صدور "معجم تمهيدي لنظرية التحليل النفسي اللاكانية"

صدور "معجم تمهيدي لنظرية التحليل النفسي اللاكانية"
الرابط المختصر

صدر حديثاً عن نينوى للدراسات والنشر والتوزيع/ دمشق، "معجم تمهيدي لنظرية التحليل النفسيّ اللاكانية" لـ إيفانس ديلان، حيث أنجزَ الترجمة: د. هشام روحانا.

 

وقدّمت للعمل المترجمة والباحثة الفلسطينيّة أماني أبو رحمة، إذ افتتحت باقتباس من مقابلة أجراها إيميليو غرانزوطو مع لاكان ونشرتها مجلة بانوراما الإيطالية عام 1974. لتفتح السؤال بعدها، "هل أصبح لاكان عاديا جدا ومفهوما حتى بعد مرور ما يزيد عن ثلاثة عقود على هذه النبوءة؟.

 

يشار إلى أنَّ "ديلان ايفانس"، هو أكاديمي بريطاني مواليد عام 1966، تأهل ليكون محللا نفسيا لاكانيا في بوينس ايريس، باريس، ولندن، عمل محاضرا في جامعات شرق بريطانيا، و له مساهمات عديدة في جريدة الـ" جارديان" البريطانية، ونشر العديد من الكتب. مجال تخصصه الحالي هو العلاقة ما بين النفس البشرية والعلم، ودراسة المشاعر والتأثير الوهمي (الغفل) للعقارات الطبية.

 

والمترجم هشام روحانا من مواليد عام 1958 في مدينة حيفا – الكرمل، فلسطين ومقيم فيها. طبيب عام وأخصائي أمراض باطنية ومتخصص بأمراض الحساسية وجهاز المناعة. حاصل على إجازة في الفلسفة والاقتصاد السياسي. مشارك في " مدرسة الشمال" لدراسات التحليل النفسي اللاكاني. من مؤسسي جمعية "حوار" للتربية البديلة- حيفا.  له العديد من المقالات والترجمات على موقع "الآوان" و "الحوار المتمدن" كما في الصحف الثقافية في الداخل الفلسطيني. مهتم بالعلاقة بين التحليل النفسي والماركسية و دراسات الجندر وعلاقاتها بالسينما والأدب.

 

يذكر أن الكتاب متوافر في معرض عمّان الدولي للكتاب 2016، والمقام على طريق المطار في الفترة ما بين 28-9/8-10-2016.

 

وتنشر عمّان نت مقدمة الكتاب التي أنجزتها أبو رحمة، وتالياً نص المقدمة:

 

 

جاك لاكان وهذا الكتاب

 

" غرانزوطو: لكن فرويد صعب. ولاكان، كما يقولون، يجعله غير مفهوم البته. لاكان متهم بأنه يتحدث ويكتب، بطريقة لا يأمل في فهمها سوى عدد قليل جدا من العلماء البارعين....

لاكان: أعلم، أعلم، إنهم يصفونني بالغامض الذي يخفي تفكيره وراء ستار من دخان. أنا أسأل نفسي لماذا؟ وأكرر، مع فرويد، التحليل هو "لعبة بينذاتية تستدعي الحقيقة إلى الواقع ". أليس هذا واضحا بما فيه الكفاية؟ التحليل النفسي ليس لعبة أطفال. يقولون إن كتبي غير مفهومة. ولكن لمن؟ أنا لا أكتب للجميع، ولا أعتقد أن أي شخص يمكن أن يفهم ما أكتب. على العكس من ذلك، لم أبذل جهدا يذكر لتلبية أذواق القراء، بغض النظر عمن هم. كان لي ما أريد أن أقوله، وقد قلته. بالنسبة لي، يكفي أن يكون هناك جمهور يقرأ أعمالي. إذا لم يفهموا، حسنا، دعونا نتحلى بالصبر. أما بالنسبة لعدد القراء، فأنا أكثر حظاً من فرويد. ربما أن كتبي تقرأ على نطاق واسع جدا مقارنة به - هذا مدهش. أنا مقتنع أيضا أنه في غضون عشر سنوات على أقصى تقدير، سيجد من يقرأ أعمالي أنها شفافة تماما، مثل كوب من البيرة الجيدة. ربما بعد ذلك سيقولون: هذا لاكان، لقد كان عاديا جدا! ".

