علي شاكر: بودكاست زياد الرحباني

علي شاكر: بودكاست زياد الرحباني
الرابط المختصر

أنظار وأسماع راكبي القطار معي توجّهت نحو الطفل الذي ملأ العربات صراخا بعد أن خاصمته والدته وامتنعت عن الحديث معه. تعابير وجوهنا المتعاطفة مع معاناة صغيرها أشعرت السيدة المُنهكة بالحرج، فاضطرت الى العدول عن قرارها وقامت بالتربيت على رأسه كي يهدأ قليلا، المفاجأة كانت أن الطفل الباكي أخرج لسانه لأمه وعاود اغاظتها وهو يضحك وسط همهمات الركاب الذين سرعان ما ابتلعتهم عوالم شاشات الواحهم وهواتفهم النقّالة … المشهد العابر ذكّرني بنص كنت قد شرعت بكتابته عن زياد الرحباني قبل شهور عدة، لكنني آثرت حفظه في ملف حمل اسمه على اللابتوب بسبب الحيرة التي اعترتني بشأنه.

رغبتي بالحديث كان سببها فورة لقاءاته الاعلامية المتلاحقة في الآونة الأخيرة وما ورد فيها من آراء مُستفزة لم يكن التغاضي عن مناقشتها متاحا بالنسبة لي، وكذلك استغرابي من عزوف الاعلام اللبناني (والعربي) عن تحليل ونقد محتواها، واقتصار التغطية على ذكر اجراء المقابلات مع نشر سطور قليلة فقط عن علاقة زياد بالسيدة فيروز وخلافها معه قبل حدوث الصلح بينهما، وأيضا التنويه عن تصريحاته بشأن أصوات المطربات المتواجدات حاليا على الساحة … من جهة أخرى، كان لتردّدي وتعثّري في الكتابة مبرّرات عدة، لعل أهمها أنني أحد المُعجبين بفن زياد الرحباني وأدرك جيدا عبقريته وقدرته على صناعة أشعار وألحان لا تشبه سواها، بالاضافة الى احترامي لكثير من صفاته الشخصية مثل جرأته وعدم لهاثه وراء الماديّات، والصدق والشفافية اللذين ميّزا مسيرته المُمتدّة وانتاجه المتنوّع، لكن الصدق (على أهميته) ليس بالضرورة رديفا للصواب (لا أتحدث هنا عن المثالية أو الصواب السياسي Political Correctness  ) بل قد يجوز القول أن طروحات زياد الأخيرة المثيرة لجدل لم يحدث (لسبب أجهله!) مثال حي على أزمة تعاني منها غالبية مبدعينا ومثقفينا المعاصرين.

لكن عودة الى مشهد الطفل المشاكس في القطار الذي حسم أمر كتابتي عن زياد، خصوصا بعدما بات معروفا للجميع أن زعل فيروز الطويل منه كان بسبب تصريحاته عن ميولها السياسية غير المُعلنة واعجابها بشخوص بعينها، الأمر الذي حرصت السيدة على اخفائه طيلة مشوارها، آثرة أن تسخّر فنها وصورتها عند جمهورها للملمة ما تشرذم وتجميع اللبنانيين (والعرب) حول قيم انسانية نبيلة دون اصطفاف مع أي من الفصائل والأحزاب المتنازعة … الغريب في الموضوع أن زياد الرحباني الذي عزا الخلاف مع والدته الى سوء فهم نواياه ودسائس من المحيطين بها، مضى في حواراته الجديدة بكشف المزيد من التفاصيل عن آراء فيروز السياسية، مؤكّدا على انحيازها لأطراف دون أخرى، وزعمه بأنها ستنضم الى صفوف حركته السياسية الجديدة.

لا أدري ان كانت تلك سذاجة من جانب زياد، أم wishful thinking  أم جهل بشخصية والدته (هل يُعقل أننا نعرف عن فيروز أكثر مما يعرفه ابنها عنها؟) أم هي محاولة منه لتجيير شعبيتها الهائلة رغما عنها لصالح مشروعه وهواه … لكنها ليست المرة الأولى التي يفعلها زياد على أي حال!

