فلسفة الدين: الفلسفة و الوعي الديني

فلسفة الدين: الفلسفة و الوعي الديني
الرابط المختصر

لا بد للقارئ قبل المباشرة في قراءة كتاب د. جورج الفار الجديد، أن يلقي نظرة على تاريخ المؤلف الذي ارتدى ثوب الكهنوت لفترة كافية سمحت له بالاطلاع على تفاصيل الخطاب الديني و دعم ذلك بدرجة الدكتوراه في اللاهوت من جامعة روما عام 1992، ثم قرر نزع هذا الرداء و الانتقال الى مجال الفلسفة و دعم ذلك بدرجة أكاديمية أخرى حيث حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة كليرمونت امريكيا – و الكسليك لبنان.

 

رحلة تذكرنا مع اقترانها بالفلسفة برحلة فيورباخ الذي ترك دراسته اللاهوتية عام 1825، و انقلب على الدين تماما في كتابه "جوهر المسيحية" الذي نشره عام 1841.

 

معرفة خلفية المؤلف تجعلنا نخوض في متن هذا الكتاب مطمئنين و مقتنعين بأن الربان سبق و أن خاض هذا اللج و عرف أحواله.

 

يدرك الكاتب منذ البداية أن الدين و الفلسفة يبدوان كحقلين متناقضين لكنه يلمح خلف التناقض اتفاقا ينبع من من أن كلا الحقلين يحاول تقديم تفسيره للكون و العالم من حولنا، لذلك فإن هذين الحقلين لا ينفكا يلتقيان مرة بعد أخرى عبر التاريخ. اختلف المفكرون في كل مرة التقت فيها الفلسفة مع الدين؛ فرأى الغزالي و توما الاكويني أن الدين أعلى شأنا من الفلسفة، أما أبو بكر الرازي فقدم الفلسفة على الدين، و رأى الفرنسي اوغست كونت أن الدين كان مرحلة من مراحل التاريخ البشري، لكنها مرحلة انتهت و علينا تجاوزها، أما ماركس و لينين فكان رأيهما أن الدين ليس سوى مجرد وهم عقلي و هما بذلك أقل تطرفا من فرويد الذي رأي الدين مرضا عقليا عندما وصفه قائلا: "العصاب دين فردي و الدين عصاب جماعي".

 

هذا الخلاف لا يدور على هامش الدين و لكنه يدور في الكثير من الأحيان داخل السرديات الدينية الكبرى، فمنذ أن تم جمع السرديات الكبرى لبلاد مابين النهرين مثل اسطورة دلمون السومرية و اسطورة آدابا البابلية و الاينوما ايليتش في سردية كبرى و وحيدة هي السردية اليهودية التي حسمت موقف الانسان باتجاه ديانة التوحيد (الاله الواحد الكلي الحضور و المقدرة) و تفرع هذه السردية الى سرديتين فرعيتين هما الاسلام و المسيحية، و الخلاف حتى على التفاصيل بين هذه السرديات الدينية الثلاث؛ من هو الابن الذي نوى ابراهيم التضحية به اسماعيل أم اسحق؟ هل المسيح هو المخلص أم أن مسيحا آخر سيأتي في آخر الزمان؟ مالذي سيدعو اليه ذلك المسيح أهو السردية الاسلامية أم المسيحية أم اليهودية؟... وهكذا.

 

ما يمكن لنا أن نلحظه في هذا السياق أن هذه الأديان عانت من حركات انشقاقية بمعدل مرة كل 350 – 500 سنة، البعض يعتبر المسيحية و لاحقا الاسلام انشقاقا عن اليهودية، لكن الاسلام نفسه تعرض لانشقاق بقيام الدولة الفاطمية (خلافتان سنية و شيعية) و المسيحية بالانشقاق البروتستانتي، و يرى الكاتب أن المسيحية مرشحة للانشقاق القادم الذي قد ينطلق من أميركا اللاتينية. لماذا أميركا اللاتينية؟

1-  لقد تطور في أميركا اللاتينية خلال مرحلة التحرر الوطني تيارا دينيا تحرريا وقف بوجه رجعية الكنيسة الكاثوليكية و قاتل الى جانب الشعوب المظلومة و هو ما عرف بلاهوت التحرير، و اذا عرفنا أن البابا الحالي كان أحد رموز هذا التيار فإننا نستطيع أن نفهم بعض تصريحاته المثيرة بالجدل حول آدم و حواء، و الجنة و النار.

2-  نلاحظ أن الانشقاقات الدينية حدثت دائما في الآطراف و بعيدا عن المركز الديني أو السياسي. فالانشقاق الفاطمي حدث في المغرب حيث انطلقت الدعوة من سلجماسة، أما الانشقاق اللوثري في الكنيسة الكاثوليكية فانطلق من ألمانيا. رؤيا تذكرنا بنظرية المركز و الأطراف لسمير أمين.