 

هذا الاقتباس من مقابلة أجراها إيميليو غرانزوطو مع لاكان ونشرتها مجلة بانوراما الإيطالية عام 1974. ولكن هل حقا ؟ هل أصبح لاكان عاديا جدا ومفهوما حتى بعد مرور ما يزيد عن ثلاثة عقود على هذه النبوءة؟

 

جاك لاكان (1901-1981)، واحد من أكثر الظواهر الملحوظة في التاريخ الفكري للقرن العشرين. حتى العام 1966، عندما نشر الكتابات Ecrits في سن الخامسة والستين، كان عدد قليل جدا من الناس، عدا مجموعة صغيرة من المثقفين الباريسين، على علم بوجوده. وحتى داخل حركة التحليل النفسي كان إلى حد كبير شخصية ثانوية، طبيب نفسي غريب الأطوار بنكهة سريالية دون أي مساهمة تذكر في نظرية التحليل النفسي وما كان معروفا عنه، هذا إذا كان معروفا، هو رفضه العنيد للمبادئ التوجيهية العلاجية التي تم انتهاجها بعد فرويد. ومع ذلك، لمع نجم لاكان في الستينيات وبدأ في كسب تأييد عدد متزايد من المثقفين الفرنسيين. وعلى الرغم من انه لا يزال غير معترف به تقريبا من قبل المحللين خارج فرنسا، فقد أصبحت نظرياته مألوفة جدا في تخصصات الأدب الجامعية. في الثمانينيات أصبحت النظرية اللاكانية مرادفة للتحليل النفسي في عدد لا يحصى من أقسام العلوم الإنسانية في جميع أنحاء أوروبا وأمريكا. فكان فرويد في هذه الأقسام الأكاديمية يدرس ليس بوصفه منشئ التحليل النفسي، ولكن لأنه كان سابقا على لاكان. واعتبرت النظرية اللاكانية الشكل الحديث الوحيد الصحيح فكريا من التحليل النفسي، وصار ينظر إلى فرويد إما بوصفه مخترع النموذج الخام أو الإله الذي كان من المقرر تبجيله من حيث المبدأ، لكن تم تجاهله في الممارسة العملية.

 

والسؤال ماذا قدم لاكان للفكر الانساني ليكون أحد أهم ثلاثة أو أربعة مفكرين فرنسيين أثروا حقبة ما بعد الحداثة ؟ ثم ما رأي منتقديه الكثر في أفكاره الراديكالية وانعطافته الباراديمية الأكثر تأثيرا، ربما، في التاريخ الانساني المعاصر كله؟

 

قدمت "اللاكانية" التي تطورت في ستينيات القرن الماضي، في ذروة ما بعد الحداثة، نفسها بوصفها مادة قراءة حديثة للأعمال الفرويدية بالذات وكانت ترى "أن اللاوعي مبني كاللغة". وهذه إحدى أهم المقولات المشهورة المقترحة من لاكان، أما الثانية فهي "أن اللاوعي هو خطاب الآخر"، الأمر الذي يسمح بأن نرى "تكون الذات مثل خطاب مستحيل ". كان لاكان يرى أن الاستعارة والمجاز والكناية جوهرية للتحليل النفسي ويؤكد في الكتابات "إن ما تكشفه تجربة التحليل النفسي هو بنية اللغة بكاملها". لقد تحولت اللغة على يد لاكان من "وسيط " بين اللاوعي والعالم العلاجي إلى شيء يُعرِف اللاوعي نفسه.