أحد التسجيلات القديمة التي وجدتها على يوتيوب تضمّن حديثا له في ذكرى رحيل عاصي الرحباني، استرجع فيه ما حدث بينهما عندما كان مراهقا وكيف أن والده الذي تغنّى بحب لبنان وكتب ولحن الأعمال الملحمية في الذود عن الوطن قد منعه من الانضمام الى صفوف الكتائب يومها، ثم نهره بقوله: “– أختك ع اخت هالوطن!” صُدمت يومها لسماع ذلك المقطع، لا شكأ في الواقعة، بل حيرة في تفسير دافعه للحدبث عنها بعد وفاة والده، هل أراد التشكيك في حب عاصي لبلده؟

أذكر أني تساءلت مع نفسي ان كان الحب في قاموس زياد الرحباني رديفا لرغبة مبهمة تعتريه لتفكيك (كي لا أقول تحطيم) الطرف الآخر، سواء كان والدا أو والدة أو حبيبة، أو حتى جمهورا ووطنا!

ما زلت لا أملك اجابة عن ذلك السؤال، ولا أقصد هنا المزايدة على مشاعر زياد نحو والديه أو الاستخفاف بمعاناته الأسرية وطفولته وصباه اللذين أمضاهما في ظل والدين خارقي الموهبة قلّما كانا يكفّان عن الشجار، ولا آلامه خلال سنوات الحرب الأهلية الطاحنة وما تلاها … لا أستخف ولا أزايد، لكنني لا أفهم، وربما نحن بحاجة لسيغموند فرويد كي يفك لنا طلاسم سلوك زياد الرحباني ونوازعه.

المدهش أن الناقد اللبناني لم يعزف فقط عن تحليل ومناقشة الشق السياسي في الحوارات، بل امتد تجاهله ليشمل الأخطاء التقنية أيضا، فأول ما استوقفني في المقابلات المُتلفزة كان استهلالها بمواد مصوّرة عن دخول زياد الى الستوديو ولقائه بكوادر البرامج وشربه أكواب القهوة والماء وسواها من الأمور التي لا تعنيني أو تهمني كمشاهد ولا تضيف شيئا لمضمون الحوار الذي أود متابعته … لا أعرف صدقا أصل ذلك التقليد الذي بات لازمة حتى في اللقاءات الاذاعية المتوفرّة على اليوتيوب، فهل هي رغبة بتوثيق الحدث أو تسجيل نقاط لصالح المحطات ومذيعيها؟ الأمر الذي يقودنا الى خلل تقني آخر.

من الصعوبة بمكان استيعاب أن زياد المعروف بتمرّسه الموسيقي وحساسيته للصوت والصمت والايقاع لم يكف عن احراج محاوريه بمقاطعاته العشوائية الكثيرة، اذ تكاد تكون سمة مشتركة بين جميع اللقاءات التي تابعتها أن يقوم المُحاوِر أو المُحاوِرة بطرح سؤال ما، فيجيب زياد باقتضاب ثم يصمت حتى يظن المذيع أنه قد أكمل حديثه، لكن بمجرد أن يتفوّه بمطلع السؤال التالي يعود الضيف الى الاسترسال في اجابة السؤال الأول، ويستمر الحال على ذلك المنوال لمرات عدة، فيضطر المُحاوِر في النهاية الى الانتقال الى سؤال آخر لحفظ ماء الوجه وكي يجنبنا الارتباك الحاصل … طننت في البداية أن تلك كانت وسيلة الرحباني لتجاهل بعض الأسئلة أو التعبير عن رفضه لأسلوب الحوار، لكن تكرار الواقعة في جميع المقابلات التي أجراها (بما في ذلك اللقاءات مع محاورين أثيرين على قلبه) جعلني أدرك أن المشكلة تكمن في آلية الحديث، اذ كان واجبا على المخرجين تنبيه زياد الى ضرورة عدم اعاقة الشخص الجالس أمامه عن القيام بعمله واضاعة وقت المتابعين في استدراكات كانت في معظمها هامشية وغير ذات أهمية.