 

هذه الملاحظة سبق لابن خلدون أن قدمها في سياق تفسيره لضعف الدول و ابتعادها عن العصبية الدينية أو القبلية التي أسستها، عندها يجتمع البدو و يغيرون على الدولة و يستولون عليها  و يعيدون الاعتبار لتلك العصبية الدينية أو القبلية التي لا تلبث و أن تتراخى بعد فترة فتعود الكرة، و هو نفس ماذهب اليه انجلز في حديثه عن تاريخ الشرق عندما رأى فيه "ردة بدوية نحو ديانة توحيد". السؤال الذي يطرح هنا هل هذا الانشقاق داخل الأديان فعل تطوري؟ و هل يتشأ بتأثير العوامل الخارجية كالمتغيرات الاجتماعية و الاقتصادية و حتى الانجازات العلمية أم أن هناك عوامل داخلية تتعلق ببنية السردية الدينية نفسها تدعو الى هذا الانشقاق؟ لكي نجد الاجابة لهذه التساؤلات و غيرها يقترح المؤلف أن نبدأ بفهم الفكر الديني من جهة و العقل الديني من جهة أخرى.

 

يقدم المؤلف في سياق فهم الفكر الديني دراسة لأربعة كتب هي؛ "نقد الفكر الديني" و "ذهنية التحريم" لصادق جلال العظم و "عاريا أمام الحقيقة" و "المقدس و السؤال الفلسفي" للمؤلف نفسه. بالطبع لم يتم اختيار هذه الكتب أو الكتاب عشوائيا، فالعظم انطلق من الفلسفة نحو الدين، أما الفار فقد انطلق من الدين نحو الفلسفة  لكنهما التقيا عند السؤال الذي سبق لشكيب أرسلان: "لماذا تقدم الآخرون و تأخرنا نحن؟"

 

أما العقل الديني فيراه الكاتب عقلا هلاميا  متحولا، ذو بنية تاريخية مغرقة في القدم، دفاعي يعمل على اسكات الخصم و ليس اقناعه و هو قادر على المناورة و التكيف مع كافة البنى الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، و هو غير قابل للحصر ضمن نسق معرفي محدد و يستطيع البقاء عائما فوق الأفكار، و يخلص الى امكانية صواب جملة من قبيل: لايوجد عقل ديني و لكن يوجد لا عقل ديني.

 

رغم الضعف البنيوي الذي يعتري الفكر الديني إلا أنه الأكثر سيطرة على البشر، و هذه السيطرة المتعاظمة هي واحدة من هموم  البشر اليوم. يدرك البشر أن أمامهم طريقان للوقوف في وجه الدين هما؛ الثورة على الدين، أو القيام باللإصلاح الديني. أما الثورة على الدين فتبدو بعيدة المنال و صعبة على مستوى المجتمعات التي تشكلت أصلا حول أفكار إيمانية جعلت الدين مكونا اجتماعيا و ثقافيا أساسيا في حياة الشعوب فالثورة ممكنة على مستوى الأفراد فقط، لذلك ليس أمام البشرية إلا طريق الاصلاح الديني، الذي يجب ألا يكون شكليا أو تجميليا أو لفظيا لكنه مطالب أن يكون إصلاحا حقيقيا يتخذ ثلاثة مسارب:

1-     عقلنة الدين

2-     أنسنة الدين

3-     تصالح الدين مع العلم

 

عقلنة الدين: تتم من خلال تبني العقلانية، و فصل الدين عن الدولة و جعل حقوق المواطنين متساوية و ذلك واجباتهم، هذا الفصل العلماني سيخفف من النزوع الديني نحو العنف، خاصة ذلك العنف المرتبط بفرض "الشريعة" على الآخرين.

 

أنسنة الدين: يذكرنا هذا المصطلح بفيورباخ مرة أخرى و ذلك في كتابة فلسفة المستقبل عندما يقول "مهمة الأزمنة الحديثة أنسنة الله، أي التحول من الإلهولوجيا الى الانسانولوجيا" أو بعبارة أخرى لأنسنة الدين لا بد لنا من التعامل مع أزمة الوعي التي يعاني منها الانسان. فالنص الديني لا يمكن تفسيره إلا باستخدام العقل، و بما أن النص الديني ثابت و غير قابل للحركة فإن الأمور كلها تتعلق بالعقل المفسر، و عليه لا بد لنا من التركيز على الظروف الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية التي ينمو فيها العقل المفسر، لكي يصبح هذا العقل قادرا على تقديم تفسيرا عقلانيا للنص.

