فيلم "الكونت".. لماذا لا يموت الطغاة من ذاكرة الشعوب؟
ربما يعرفه الجمهور أكثر من خلال أعماله السيرية التي صنعها خارج تشيلي مثل "جاكي" و"سبنسر" التي تتناول شخصيات تاريخية معقدة مثل جاكلين كينيدي والأميرة ديانا، لكن أكثر أعمال المخرج التشيلياني بابلو لارين أصالة وخصوصية هي تلك التي صنعها في تشيلي. صنع لارين في الفترة الممتدة من 2008 إلى 2012 ثلاثة أفلام أطلق عليها النقاد "ثلاثية الديكتاتورية"، والتي تضم "Tony Manero" و"post mortem" و"No".
يعود لارين في كل فيلم من ثلاثيته إلى زمن بينوشيه المظلم كما لو كان الأمر هاجسا ملحا أو هوسا مظلما. تلح فكرة الماضي في سينما لارين باعتبارها حلم يقظة صادما لا يزال يطارد الواقع ويربكه. كان لارين مفتونا ببينوشيه لعقود من الزمن. عندما كان طفلا كان يشاهده على شاشة التلفزيون ويشعر بالنفور الغريزي، وعندما صار مخرجا صنع أفلاما عن التأثير المدمر للديكتاتور على وطنه.
يعترف لارين بأن بينوشيه هو الوقود الأساسي في خزانة محركه، لا يستطيع أن يتخيل نوع المهنة التي كان سيمارسها لو لم يكن الرجل موجودا. تحتاج كل أشكال السرد إلى أزمة، إلى كارثة ما، وصادف أن كان بينوشيه هو كارثته الخاصة. يتحرك بينوشيه بشره الخبيث كشبح في خلفية أفلامه، نرى أثره المدمر لكن لا نراه. هذه المرة وفي فيلمه العاشر "الكونت (El Conde)" يقرر لارين أن يحدق مباشرة في عيني الشر.
بابلو لارين مخرج فيلم "الكونت (El Conde)" (غيتي)
يبنى لارين هنا نصه الفيلمي الذي كتبه رفقة "جييرمو كالديرون" على إعادة تصور "بينوشيه/جايمي فاديل" كمصاص دماء يبلغ من العمر 250 عاما، زيف موته وهرب إلى عقار متهدم في ريف باتاجونيا. إثر أزمة وجودية، يقرر الكونت كما يحب أن يلقب التوقف عن شرب الدم والتخلي عن امتياز الحياة الأبدية. ومع ذلك، على الرغم من عائلته المخيبة للآمال والانتهازية، فإنه يجد إلهاما جديدا لمواصلة العيش في علاقة غير متوقعة. ظنا أنه قد يموت أخيرا، يجتمع أطفال الأيقونة الفاشية حوله على أمل معرفة المكان الذي خبأ فيه الثروة التي صنعها خلال فترة حكمه الطويلة والوحشية.
عن الزوايا غير المطروقة للتاريخ
يعتقد الجمهور بأن الفنان يصبح أكثر مسؤولية وأمانة حين يلتزم بحقائق التاريخ. سرديات لارين دائما ما تزعج وتربك الجمهور بالزوايا غير التقليدية التي يستعيد من خلالها التاريخ. حين انتُقد على عدم التزامه بالوقائع الحقيقية في فيلمه "No" الذي يتناول وقائع الحملة الإعلامية الضخمة التي أسقطت بينوشيه في الاستفتاء الشعبي على تولية الحكم لفترة رئاسية جديدة، أجابهم أن المخرج مثل طفل يلهو بقنبلة لا يعرف أبدا نتائج ما يفعله. يبدو لارين في فيلمه الأحدث كما لو كان يلهو بأكثر من قنبلة في يده. إنه فيلم مفخخ في الواقع، إذ لا يكتفي بمزج الواقع بالخيال، بل يتلاعب بالنوع الفيلمي نفسه ليمزج بين الكوميديا السوداء، والسخرية السياسية "الساتير" والرعب.
حين تشاهد أيضا بينوشيه في زيه الرسمي وعباءته يطير فوق العاصمة سانتياغو ليصطاد ضحاياه الأبرياء يبدو كنسخة مشوهة وشريرة من باتمان أو أحد الأبطال الخارقين. يصف لارين بينوشيه في نسخته السينمائية مثل بطل خارق للشر(1). يبدو امتزاج الواقع والمتخيل وتفاعلهما حد التماهي كبصمة سردية مميزة للمخرج.
