رحَل أول أمس الفنان البلغاري الأميركي كريستو (1935 – 2000) في منزله بنيويورك، بعد أن غطّى عشرات المباني التاريخية والمعالم الطبيعية بالقماش والمنسوجات، مواجهاً إعاقات من الأجهزة البيروقراطية المسؤولة عنها، ومراجعات قاسية من النقّاد، وشعبية عالية منحته الكثير ولم تفقده مساءلاته الدائمة لتجربته.
فرّ كريستو فلاديميروف جافاشيف - الذي اكتفى باسمه الأول في توقيعاته الفنية طوال مشواره - من بلاده عام 1956، متوجهاً إلى براغ ومنها إلى النمسا فسويسرا، فبباريس، قبل أن يغادرها ليتسقرّ في الولايات المتحدة، هارباً من الحكم الشيوعي وحالماً أن ينفّذ سكيتشاته الأولى التي احتفظ بها ذات يوم.
لن يكون لقاؤه في آذار/ مارس 1958 بالفنانة الفرنسية جين كلود دي غويلبون (1935 – 2009) عابراً منذ أن رسم بورتريها لأمها ليقرّرا الارتباط سريعاً، ويوحّدهما بالإضافة إلى الزواج شغفٌ تجلى في أعمالهم المشركة التي "تتجاوز الحدود التقليدية للرسم والنحت والعمارة"، بحسب البيان الذي نُشر على صفحته في "فيسبوك" يوم رحيله.
"
كريستو الذي تخرّج من "كلية الفنون الجميلة" في صوفيا، نفّذ مع جين عملهما الأول في كولونيا بألمانيا عام 1961، حيث قاما بسدّ أكثر من مئتي برميل عدّة ساعات في عمل سمّي "الستار الحديدي"، واعتبر حينها رداً شاعرياً على جدار برلين، لكنه تضمّن أساس مشروعهما بعناصر ملفوفة وسريعة الزوال.
بدأ بعد ذلك بلفّ الأشياء مصمّماً أن تلقى أفكاره الجديدة قبولاً وانتشاراً أوسع، فوضع مخطّطات عديدة في الستينيات والسبعينيات مؤمناً أنها ستجد طريقها للتنفيذ، وكان قد غطى عام 1969 لأول مرة "متحف الفن المعاصر" في شيكاغو، ولفّ مليون قدم مربع من ساحل بالقرب من سيدني بأستراليا.
راهن كريستو وجين جمهورهما على منحه شيئاً لافتاً للأنظار ومثيراً للسؤال حول دوافعه وأسسه، كما نفذا مشاريعهما: "ستارة الوادي" في كولورادو (1970-1972)، و"ركض السياج" في كاليفورنيا (1972-1976) بالولايات المتحدة، و"جسر نوف" في باريس عام 1985، كانت موقّعة بـ"كريستو" لأسباب تجارية وعدم تقبّل عمل الفنانات بالجداريات، لكنهما عادا بأثر رجعي لتثبيت "كريستو وجين كلود" على جميع أعمالهما، وأصبحا يستقلان طائرتين منفصلتين حتى يتمكّن أحدهما من استكمال حلمهما في حال تحطّم إحداهما.
يشير البيان الذي أصدره مكتب الزوجان في نعيه إلى أنه "عاش حياته على أكمل وجه، ليس لأنه يحلم بما بدا مستحيلاً فقط، وإنما لأنه حققه. جمعت الأعمال الفنية لكريستو وجين كلود الناس معاً في تجارب مشتركة في جميع أنحاء العالم، وحياتهم العملية في قلوبنا وذاكراتنا".
تطلّب إنجاز هذه المشاريع الضخمة تحضيراً مكثفاً من الرسومات والتخطيطات القابلة للتعديل دائماً، وورشة كبرى من العمّال الذين ينفّذونها بعد أن يدركا أبعادها على الأرض، ما يعني أنهم كانوا شركاء حقيقيين، إذ يقول كريستو في مقابلة صحافية مع "نيويورك تايمز"عام 1972، "الجماليات هي كلّ ما تنطوي عليه العملية الإبداعية: العمّال والسياسة (الظروف المحيطة بالعمل)، والمفاوضات، وصعوبة البناء، والتعامل مع مئات الأشخاص. تصبح العملبة برمتها جمالية، ويهمني اكتشافها. أضع نفسي في حوار مع الآخرين".
سيظلّ العمل الأبرز للفنان المفاهيمي ورفيقة دربه هو مبنى الرايخستاغ في برلين عام 1995، الذي فكّر به منذ بداية الستنينات، وقدّم رؤيته الأولية منتصف السبعينيات بينما كانت لا تزال المدينة مقسّمة لكنها رُفضت ثلاث مرّات بعد جدال موسّع كان يعيد في كلّ مرة التفكير بالواقع المفروض على البرلينيين، والألمان عموماً، والمستقبل الغامض، حتى استطاع تنفيذها بعد عشرين عاماً.
مثّل العمل رمزية مكثفة لإعادة اختراع المدينة، وفهم صعوبة الأمر حين أتت الموافقة على حلمه بأغلبية ضيئلة، بعد التعامل مع جهاز بيرواقرطي ضخم، وتطلّب الأمر إقناع اعضاء البرلمان والمؤسسات الحكومية والاستعانة بجماعات الضغط، حتى تمكّن من تغطية المبنى بثلاثين ألف متر مربع من نسيج البولي بروبلين المقاوم للحريق، والذي يعكس عدم الثبات في إشارة إلى المخاوف التي كانت تحيط بفكرة ألمانيا الموحدة سباسياً، وغُطّى بطبقة من الألمنيوم، ملفوفاً بالحبال الزرقاء في مشروع تطلّب العمل بع من قبل مئة متسلق مدرب مدة خمسة أسابيع.
بعد رحيل جين كلود عام 2009، أكمل كريستو العمل بمفرده، ومن أهمّ مشاريعه كان "الأرصفة العائمة" على بحيرة إيزو في إيطاليا بتركيب يتكوّن من نسيج أصفر لامع مساحته مئة ألف قدم يطفو على محيطها وتشكّل جسوراً مؤقتة تربط بين جزيرتين على ضفتي البحيرة، استوحاه المخرج أندري باونوف في فيلمه الوثائقي "المشي على الماء" (2019).
يتوقّف الفيلم عند الرحلة الطويلة والمضنية التي خاضها كريستو وجين كلود باجتماعات مرهقة مع موظفين مملين لتسويغ الفن بما يتفق مع القوانين والضوابط الاجتماعية التي تعتبر القيد الحقيقي للفن، وتفاعله مع الناس من المتطوّعين والحشود التي تؤمّ المشروع بعد إتمامه بالملايين؛ كل ذلك يتحدّث عنه الفنان بروح الفكاهة والنقد والتأملّ متخلّصاً من الرقابة التي اضطر للتعامل معها والتحايل عليها والتعايش معها أكثر من نصف قرن.