 

نستطيع القول بثقة – مع المؤلف – أن الانسان في عالم اليوم يمر بأزمة عميقة في الوعي. لقد انتهى عصر الحداثة بخيبة أمل كبيرة تمثلت بحربين عالميتين ذهب ضحيتها أكثر من 70 مليون انسان، و بقدر ما قدمت هذه الخيبة من مادة لفلسفة ما بعد الحداثة التفكيكية، و مقولات مثل موت الأب و موت الله و حتى موت الإنسان، فإنها قدمت المادة لردة دينية متشددة تمثلت بظهور تيارات دينية متشددة (رجعية) متطرفة أوصلها تطرفها الى نبذ الحضارة و منجزاتها. لعل أبرز من عبر عن هذه الحالة هو سارتر عندما وصف الانسان بأنه "كيان رمي في الوجود"

 

في عالمنا العربي الذي لم يستطع الدخول الى زمن الحداثة بعد، فإن أفكار التنوير التي حملها رفاعة الطهطاوي و بطرس البستاني و شكيب أرسلان و زكي الأرسوزي لم يستطع أن يخترق طبقة من غياب الوعي عمرها 400 سنة، هي فترة الاستعمار العثماني التي غاب فيها العقل العربي عن الفعل الحضاري، أما محاولات الاصلاح الديني التي تصدى لها محمد عبدة و جمال الدين الأفغاني فكانت تسير بعكس سهم الزمان الفيزيائي، و بدلا من تقديم مشروع للدخول الى المستقبل، قدمت مشروعا سلفيا يسعى الى إحياء الماضي. لقد أصبحنا أسرى هذا الحوار غير المجدي الذي يبحث في آليات عودة الماضي و دون فرصة حتى الآن لتطوير هذا الخطاب، فهل سنبقى أسرى ما أسماه ياسين الحافظ بالوعي المفوت؟

نحن إذن – حسب الدكتور الفار – أمام ثلاثة أنماط من الفكر الحديث:

1-     النمط اللاهوتي (الفقهي) الذي يأخذ بعدا ميتافيزيقيا بحتا.

2-     الفكر العلماني المادي الذي ينكر الميتافزيقيا إنكارا نهائيا (لا ديني)

3-     الفكر التوفيقي الذي يجمع النمطين السابقين.

 

يعلن الكاتب مباشرة انحيازه الى النمط الثالث، ليس فقط بسبب المقدمات التي تحدثنا عنها، سواء تخليه عن الكهنوت، أو عدم قناعته بالثورة ضد الدين، و لكن لأنه يرى الميتافزيقيا أساسا للتطور العلمي، و يتساءل أليس كل تطور علمي أساسه فرضية وضعها أحدهم بعد تأمله في الكون و أحواله؟ أو ليست الفرضية فعلا متخيلا ميتافيزيقيا تحوله التجارب الى حقيقة موضوعية؟ و هنا لا يمكن أن نرى الميتافزيقيا تقف في طريق التجريب أو التطور العلمي لأنها لو فعلت ذلك فإنها تناقض جوهر دورها و طبيعتها من أنها أعلى ثقافة انسانية لأنها تقدم منظومة أخلاقية شاملة تنظم علاقة الانسان بالإنسان و علاقته بالعالم.

 

نحن إذن نتحدث عن دور للميتافزيقيا في المستقبل، أي دور للدين و لكن أي دين؟ إنه دين المستقبل؛ دين مثل دين فيورباخ مؤلف من طابقين؛ أساس مادي و طابق علوي مثالي أخلاقي عاطفي. في هذا الدين يكون الله على صورة (طموحه و آماله و هواجسه) و لا يكون الانسان على صورة الله. عندها سيكون دين المستقبل مثل انسان المستقبل محترما، متمسكا بحقوقه الفردية و العامة يمجد الحياة قابل بالتعددية و الديمقراطية الحقيقية روحاني بالمعنى السامي فهو ينزع نحو الفن و الموسيقى و الجمال. إن أي دين لا يتمتع بهذه الصفات سيذوي و يختفي و لن يتأثر ذلك بعدد المؤمنين أو قوة إيمانهم أو قدم الدين و تاريخيته، كلها عوامل لم تحمي أديان اختفت و لن تحمي أديان قائمة اليوم.

 

قد نختلف أو نتفق مع ما ورد في كتاب د. جورج الفار، لكنه يبقى كتابا يستحق الاقتناء و القراءة و النقاش مرة بعد أخرى، و هو إذا ما ربطناه بالظروف التي نعيشها اليوم فإنه يكتسب أهمية إضافية إذا يرزح وطننا تحت وطأة مشروع استعماري جديد وجد في الدين مطية توصله الى أهدافه.

أضف تعليقك