 

اللغة عند لاكان تشوه تجربتنا الفردية بطريقة لا يمكن تجنبها ولكن لابد من تقبلها بوصفها الوعاء الذي نُقذف إليه. إنها تكوننا بما نحن ذوات ف/ب/ اللغة. اللغة عنده تقوم على الغياب، أو على النقص الجوهري. فالطفل الذي يفقد ارتباطه العضوي بأمه يحاول أن يستعيد الإحساس الماضي بالارتباط الهارموني مع الأم. يمكن النظر إلى ترميز الطفل اللفظي بوصفه إرغاما على التعبير. ولكن اللغة تُعرف الأم والطفل بوصفهما كينونتين منفصلتين ومن ثم فإن رغبة الطفل في الاتحاد بأمه تبقي غير مشبعة وعليه فإن اللغة مرتبطة دائما بالرغبة، الرغبة التي تصف توق الطفل لاسترداد التعايش المفقود مع الأم. قدر الإنسان أن يعيش النقص الذي لا شفاء منه، "نقص الكينونة " أو كما أشار إليها لاكان أيضا " الرغبة بالآخرين" ــــ يقول لاكان" الرغبة هي علاقة الكائن بالنقص". هذا النقص هو نقص أن تتحدث فتقول الحقيقة كاملة. "إنها ليست عدم وجود هذا الشيء أو ذاك، ولكن نقص الكائن حيث يكون موجودا ".

 

ساهم التحليل النفسي اللاكاني في توضيح كيف أن اللغة في جوهرها إقصائية وغير كافية، تلازم الجانبين: الأداء والاستماع. يمكن القول إن لاكان هو نتاج الثقافة المتشظية التي بيّن وجودها فرويد ولكنه وسع المفهوم الفرويدي لتتحول الذات لديه إلى تشظيات دقيقة غير مسبوقة في الثقافات الإنسانية. ركز جاك لاكان على نشوء الإحساس بالذات ووظيفة الأنا، وذلك بعد أن نشر عددا من الدراسات حول حالات خبرها بوصفه محللا نفسيًا. أطلق لاكان على هذا النشوء اسم (مرحلة المرآة) بوصفها أحدى المراحل على سلم تطور وعي الطفل لنفسه لذاته خلال العامين الأولين من حياته. وافترض فيها أن وعي الطفل لذاته يتشكل أثناء دخوله عالم اللغة والرموز، وتبعًا لذلك فلا بد أن يكون هذا الوعي مرتبط بالإحالة أو الإشارة إلى آخر. وهذا الآخر قد يكون صورة الطفل في المرآة أو قد يكون الأم أو أي شيء أخر متعلق بالطفل من خلال الآلية الفرويدية المتعلقة بالهوية النرجسية.

 

كان تناول لاكان لمرحلة المرآة أحد أهم أسباب تسليم ما بعد الحداثة بأن الإنسان محض وهم أو خيال. ذلك أن صورة المرآة هي النموذج الأول والأساس لموقف الطفل المستقبلي بالنسبة للصور، واللغات، والكائنات.

 

وقد كانت هذه الصورة بالنسبة للاكان كذبة كبيرة لأنها تثبت صورة شيء لا وجود له على الإطلاق، إنها صورة تناغم واستمرارية لذات متشظية فعلا. وصورة المرآة ليست إلا محاكاة زائفة لذات متكاملة. وعلاوة على ذلك فإنها تقسم الذات إلى: الصورة (Me) التي هي ثابتة ومتواصلة ضد الـ (I) التي تنظر إلى الصورة والتي تمثل دوافع ورغبات واحتياجات وإدراكات متغيرة ومتحركة باستمرار. ويمثل هذا الموقف محاولة مستحيلة لدمج الذات في هوية الناظر والمنظور: الإنسان والشيء. وبالنسبة للاكان فإن هذه (النظرة) ليست سوى إحالة (referring) كما أنها تشظيات وتشتيت للوحدة والتماسك. ذلك أن صورة المرآة الناعمة المتكاملة والمتواصلة تعد وهما بالمقارنة مع طبيعة علاقة ذات الطفل المتشظية والمتقطعة بنفسه وبأمه التي عليه أن ينفصل عنها. ويؤكد لاكان أنه لا يعني المرآة حرفيًا ولكن " فكرة المرآة يجب أن تفهم بوصفها شيئًا لا يعكس ما يُرى فحسب ولكنه يعكس كل ما يسمعه ويلمسه ويرغب فيه الطفل ".

