلى أخرى تتحرّك في مدار الحبكة الروائية خالقةً مسارها الخاص. في ضوء هذا كلّه، ستكون الشخصيات النسائية الأكثر جاذبية للقارئ، كما أنها ستساعد الكاتب في بناء حبكات درامية جذّابة، لا سيمّا كلارا، وإليسا وابنتها أديلا. كلارا، التي تقرّر البقاء في كوبا، ستكون عصَب الشلة، فهي الشخصية التي تفهم الجميع: من شكّك ومن خاف، من وافق ومن تراجع. من استمر قدماً في قراره بالرحيل ومن نظر إلى الوراء. ربما كانت كلارا، بالنسبة للكاتب، رمزاً لجيله الذي قرّر البقاء في الجزيرة، كنوع من توكيد الانتماء.

إذاً، نحن أمام رواية مصير غير متكافئ لبلد قائم على المواجهة الدائمة، ولكننا كذلك أمام رواية غضب وكرب وحزن وحنين نحو وطن يُحوّل منفييه إلى أشباح، وهي أيضاً رواية حول إمكانية العودة أو استحالتها، لتكون بذلك حجر أساس لجميع المنفيّين في العالم ولأولئك الذين يعيشون في العراء. ولعل هذا ما أراده بادورا تحديداً: أن يخلق عبر مشاجرات عاطفية لمجموعة من الأصدقاء الذين يغادرون مكاناً معيّناً نوعاً من الإخلاص والحب الأبدي لذاك المكان، حتى ولو غادروا.



* كاتب ومترجم سوري

أضف تعليقك