بينوشيه في زيه الرسمي وعباءته يطير فوق العاصمة سانتياغو ليصطاد ضحاياه الأبرياء (مواقع التواصل)
التاريخ بوصفه مهزلة
ربما استلهاما لمقولة ماركس الشهيرة "التاريخ يعيد نفسه فى المرة الأولى كمأساة، وفي المرة الثانية كمهزلة"، يعيد لارين بينوشيه في الذكرى الخمسين لصعوده للسلطة للحياة مجددا، لكن هذه المرة كمهزلة.
تميل كوميديا "الفارص" أو المهزلة نحو المبالغات والتنميط والمواقف غير المحتملة، وطالما كانت وسيلة فعالة في مواجهة الشر. هذه هي المرة الأولى التي يدور فيها فيلم حول شخصية بينوشيه واختار لارين أن يقدمه عبر عدسة الكوميديا السوداء. ما تفعله هذه المقاربة الساخرة أنها تحول هذه الشخصيات التي في أذهان الجمهور أكبر من الحياة نفسها إلى مادة للسخرية، يتم تقليص رعبهم إلى درجة يصعب معها أخذهم على محمل الجد.
يتحدث المخرج الكبير ميل بروكس عن هذا النهج لمقاربة أشرار التاريخ بأنه يجردهم من كل تأثير أو جاذبية، وهذا هو بالتحديد ما أراد أن يفعله لارين مع بينوشيه. ومع ذلك، يعترف لارين بأن أصعب ما واجهه خلال صنع فيلمه كان إيجاد النبرة المناسبة، لكنه وجد إلهامه في فيلم "د.سترانجلوف (Dr. Strangelove)" للمخرج الكبير ستانلي كوبريك(2)، حيث خاطر كوبريك في وقت مبكر جدا في تقديم معالجة هزلية لأبوكاليبس نووي متخيل.
يحرم لارين بينوشيه من أي تعاطف محتمل عبر تجريده من إنسانيته، وتحويله إلى مصاص دماء حقيقي يتغذى على قلوب ضحاياه. واحد من لمسات الكوميديا النافذة في الفيلم حين تتحدث إحدى بنات بينوشيه مع راهبة أتت سرا لتقديم طقوس طرد الشيطان من داخل الكونت. تخبرها الابنة أنها إن طردت الشيطان من داخله فلن يتبقى شيء آخر. هكذا يخبر بينوشيه خادمه أيضا أنه مجرد حيوان ليلي.
يبدأ الفيلم بفرضية هزلية، فالكونت الخالد يعاني من أزمة وجودية يقرر على إثرها التوقف عن شرب دماء الضحايا. إنه يشعر على نحو يائس أن شعبه قد خذله بعد اتهامه بأنه لص. يعبر بينوشيه بالقول إنه يفضل أن يوصف بأنه قاتل عن اتهامه بأنه لص. وعلى إثر ذلك، يعتقد الأبناء أن الوقت قد حان من أجل معرفة الأموال التي كنزها الأب خلال حكمه قبل أن تظهر الراهبة في حياته لتحقن الرغبة مجددا في شرايينه اليابسة ليأخذ السرد منعطفات غير متوقعة.
الملامح القوطية للرعب
يحمل فيلم الكونت ملامح أحد أنواع سينما الرعب الفرعية المسماة (Hammer horror)، وهي أفلام رعب وخيال قوطي أنتجت في الفترة الممتدة من منتصف خمسينات القرن الماضى ونهاية سبعيناته (مواقع التواصل)
ينجح لارين هنا في خلق مزاج "قوطي" مؤثر لفيلمه. يتغذى القوطي على ما هو مخيف، لذلك ينسج مشهدياته عبر القبور والمنازل المهجورة المسكونة بمصاصي دماء، إلى جانب المقصلة العتيقة التي تعاود الظهور خارج زمانها. تستعير سينماتوجرافيا المصور السينمائي المخضرم إدوارد لاشمان ملامح سينما الرعب كما تجلت في عقدي الثلاثينات والأربعينات، لمسات هنا وهناك من "مورناو" و"دراير". هذا التناقض البارز بين نبرة الفيلم الساخرة ومشهدياته القوطية المقلقة تمنح الفيلم طابعا أصيلا، بالإضافة لأنه لا يمكن ربط السرد بفيلم آخر. إنها حكاية فريدة جدا لأنها تشيلية جدا.
لا يشيح المخرج بكاميراه بعيدا عن العنف. يحتوي فيلمه على بعض اللقطات شديدة العنف، ولكن العنف هنا جوهري في تصوره عن فاشية بينوشيه، حيث نجده يردد في أغلب حواراته مقولة أن الفاشية تبدأ بابتسامة ثم تتحرك نحو الخوف وتنتهي بالعنف، لذلك فالعنف هو الوجه الحقيقي للفاشية.