 

ربط لاكان العين (eye) في المرآة بالأنا (I) في اللغة [لاعبا على التجانس اللفظي، كعادته]، تلك السمة الأكثر إضطرابا في اللغة والتي تعني ـ بوصفها التحويلي الإشاري ـ ذاتا مختلفة في كل مرة تنطق فيها. وهكذا فإن الـ(أنا) وبسبب طبيعتها اللغوية الخاصة تشتت الذات إلى انقطاعات مستمرة في كل مرة تتلفظ بها بـ(أنا)، وكما أن العين في المرآة تتغير دائما فإن الأنا في اللغة لا تستقر على حال. وهكذا، وبدلا من التأكيد على كلانية واستمرارية الذات، فإنها تتشتت وتتشظى باللغة وهو ما عناه لاكان عندما قال " أن الذات تتموضع باللغة"، التي هي نظام خارجي، يتهيكل على أساس عدم الاستقرار، والتشتت، والتشظي، والفقد. وفي مرحلة المرآة تبدأ قدرة الطفل على الترميز لأن الطفل يشعر لأول مرة بأن هناك شيئًا مفقودًا. وهكذا فإن جوهر اللغة بوصفها استبدلا يعتمد على شرط مسبق وهو الاعتراف بالفقد، والغياب، وعدم وجود ما نرغب به. ذلك أننا لا نحتاج إلى الرمز حين لا يكون هناك شيئا مفقودًا. إن نظام اللغة التي يجب أن تدخل إليه الذات التواصلية وتتموضع من خلاله هو الفجوة بين ما هو مرغوب ولكنه مفقود، وبين هوية الصورة والشيء المعروض أي الدال.

 

وهكذا فإن الذات ليست سوى وهم. والحقيقة الوحيدة هي اللا-هوية: الفجوة أو الانقسام بين الرمز وبين ما هو مفقود إلى الأبد. الدال بحد ذاته هو عنوان هذا الفقد. إنها مأساة الإنسان داخل الخطاب حيث ينزلق المدلول باستمرار مبتعدا عن الدال. وهكذا فإن الفصام كما يحدده لاكان هو" فشل الطفل في التوافق مع اللغة والكلام"، وتعطيل العلاقة بين الدوال.

 

لقد شكلت هذه (الحقيقة) اللاكانية، التي تؤخذ بوصفها فجوة رمزية وتشويشًا صريحًا، ما يمكن أن نطلق عليه جريمة قتل ما بعد الحداثة للإنسان المذهول من عمق هذه الفجوة واستحالة لحمها. تشكل هذه الفجوة (Gap) الشكل الذي تتخذه الذات في علاقاتها مع ذاتها ومع الآخر فتغدو مغتربة عن ذاتها وعن الآخر. إنها الخواء الجوهري الموضوعي والخطير لإنسان ما بعد الحداثة.

 

يتبنى لاكان الثالوث الفرويدي: الهوية، والأنا، والأنا العليا. ولكن لاكان يرى أن محاولتنا المستمرة لتشكيل "أنا مثالية" مستقرة طوال حياتنا مهزومة ذاتيا. بالتأكيد يمكننا التعرف على "الذات"، على أنفسنا، شريطة أن نتذكر أن مركز وجودنا هذا ليس كيانا ثابتا، ولكنه ببساطة شيء يسوي "خلاقات خطاباتنا " الداخلية. وأن هذه "الذات" تتشكل ويعاد تشكيلها مجددا في مواجهتنا مع الآخر، المفهوم الذي بدوره يتحول تبعاً للسياق. الآخر هو الأب داخل المثلث الأوديبي الذي يمنع سفاح القربى. والآخر هو أنفسنا عندما نقبل قيود سن البلوغ. والآخر هو أيضا الذي يتحدث عبر الانقسام الذي نحمله بين اللاوعي والوعي. وبطبيعة الحال: لا بد أن يكون مرتبطا باللغة نفسها. وبقدر ما كان لاكان يرى اللغة، بل كل الخطابات، بوصفها مخترقة باللاوعي وتبعا لذلك، فانها تفتقر إلى الحقيقة أو الاستقرار، بقدر ما أنه ما بعد حداثي و ما بعد بنيوي.