معايير زياد الرحباني في تقييم حواراته بعد اجرائها عجيبة هي الأخرى، فنراه يتذمر من لقاءات طُرِحت عليه خلالها أسئلة حيوية ومهمة، بينما يشيد بأخرى لم نخرج منها سوى بنوبات قهقهة طويلة للمذيعين، أو انصياع تام منهم لرغبته في الاستغراق في التنظير والغاء شبه تام لدورهم في النقاش والمحاججة وتمضية الوقت في سؤاله ان كان مرتاحا أو راضيا أو يشعر بالملل، ثم استجداء عبارة مديح منه في النهاية بحق المذيع والمحطة وسياساتها … لهذه الأسباب كلها، فكّرت أن الوسيلة الأنسب ربما لتواصل زياد مع جمهوره أن يقوم بالاستغناء عن دور المُحاور ويطلق العنان لأفكاره في بودكاست خاص به، وقد يكون مجديا أن يطلب من الناس طرح أسئلتهم عليه عبر احدى وسائل التواصل الاجتماعي كي يقوم بالرد (براحته) على ما يختاره منها، وليسمح لي بأن أقترح عليه تسمية للبودكاست، هي: “تناقضات!”

ما كنت لأتوقف عند تناقضات الرحباني التي تكشّفت في حواراته الأخيرة لو أنها كانت بسيطة، فهو في النهاية انسان (وان بات يتلقّى معاملة demigod من قبل الاعلام اللبناني) يعيش في محيط صنعت التناقضات تأريخه وحاضره، وأغلب الظن أنها ستصنع مستقبله أيضا … مشكلتي كانت في تلك التضادّات الجوهرية التي تعبث بمشاعر وأفكار (ومصائر؟) جمهوره العريض الممتد على رقعة جغرافية تتجاوز لبنان والمشرق العربي، وسأحاول هنا أن أستعرض بعضا منها:

دم غال، دم رخيص

كل من حاور الرحباني (من غير المُنبطحين أمامه) أشار الى ازدواجية صارخة في مواقف الموسيقي المُبدع والمُفكّر الثائر على الظلم الذي لا يحتمل ضميره أن يكون له حرس خاص قد يدفعون ثمن مواقفه المارقة، لكنه “هوي زاتو” مُعجب بعتاة الطغاة ومُمجّد لهم بالرغم من اقراره بكم الدماء التي لطّخت أياديهم … زياد لا يتواني عن الاشادة بستالين ولا أن يصف فلاديمير بوتين بأمل الأمة ومخلّصها، ثم يبرّر موقفه بأنه اختيار لأقل الشررور وان ذلك حال البشرية دائما، فستالين بنظره زعيم فريد لأنّه كان خيرا من هتلر، و”شو بدك” بما ارتكبه من مجازر ذهب ضحيتها مئات الآلاف! الأمر ذاته ينعكس على منظوره للأحداث في لبنان وسوريا، فبعد عقد من اصطفافه الفج مع الرئيس بشّار الأسد، نراه في آخر لقاءاته يقرّر أن يلقي باللائمة على النظام والمعارضة مناصفة، وليذهب دم الأبرياء المسفوك هباء!

… “أنا صار لازم ودعكن”

عثرت على تصريحات لزياد تعود الى قرابة عقدين أعلن فيها عن عزمه الهجرة من لبنان للاقامة في روسيا أو ألمانيا أو سواها من الوجهات الأوروبية (علما بأن رحيله الى سوريا قبل اندلاع المواجهات فيها كان سيكون الخيار الأكثر منطقية في ظل انبهاره بالحياة تحت حكم آل الأسد وكذلك لقربها من لبنان، لكن الفكرة لم تخطر أبدا على باله على ما يبدو!)  وقراءتي وسماعي لتعليقات العديد من الفنانين والمثقفين وهم يناشدونه بملحمية أغريقية (أو ربما جبرانية؟) أن يغادر، فاللبنانيون جاحدون لا يستحقون وجود “المُصطفى” بينهم … لست بصدد انكار عبقرية الرحباني الفنية فهي واضحة ماثلة، لكن أن يُحمّل مواطنيه “جميلة” لبقائه بينهم خلال سنوات الحرب ويبدي ندمه على ذلك استفزني وأنا غير اللبناني، فمن صنع زياد سوى ملامسته المُبدعة لأوجاع الناس واحباطاتهم وآمالهم خلال تلك السنوات؟ من كان سيعرفه أو يتزاحم لحضور حفلاته أو شراء أعماله لو أنه كان قد شد الرحال الى أوروبا في السبعينات؟ وأي مصير كان سيلقاه هناك؟ ألا يدرك أن حفلاته الأخيرة المكتظّة واحتفاء الاعلام به هما ثمرتا مسيرته تلك؟ ألا يعلم أي جحيم هي الغربة لرجل في مثل سنه واستعداده بل ميله المعروف للاكتئاب؟

