قراءة في تجربة محمود شقير: ليست حديقة فرنسية

قراءة في تجربة محمود شقير: ليست حديقة فرنسية
الرابط المختصر

 

تمتاز تجربة القاص والأديب الفلسطيني محمود شقير بخصوصية وطنية، شديدة الاتصال بالسياق التحرري والنضال الوطني، ورغم خصوصية الشرط الفلسطيني وإبراز الكاتب لمأساة شعبه وصراعه، إلاّ أن هذه التجربة في تكريسها وإخلاصها الشديد في طرح قضيتها دون خيانة، لمْ تقع في رتابة الإيقاع، لم تضعف دراميتها وقدرتها على مفاجأة الفجيعة، ولمْ تتحول إلى نشيج مطول من الحرية والتحرر أو إلى صخب صارخ، ولم يجعلها تقع في الشرك المنصوب لها في أن تتحجّر في الموقف الواحد، ولم تُخضع لغة الكاتب وخياله إلى ما يريد لهما من الجفاف أمام الحاجز الاسرائيلي، كما ينوه درويش.

 

إنها عجائبية الواقع الفلسطيني وسلاسة المتخيل لدى الكاتب الذي يستحضر شخصيات من بطون الكتب؛ دونكيشوت، والجندي الطيب شفيك، وسعيد أبو النحس المتشائل، ثم يخلط الشخصيات والأزمنة والأمكنة في سياقات كابوسية، ويجعل المأساة الفلسطينية تخترق هذه الشخصيات بأزمنتها وأمكنتها، ليخبرنا أن هموم البشر متشابهة وأن المأساة الفلسطينية همّا انسانيا جديرا بالتضامن والتعاطف "في مخيلة قادرة على دمج الشخصيات المركبة والإشكالية في توليفة فنية جيدة".

 

 

تتجلى مخيلة شقير مرات أخرى من متوالية القدس وحدها هناك، وتسمح بالانتقال من المعقول إلى اللامعقول، من الواقعي إلى الخيالي، في تداخل بليغ يستحضر الشخصيات التاريخية ويسمح بتمرير المادة الزمنية التاريخية المتصلة بذاكرة المدينة الغنية.

 

إن هذه المخيلة الواسعة لشخصيات القصة تلمح إلى أن "الفلسطينيين ليسو من فئة هؤلاء البشر المعذبين بالفكرة الواحدة عن الحرية والاستقلال، والذي ينتهي بهم الأمر إلى أن يصبحوا فقراء الخيال، فارغين، مجرد آلات تتحرك في اتجاهٍ واحد، أبطال لا أبعاد لهم، لا يشبهون في شيء إنسان شرق المتوسط النموذجي الحاد المزاج المسكون بشهوة العشق والحياة معا، مهما كانت الحياة معادية له، مما يجعل شخوص القصص ورقية حقا، كما كان يقول بارت:"لا يجري في نسغها هذا اللهيب الذي يشعل دم الرجل في شرق المتوسط في حضور المرأة وغيابها معا".

 

ولذلك كله فإن هذه اللقطات المتباينة في التجربة الشقيرية، والتي تسعى لخلق حالة من التوازن في الإيقاع الدرامي، من تنويعٍ في خيوط اللعبة وتـَتبّع تقاطع مستويات القضية الفلسطينية عن طريق عرض نماذج من الحب من تاريخ المدينة القديم والارتباط الثنائي ذي الطابع العاطفي شديد الحضور في متوالية مدينة الخسارات والرغبة، من شأنها أن تلمّح، إلى أن الفلسطيني، كما يقول درويش: "ليس مهنة أو شعارا، إنه في المقام الأول كائن بشري، يحب الحياة، وينخطف بزهر اللوز، ويمارس الحب تلبية لشهوة الجسد، لا لنداء آخر، وينجب الأطفال للمحافظة على الاسم والنوع ومواصلة الحياة، لا لطلب الموت، إلا إذا أصبح الموتُ فينا أفضل من الحياة، وهذا يعني أن الاحتلال لم ينجح في محو طبيعتنا الإنسانية "، كما لم ينجح في خنق المدينة وتزوير تاريخها، كيف ينجح أمام مدينة غير قابلة للهزيمة "يورام، الضابط الاسرائيلي، فوجئ وهو يرى المدينة تتطاول نحو السماء، تذكّر وهو في غمرة انفعال، أن المدينة دمرت سبع عشرة مرة، ثم أعيد بناءها للمرة الثامنة عشر، الآن تنهض المدينة من جديد، وسيكون على يورام أن يتولى أمر ثمانية عشر مدينة في مدينة" هذه القصة بعنوان "رصاصة واحدة" وهي الرصاصة التي أطلقها يورام على نفسه، في نهاية متفائلة تمثل رؤية الكاتب لنهاية الصراع.