 

كان للاكان أيضا ثالوثه الخاص: الواقع والخيالي والرمزي. الواقع هو خارج اللغة ولا يمكن تسميته. والخيالي هي المرحلة الأولى غير المتمايزة للطفل، اتحاد الأم والطفل، التي لا تزال كامنة في حياة الكبير، ويظهر عندما نتماهى زورا مع الآخرين. والرمزي هو عالم الكبير المخطط مع التمييز والقمع القسري. لا ينعكس اللاوعي ببساطة في اللغة التي نستخدمها، ولكن يتم التحكم به.

 

عند هذا الحد يمكننا تلخيص القضايا ذات الأهمية الأساسية في التحليل النفسي اللاكاني التي حولت النموذج الفكري الانساني في حقبة ما بعد الحداثة:

•       تبعثر الذات.

•       استحالة الحياة النفسية الموحدة المتناغمة.

•       أسبقية الدال على المدلول في اللاوعي

•       العلاقة الهشة وغير المستقرة مع الآخر.

لم يتقبل معاصرو لاكان افكاره بسهوله، وتعرض الرجل الى هجوم حاد على أكثر من صعيد. ليس مجال التحليل النفسي ومشكلاته مع الجمعيات الخاصة به في فرنسا وأمريكا الا أحد جوانب هذه الصراعات والمجادلات التي خاضها مع معاصريه والتي يتواصل بعضها حتى اليوم. بالنسبة لرافضي أفكاره، كان لاكان محيرا. فطور المرآة بالنسبة للكثيرين، هو افتراض محض. والكلام، وفقا لفرويد، يظهر مع عقدة أوديب، وبالتالي متأخرا بكثير عما يفترضه نموذج لاكان. ووفقا لريموند تاليس، المفكر الذي تدرب في الطب، كان لاكان مرفوضا وتافها. فاللاوعي لا يتشكل مثل اللغة، وليس هناك أي دليل على ذلك حتى الآن. انتقد لاكان أيضا بسبب التنظير للحياة الجنسية. فالعالم الوهمي ملتحم متوافق مع الانوثة، ولكن عند توظيف اللغة العامة فإننا نقذف في عالم ذكوري من النظام، والهوية، والتماسك والمنع، الثيمة التي تناولها نقاد النسوية.

 

في تفسيره ما بعد الفرويدي للأودوبية وغيرها من ملامح الجنسانية المبكرة للطفل الرضيع، يرى لاكان أن موضع الإناث بوصفهن كائنات غير جوهري، وهو الرأي الذي أثار حفيظة النسويات. كما أن فرضية انتزاع الأب للطفل من الأم، وإغوائه في النظام الرمزي، أيدت أيضا السخط النسوي عليه. ولكن ملاحظة كريستين كامبل الدقيقة في كتابها (جاك لاكان والابستمولوجيا النسوية ) الصادر عام 2004 جديرة بالاهتمام على هذا الصعيد. ترى كامبل أن النقد النسوي للاكان يستند إلى منشوراته الأولى الكتابات، ويغفل تطورات لاحقة في عمله. إن توظيفها المتميز للسيمنارات الأخيرة يعد تحديا صعبا ساهم في اعادة طرح نظريات لاكان في الذاتية والعلاقات الاجتماعية من منظور النسوية. ولا يفوتنا هنا أن نذكر نسويات التحليل النفسي بالصيغة اللاكانية اللواتي انحزن لفكرة بناء الذات من خلال الخطاب. ضم هذا التيار من النسوية الفرنسيات: جوليا كريستيفا و لوسي إيريجاري، هيلين سكسس، وكاترين كليمان اللواتي عرفن بمشروعهن "الكتابة الانثويةecriture feminine؛ محاولة الكتابة من أجل تجسيد موقع المرأة في الخطاب بهدف تحدي موضعة النساء في الثقافة المتمركزة حول الفالوس. لقد ركز خطابهن على أن المرأة بحاجة إلى التخلي عن اللغة المحايدة والعلمية والذكورية والاحتفاء بالإبداع المتمرد الكامن في التجربة الذاتية للجسد الأنثوي. وهن بذلك يحاولن إدراك الانثى / الأنوثة، الجنس / الذات خارج التعريفات البطريركية للمرأة. والنقطة الحاسمة، برأيهن، هي أن نفهم الثقافة على مستوى اللغة استنادا إلى المفاهيم اللاكانية. وعند هذا الحد أيضا يمكننا أن نلخص أهم الثيمات اللاكانية التي وظفتها النسويات في مقارعتهن المتواصلة للطرق التي تصيغ بها الثقافة السائدة مفاهيم الهوية، والنظرة إلى العالم، والوجود، والعقل، والجسد.