Collective vs. Selective

 ذلك الذي يقول بأنه يسعى لكتابة موسيقى تشبه “منقوشة” الفقير وكلاما يفهمه اللاجئون في مخيّماتهم، كيف يمكن أن يتحوّل فجأة الى عاشق للكافيار وتتلبّسه روح ماري انطوانيت؟ لكن عجرفة زياد مع جمهور حفلاته ليست وليدة هذه الأيام، فقد كانت من أوائل ما قرأته عنه في صحف الاغتراب التي كانت تصلنا في بغداد في نهاية الثمانينات عندما كان شغفي بفيروز لم يزل في بدايته. تابعت وقتها مقالات عدة عن خيبة أمل حضور حفلاته الذين كانوا يمنّون أنفسهم بسماع معزوفاته الأثيرة على قلوبهم، لكنه كان يصر على تقديم ألحان غريبة عنهم في كل مرّة … للأسف، يبدو بأن المسافة الفاصلة بين المُبدع ومتلقيه قد بلغت أقصاها مؤخرا، فلا نكاد نجد له حوارا خاليا من تذمّره من “وقاحة” الجمهور الذي يطالبه بتقديم أعماله القديمة واستشهاده بواقعة الرجل الذي “تجرّأ” على سؤال بائع التذاكر ان كان زياد “رح يحكي” في حفله أم سيكتفي بالعزف، علما بأن السؤال مشروع تماما فالرحباني صاحب مشروع مسرحي موسيقي كوميدي، لكن الرفيق “الاشتراكي العلماني” كما يعرّف عن نفسه يشمئز ويستكثر على رجل بسيط كدّ في جمع مبلغ التذكرة في ظل وضع اقتصادي خانق، أو مغترب أمّل نفسه بسماع لحن مألوف علّه يهوّن من وجعه ويشم فيه نفحة من عبير فيروز، استكثر زياد عليهما شوقهما واستكبر عن تلبية رغباتهما، بل مضى أبعد من ذلك بتصريحه بعدم اكتراثه بعدم حصول محبيه العرب على تذاكر حفله الباريسي وتجمعّهم خارج القاعة الصغيرة في البرد القارس، فهدفه منذ البداية كان العزف أمام جمهور New Morning النخبوي الأوروبي، ثم يأتي بعد ذلك كله ليجأر بالشكوى من مؤامرات ومكائد الرأسمالية التي أدّت الى انهيار النظم “الاشتراكية” دون أن ينظر في مرآته ليعرف أن من أسباب السقوط “مناضلون” يطلقون شعارات رنّانة لا يتردّدون في أن يكونوا أول من يناقضها على أرض الواقع.

رفيق أحمر، رفيق Fuchsia

زياد القارئ الجيد للتأريخ والمتباكي على أيام عز الاتحاد السوفييتي فاته أن الأدب والفنون والعمارة قد شهدوا جميعا أسوأ عهودهم خلال تلك الحقبة، وليته يفسّر لنا كيف كان يمكن أن يكون حاله وطبيعة فنه وهو المجبول على التمرّد وتكسير القواعد بكافة أشكالها لو كان قد عاش في روسيا الشيوعية، هل كان سيرضى بالغاء هويته كفرد وتحويله الى مجرد صامولة في ماكنة هائلة تسخّر قدراته في الدعاية للنظام؟ نحن بحاجة أيضا الى أن يشرح لنا وهو حامل هم فلسطين ومعاناة شعبها كيف يستوي ايمانه الراسخ بالأمّمية البروليتارية وما تقتضيه من تعاضد الرفاق في شتى الأمم بغض النظر عن عداواتهم الاقليمية الضيقة ضمن عقيدة تدعو  الشيوعي اللبناني الى التواصل مع نظيره الاسرائيلي حتى وان كان الأخير في سدّة الحكم … كيف تستوي تلك المفاهيم مع معاداة زياد لاسرائيل ورفضه لكل أشكال التطبيع معها واتهاماته الصريحة لها بالوقوف وراء الدمار الذي  حلّ بسوريا؟

لدي حيرة أيضا بشأن تبشير الرحباني الدائم بروسيا ودورها الراهن والمستقبلي في الشرق الأوسط وتمجيده المتكرّر لبوتين، بينما نعلم جميعا أن روسيا تعد اليوم من أشد الداعمين لأسرائيل، كما لا يخفى على أحد أن علاقة بوتين الشخصية برئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو هي أكثر وثاقة بمراحل من علاقة الأخير بدونالد ترامب … في النهاية زياد حر في قناعاته ان طبّع أو امتنع، وربما تكون عنده تبريرات مقنعة لتصريحاته المتناقضة بذلك الخصوص. لعلّه يبادر بتوضيحها في البودكاست الذي اقترحته عليه، فقد التبس الأمر علينا.