يحمل الفيلم أيضا ملامح أحد أنواع سينما الرعب الفرعية المسماة (Hammer horror)، وهي أفلام رعب وخيال قوطي أنتجت في الفترة الممتدة من منتصف خمسينات القرن الماضى ونهاية سبعيناته بواسطة شركة إنتاج محدود بريطانية تدعى "هامر فيلمز". اتسمت أفلام هذه الفئة بالتلاعب بحبكات وشخصيات سينما الرعب الكلاسيكية، خالقة شخصيات يصعب التعاطف معها (3). في سينما الرعب الكلاسيكية غالبا ما كانت الوحوش تحمل ظلالا رومانسية. هنا الوحوش بلا روح، وكل شخصيات الفيلم يطولها الفساد، حتى تلك التي بدت بريئة وملائكية في البداية. أغلب الشخصيات نهمة، منفرة وبلا عاطفة أو شخصية. تنجح أيضا نبرة السخرية والعبثية والتصوير بالأبيض والأسود بإبقاء مسافة بين المشاهد وهذه الشخصيات لا تسمح بالاقتراب الحميمي أو التعاطف.
النفس ما بعد الحداثي للسرد
كذلك فإن المنهج الذي يقارب به لارين التاريخ يخالطه نفس "ما بعد حداثي" (4)، حيث يغلب الهزلي على المأساوي، ويجنح نحو ما هو عبثي بديلا عن التحليل المنطقي للظواهر. تظهر ملامح ما بعد الحداثة من خلال المزج المتعمد للأنواع السينمائية ما بين الدعابة السوداء والرعب والفيلم السياسي، خالقا فضاء فيلما يصعب تحديده، بالإضافة إلى "التناص البصري" بين سينماتوغرافيا الفيلم وعدد من أفلام الرعب الكلاسيكية وغير الكلاسيكية. هذا الانفتاح والميل للتجريب من أهم سمات سينما ما بعد الحداثة.
ينتقد الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز وهو أحد أبرز منظري ما بعد الحداثة فكرة مقاربة السلطة عبر لغة رمزية غير مباشرة، فيقول في أحد جدالاته: "إذا كان هناك من يقفون على أبوابنا، يحاصروننا ويهددوننا مثل أكلة لحوم البشر، فيجب علينا إظهارهم وهم يأكلون اللحم البشري، إذ لم يعد الأمر هنا مجازا بل برهنة" (5).
هذا ما يتبعه لارين في فيلمه فهو يعري بينوشيه من أي مجاز أو تشبيه، بل يصوره كمصاص دمائي على نحو حرفي، نراه يشق صدور ضحاياه ويستخرج قلوبهم ويلتهمها أو يضربها في خلاط ليصنع منها مشروبه المفضل. هذا يحرر المعنى ويكثف الحقيقة.
كم مرة على التاريخ أن يعيد نفسه؟
استمر حكم أوغستو بينوشيه 17 عامًا، (وكالات)
يصرح لارين أن أحد أهم الأسباب التي دفعته لصنع هذا الفيلم أنه للآن وبعد مرور 50 عاما على تراجيديا صعود بينوشيه للسلطة لا يزال هناك قطاع من الشعب يصل إلى ثلثه ما زالوا يكنون له احتراما كبيرا، وينظرون إليه باعتباره مديرا ماهرا لأموال الدولة وحصنا قويا ضد الاشتراكية، مرددين نفس الحجة الغربية القديمة التي زرعها بينوشيه نفسه.
يفلت بينوشيه في فيلم لارين من أي محاكمة مثلما أفلت في الواقع، هذه الحصانة ضد العدالة تجعله خالدا كمصاص دماء. ينتهى الفيلم بميلاد جديد، يولد بينوشيه طفلا مرة أخرى باسم آخر، لكنه يحمل بداخله كامل ظلام الكونت الخالد الذي يعبر الأزمان كمبدأ كوني. بهذه النهاية تطرح سردية لارين هذا السؤال المفخخ: لماذا يحتاج التاريخ إلى تكرار نفسه من أجل تذكيرنا بمدى خطورة الأشياء؟
عرض الفيلم للمرة الأولى في مهرجان فينسيا السينمائي الدولي في دورته الأخيرة التي انعقدت في الفترة ما بين 30 أغسطس/ آب وحتى 9 سبتمبر/ أيلول، وحصل على جائزة أفضل سيناريو في المسابقة الرسمية. الفيلم متاح الآن للعرض على شبكة نتفليكس.