•       إن الهوية الجنسية مكتسبة في العقدة الأوديبية، وليست فطرية.

•       إن التمايز الجنسي مثمن رمزيا في النظام الأبوي، وليس بيولوجيا.

•       الفالوس رمز، وهو ليس القضيب.

•       إن اخضاع النساء بالعلاقات الرمزية للسلطة، وليس لأنهن أقل شأنا طبيعيا.

•       الهويات الجنسية غير مكتملة أبدا. والنساء لا "يتلاءمن " مع الموضعة الذاتية " التي يُستجوبن من خلالها. ذلك أن لاوعيهن "لا يختار " مثل هذه الموضعة في الخطاب السائد.

•       إنها تمنح الاناث التلذذ jouissance الذي يرغب به الذكور. يرى الذكور أنفسهم في موقف فنتازي يتعاظم ضمن رمز الفالوس الكلي السلطة. الاناث، بالنسبة للذكور، يرمزن إلى "الكائن المفقود"؛ " ال-آخر " الذي جرت موضعته في درجة أدنى في الاقتصاد الفالوسي. لكن اللاكانية تمنح الاناث في الوقت ذاته، ما لا يمكن الحصول عليه خارج علاقة السلطة الفالوسية. التلذذ، الذي يعزز قدرتهن على مقاومة الموضعة المفروضة عليهن.

 

يرى منتقدوه أيضا أن معادلته عن اللغة والثقافة لا تأخذ في الاعتبار السلطة و الايديولوجيا والمؤسسات الاجتماعية، كل منها يمكن أن يسهم أيضا بالصدمات والانقسامات الداخلية.

بعد هذا العرض، سيكون من الإنصاف أن نقول أن عددا قليلا جدا من مفكري القرن العشرين أحدثوا مثل هذا التأثير بعيد المدى على الحياة الفكرية اللاحقة في العلوم الإنسانية كما فعل جاك لاكان. لا يتعلق الأمر بالتحليل النفسي أو العودة إلى فرويد فحسب، وانما في مجالات علم الجمال والانثروبولوجيا والنقد الأدبي ونظرية الفيلم والنسوية وفلسفة اللغة والفلسفة الأخلاقية ودراسات ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية. ثم وبفضل عمل اللاكانيين اللاحقين؛ وارنستو لاكلو، وجانيس ستافراكاكيس، وسلافوي جيجك، على سبيل المثال، وضعت اللاكانية بصماتها أيضا على النظرية السياسية، وخاصة تحليل الأيديولوجية والتناسخ المؤسساتي.

 

قبل عشرين عاما تنبأ جاك آلان ميلر (الذي ائتمنه لاكان على ارثه العلمي) أن الجميع سيصبح لاكانيا. ولربما أن هذه هي النبوءة التي تحققت، وليس نبوءة لاكان عن أنه سيصبح مفهوما جدا. لم يصبح لاكان مفهوما فضلا عن أن من تناولوه لاحقا لم يبذلوا الجهد المطلوب في تقديمه كما يجب أو في الاستفادة من أرثه كما يستحق.