مال ملوّث، مال مغسول

لا يستطيع عاقل أن يختلف مع رصد زياد الرحباني لتأثير بل هيمنة رأس المال الخليجي على الصحافة بل الاعلام بأسره والأدب والفنون في لبنان وسواه من دول المشرق العربي، سواء كان ذلك بمحاصرة ومصادرة الآراء السياسية والاجتماعية المعارضة، أو بفرض شركات الانتاج المملوكة جزئيا أو كليّا لمستثمرين من السعودية أو الامارات أو قطر لذائقة فنية شديدة التواضع على المتلقّين … عانيت شخصيا من ذلك طويلا وما زلت أعاني، فكتابي باللغة الانكليزية تعرّض للمنع لمجرد طرحي فيه تساؤلات عن الدين والتقاليد السائدة، كما يندر أن يسلم مقال منشور لي من عبث رقيب، لكنني لا أفهم منطقية أن يتمرد الرحباني على تلك السطوة بالارتماء في أحضان سطوة أخرى لا تقل سوءا وخطرا عنها. ألم يكن أجدر به أن يدعو الى ايجاد منابر مستقلة بديلة عوضا عن اللجوء الى الاعلام المموّل ايرانيا وسوريّا؟ هل الجريدة التي يخصّها بنشر مقالاته والمحطّات الأثيرة لديه موضوعية حقا أو منفتحة على الرأي الآخر؟ هل يمكن أن نرى أو نقرأ فيها يوما حوارات مع رموز المعارضة السورية على سبيل المثال أو نقدا للنظام هناك، أو حتى تقاريرا عن الأوضاع المزرية لحقوق الانسان في ايران؟

رفض زياد الرحباني المبدئي للتعاون مع شركات الانتاج الفني المملوكة خليجيا تم الالتفات عليه هو الآخر ومناقضته في تصريحاته عن مشاريع وألحان جديدة يعدّها لفنانات من لبنان وخارجه، بالرغم من علمه (واقراره) بأن المال الكثير الذي سيتقاضاه منهن تفوح منه رائحة البترول، فهل سيشترط عليهن أن يقمن بتطهيره قبل أن يحصل عليه؟ … ترى، أي مسحوق غسيل يفضّل زياد؟

… “بخصوص الكرامة والشعب العنيد”

كدنا نعتاد على سلوك بعينه لزياد الرحباني خلال لقاءاته التلفزيونية اللبنانية قد لا يخلو من خشونة تجاه محاوريه وشيئ من العدوانية – يُستثنى من ذلك المذيعين اللبنانيين العاملين في محطات التلفزة والاذاعة الأجنبية الذين تمتعوا بمعاملة تفضيلية – ظننا في البدء أن تلك ملامح شخصيته الحقيقية خارج المسرح حتى شرع بالاعداد لجولته الأخيرة والتعاطي مع الاعلام العربي فتكشّف لنا وجه مختلف تماما له، تحديدا في رحلته الأخيرة الى مصر التي بدا فيها ودودا بشوشا وسخيا الى أبعد الحدود في ثنائه على التراث الموسيقي الأصيل وبراعة العازفين وعبقرية المطربين وذائقة الجمهور … كل ما سبق حقائق لا جدال فيها كما أن اللطف ومجاملة المضيف صفات حميدة في أي ضيف، لكن ما لفت انتباهي كان اصرار الرحباني في كل لقاء على ذم بلده الأم وبني جلدته بقسوة (منفرة) لم يسلم منها حتى المواطن اللبناني البسيط الذي سخر زياد من سلبيته وعدم اكتراثه بالشأن السياسي وضحالة ثقافته الفنية وعشوائية حياته وقراراته.