 

إن هذا التناول لمدينة القدس شديدة الامتلاء، مجمع الثنائيات وأساس التقائها: الحضور والغياب، التاريخ والجغرافيا، الزمان والمكان، الواقعي والمتخيل، الممكن والمستحيل، المليئة بالتناقضات وألوان الفجيعة، تظهر جوانب عديدة من استعداد المدينة هذه المدينة للسرد، وانفتاحها على امكانات كثيرة، وهذا يتطلب تطوير آليات الوصل والفصل وتقنيات الربط، نحو كتابة تجمع كل هذه العلاقات المتداخلة وهذا ينقلنا إلى تحول جديد في تجربة شقير.

 

إن هذه المدينة المقدسة بكل تناقضاتها تحيلنا إلى علم آخر مقدس ولو استعاريا، إلى غابة السيميائي ووالروائي الإيطالي أمبيرتو إيكو؛ الذي يقول "لكي تصبح الغابة مقدسة، يجب أن تكون أشجارها متداخلة، وليست منظمة كحديقة فرنسية".

 

 

لقد التقت رغبة محمود  شقير في التعبير عن مدينة القدس وفق مرحلة جديدة منفتحة، تتمرد على مرحلة القلق الوجودي النابع من المدينة، مع إحساسه بانغلاق القصة القصيرة جدا، يقول الكاتب "ما أخشاه حقا، أن أصل في كتابة القصة القصيرة جدا، إلى طريق مسدود، وفي سبيل ذلك، ما فتئ يمل من فتح كوى ونوافذ في ذلك الحائط، ويمد سلاسل وجسور تقنية، تلغي بنيتها المغلقة لتطل بها على وحدات صغرى أخرى في بناء كبير يجمع شتاتها ويضم نثارها، مما يسمح بكتابة عمل قصصي مفتوح بناء على وحدات قصصية تميل إلى الاكتمال والاستقرار النسبي، ويتم الحصول في النهاية على عمل مزدوج ومركب.

 

وهذا يغريني بسؤال، هل يمكننا بناء الرواية في يوم ما باسمنت القصة القصيرة جدا ؟! هل يمكننا القبض على الحدث الروائي الذي له امتداد إلى الخلف والأمام، ولجمه ضمن الإطار المصغر للقصة القصيرة جدا، سؤال يرفرف بظلاله ، وقد تكون إجابته لدى شقير أيضا في قادم الأيام .

 

إن تقنية التكرار،  تتنافى مع مبدأ التكثيف والاقتصاد الدلالي في السرد، لكنّ الكاتب يوظفها بشكل تقني منظم، وفي تصميم إيقاعي ودلالي مهندس ومدروس، يساهم في ضغط المادة المسرودة، وفي إحداث النقلات والتحولات الضرورية بأقل عدد من الحركات – أيضا، تتعارض الشعرية، مع مبدأ البساطة والزهد التعبيري "التجريد" لكنّ الكاتب، يُخضع الشعرية ومقتضياتها، للوازم القص وأساليبه؛ فيمزج بين الدرامية بالأسلوب الغنائي والعاطفي، ليخفف من طغيان الشعرية، وليُظهر أن الشعرية منظور ورؤية وليس انزياحات لغوية وصور مركبة.

 

وإذا كانت الجمل الفعلية تزهو بجملها الفعلية ولقطتها السريعة، فإن الكاتب أعاد للشكل المشهدي الذي يعتمد على الجمل الاسمية، حضوره الطاغي، إنها شعرية القصة القصيرة جدا وأثر ريتسوس في تجربة محمود شقير، حيث فرادة الهامشي وبطولة المنسي، وشعرية التفاصيل، وتجريد المنسي واليومي، وعناق الخاص بالعام، والتحول إلى الداخل، وتراجع الحركات الخارجية ، وبروز ما يسمى بالحالة القصصية في طابعها الشعري والغنائي، وفي ارتكازها على وقع الحدث وتأثيراته الجانبية على نحو مضاعف.

 

يقول إيكو: إن العبرة في النصوص التخييلية تكمن في مساعدتنا على تجاوز قصورنا الوجودي، وأن للقصص المتخيلة وظيفة استشفائية، وهذا واضح في قصص شقير التي تناولت عجائبية الواقع الفلسطيني، وفي قصص التماثيل شديدة الحضور في معظم المجموعات القصصية، وفي قصص التي تؤنسن الجماد وتشخص المعنوي والمجرد، وهذه الأنسنة هي الوجه الآخر لتشيؤ الانسان واستلابه.