لا شك بأن التحرّر من الشوفينية وقيودها انجاز يسعى الى تحقيقه كثر وأنا من بينهم، كما أن النقد هو السبيل الأمثل والخطوة الاولى في تطوير الذات، ومن المنطقي أن نجد في فم الرحباني مرارة متبقيّة من علقم الحرب الأهلية وما تلاها من صراع وفساد. كل ذلك مفهوم مقبول وأكاد أشارك زياد فيه، فحال العراق لا يختلف كثيرا عن حال لبنان، بل ربما هو أسوأ منه بمراحل، لكنني لا أجرؤ على ادانة و”بهذلة” شعبي بالعموم، فنحن ضحايا الأهوال التي مررنا بها وسلوك البعض الذي أخالفه في أحيان كثيرة صنعته الظروف القاسية التي عشناها وما زلنا نعاني تحت وطأتها … أمر آخر تعذّر علي فهمه هو كيف يمكن لزياد الرحباني الذي يرفع لواء الاصلاح السياسي ويبشر بحراك مجتمعي كما شارك في تأسيس تيار جديد سيسعى لأن يكون له حضور وتأثير على الساحة عن طريق الانتخابات، كيف يتوقع أن يستجيب الشباب اللبناني لدعوته ويجتمعون حول مشروعه وهو لا يفوّت فرصة دون أن يبدي فيها اشمئزازه منهم ويأسه التام من نهضتهم؟ أي عاقل سيعطي صوته لسياسي يشعر بالقرف منه؟

ازدواجية سلوك زياد الاعلامي لم تقتصر على لقاءاته المصرية والسورية التي جيّر فيها الارث الموسيقي اللبناني المعاصر (والقديم أيضا، فترتيلة “يا مريم” على سبيل المثال رجّح أن تكون حلبية الأصول، دون سند أو دليل) لصالح روّاد الفن في البلدين العريقين، علما أن لا أحد يستطيع أن ينكر وجود تفاعل وتأثير عابر للحدود بين الشعوب المتجاورة في أي مكان في العالم، لكن سقطة الرحباني الكبرى كانت عندما سُئل عن امكانية تلحينه لأصوات متواجدة على ساحة الغناء، وطُرِح عليه اسم مطرب شاب فقال زياد أنه لا يعرفه لكنه مستعد للعمل معه لو كان سوريا أو فلسطينيا، لا لبنانيا، وعندما لاحظ دهشة الموجودين حوله من ذلك التمييز الصارخ، حاول أن “يرقّعها” بزعمه أن السبب هو امتلاك تلك الشعوب لثقافة موسيقية … ولو يا زياد! هل شعب لبنان الذي أعطانا والديك العظيمين وسواهما من عمالقة الموسيقى الذين غيروا وجه الغناء في العالم العربي باكمله يفتقر الى الثقافة الموسيقية؟

استوقفتني أيضا ملاحظة طرحها ضمن لقائه مع التلفزيون العراقي واسترجاعه ذكريات زيارته لبغداد عندما أحيت فيروز حفلها الشهير فيها في أواسط السبعينات، اذ سأله المحاور عن استجابة الجمهور العراقي انذاك وطبيعة تفاعله مع غناء والدته، فأبدى زياد اعجابه برقي الحضور وحسن اصغائهم كما لو أنهم كانوا يحضرون حفلا للموسيقى الكلاسيكية، دون أن يغفل الاشارة الى ان تلك صفة مشتركة بين العراقيين والسوريين (لا اللبنانيين!) ثم تحدث عن علاقات الصداقة التي جمعته بعدد من المثقفين العراقيين الذين كانوا يزورون بيروت في تلك الفترة، مبديا استغرابه من ان العراقيين الذين يقابلهم في شوارع مدينته اليوم يبدون “غير شكل” أو بعبارة أخرى هم من محدثي النعمة منعدمي الثقافة (هذه من عندي!) وتساءل أين ذهبت تلك النماذج المُشرّفة؟

ليسمح لي الرحباني أن أجيب عن سؤاله، فأنا ابن ذلك الجيل وتلك الطبقة التي ابتلعت مدن الشتات البعيدة من بقي منهم على قيد الحياة بعد عقود من حكم نظام ديكتاتوري دموي حرص على تدمير بُنى بلدي التحتية والبشرية قبل أن يُسقط لترثه منظومة لا تقل عنه سوءا من أصحاب العمائم واللحى الذين أجهضوا آمالنا بالتغيير وبمستقبل قادم أفضل … أعلم جيدا أن زياد ليس من مريدي صدام حسين (ربما بسبب قمعه وابادته للشيوعيين) أو من مؤيدي الفساد المستشري في العراق اليوم على أيدي الاسلامويين على اختلاف طوائفهم، لكنه ليس بريئا تماما من التطبيل لنماذج مماثلة في بلده والجوار.

بعد نظر، قصر نظر

سؤال آخر تكرّر كثيرا عن قدرة الرحباني الاستثنائية على تحليل الاحداث واستقراء ملامح المستقبل الذي ستفرزه، خصوصا ما حذّر منه في أعماله المسرحية التي قدمها حلال سنوات الحرب، بل أن بعض المحاورين لم يتردّد في استخدام تعبير “النبؤات” لوصف تلك الملكة، وطالب زياد بأن يبوح بالمزيد، وكأنه يتحدث مع “ليلى عبد اللطيف” أو سواها من قارئي وقارئات الطالع في لبنان، وما أكثرهم !

لم أفهم صراحة وجه الاعجاز في أن يتوقع الرحباني في مسرحياته الانهيار الذي تلا الحرب الطائفية والمكاسب التي سيسعى تجّار النزاعات لتحقيقها، والانشقاق العرقي والطبقي والعقائدي الذي سيبسط سطوته على المجتمع وحياة الناس، فكل تلك من البديهيات … السؤال المنطقي الذي كان يجب أن يُطرح هو: أين كانت بصيرة زياد ووعيه عندما قرّر الاصطفاف مع فصيل ديني طائفي ذي أجندة أجنبية (هل هناك حاجة لتسميته؟) وراح يُجيّش المؤيدين له على امتداد أكثر من عقد، كي يأتي مؤخرا ويبدي ندمه على ذلك وقلقه من نشاط الفصيل الذي تغوّل على الدولة وسلطتها ودس أنفه (وسلاحه) في نزاعات بالوكالة خارج بلده؟ هل كانت قدراته التحليلية في سبات؟

الغريب أن الرحباني استنكر سلوك رجل سياسة لبناني بعينه دخل مؤخرا في مواجهة مع الحكومة ورفض الامتثال لارادة القضاء والسلطة التنفيذية، متناسيا أن هناك “ضواح” بأكملها في عاصمته وسائر بلده يتوقف تطبيق القانون عند حدودها، ولا يستطيع رجال الشرطة أو الجيش أن يدخلوها … أود أن أطلب من زياد قبل أن يشرع بحزم حقائبه للقيام بجولة أوروبية ثانية أو لغرض الهجرة والاستقرار بشكل دائم في مدن الشمال، أطلب منه أن يتذكر بأن الوضع الكارثي الذي يريد الفرار منه بسبب الانهيار المشين للنظام كان هو أحد المشاركين في صنعه والمروّجين له، وان مسؤولية تصحيحه وتقويمه تقع عليه قبل أن تفع على عاتق المواطن المسكين “المعتّر”.

أفلا يحق لزياد الرحباني اذا أن يكون له رأي وأن يخطئ ويصيب كما يحق لسواه من عامة الناس؟ قد يسأل البعض … بالطبع يحق له ذلك، ولا يستطيع أحد أن يحاسب الآخرين على أفكارهم، المحاسبة تكون فقط على الأفعال والتحريض على الأفعال، وهنا مكمن خطورة ثرثرات زياد الأخيرة وهو صاحب التأثير على آلاف من المتابعين والمعجبين. تبقى في النهاية احتمالية (ضئيلة؟) أن طبيعة اللقاءات وعدم توفّر الوقت والاستعداد الكافيين للاجابة عن أسئلتها بتمعن كانا وراء فوضوية الآراء المطروحة وسوء فهم صاحبها، لذلك السبب كان اقتراحي أن يقوم الرحباني بعمل بودكاست يتيح له توضيح وجهة نظره بالتفصيل، لكنه قد يود أن يرجع أولا الى تصريح قديم أدلت به فيروز الى مذيعة هيئة الاذاعة البريطانية ذكرت فيه أن هناك عتب عليها لقلة حواراتها، وبرّرت ذلك بأن الكلمة مسؤولية وانها تعبّر عن نفسها من خلال فنها … ليت زياد الرحباني يتأمّل كلمات والدته جيدا قبل أن يتحدّث الى الاعلام في المرة القادمة، فلعلّه يرحم نفسه، ويرحمنا!

مهندس معماري وكاتب عراقي/ نيوزلندي، مؤلف كتاب “صدام وأنا ومتلازمة ستوكهولم” .

أضف تعليقك