 

في الطرح الثقافي العربي، لا زال لاكان غامضا ومشوشا. واقتصر تناولة، هذا إن تم تناوله أصلا، على تخصصات فرعية محدودة في بعض الجامعات المتميزة. أن تقرأ عن لاكان، أو عن بعض جوانب نظرياته، أو عن توظيفات أفكاره في سياق ما بعد الحداثة أو ما بعد البنيوية، لا يعني أبدا انك دخلت عالمه الواسع الشائك المتشابك العلوم والمعارف. أن تدخل عالم لاكان يعني أن تطرق باب مصطلحاته النادرة وشروحاتها وتوظيفاتها وتأثيراتها وتشابكاتها وتعدد التخصصات الفرعية التي اتكأت عليها.

 

يلعب ضعف حركة الترجمة وانتقائيتها في العالم العربي دورا أساسيا في ذلك القصور المعرفي بلاكان وغيره من العلماء والمفكرين اصحاب الفكر الموسوعي المتشعب الواسع التطبيقات. ومن هنا تأتي أهمية هذه الترجمة التي أنجزها الدكتور هشام روحانا لكتاب ( معجم تمهيدي لنظرية التحليل النفسيّ اللاكانية) الذي وضعه إيفانس ديلان عام 1995.

 

يوظف لاكان منظومة مصطلحات خاصة به، جاءت نتيجة عبقرية متفردة واطلاع واسع على مجالات علمية دقيقة وبحث عملي دؤوب ومتواصل. لذلك فإنها لاكانية محضة لا تحيل إلا على ذاتها. ولا مناص لكل من أراد الولوج إلى عالم لاكان الصاخب عن الدخول من بوابة مصطلحاته واحالاته وشروحاته التي ساهم هذا المعجم في تسهيل الوصول اليها لدراسي لاكان بالانجليزية على يد ديلان، ثم بالعربية على يد روحانا.

 

بذل روحانا وقتا طويلا وجهدا كبيرا في انجاز هذه الترجمة. انعكس ايجابا على جودة ودقة وسلاسة وتنظيم محتوى هذا الكتاب وشكله.

 

ولقد عمد إلى تجاوز إشكالية المصطلحات ترجمة أو تعريباً، وذلك بتوظيفه مفردة حية معاصرة واضحة غير ملتبسة مع مفاهيم موظفة في مجالات أخرى ـ كما أنه أظهر براعة ملحوظة في نحت اشتقاقات جديدة بالعربية ستتحول لاحقا بفضل دقتها وتفردها، إلى ترجمات معتمدة للمصطلح الأجنبي.

 

ليس المعجم الذي يقدمه لنا هشام روحانا مجرد معجم يحتوي المصطلح الأجنبي بالفرنسية والانجليزية (والالمانية إن تطلب الأمر) وترجمته إلى العربية فحسب، وانما هو مدخل واسع ودليل ارشادي واضح إلى نظريات لاكان وإلى أهم أفكاره التي ساهمت في تغيير النموذج الفكري الانساني منذ منتصف القرن الماضي، وأحدثت ما يمكن أن يعقد انقلابا في التفكير الانساني تجاه مواضيع ومفاهيم كانت راسخة ثابتة راسبة قي قاع العقل البشري لم يطالها الفكر الانساني الا بحذر ومن بعيد جدا: كالذات والهوية واللغة والدين.

 

كان للخبرة العملية والمهنية للمترجم، بوصفه طبيبا، كما لثقافته واطلاعه الواسع، بوصفه ناقدا أدبيا وكاتبا ومترجما، أثرا بارزا تجلى في الترجمة الدقيقة للمصطلحات والشروحات التي تتضمن حالات سريرية أو توصيفات طبية. تظهر الترجمة التي بين أيدينا تمكن المترجم من اللغتين العربية والانجليزية الأمر الذي جعل من الكتاب تحفة لغوية أدبية ناهيك عن الصرامة العلمية المطلوبة في مثل هذه الموضوعات.

 

تكمن أهمية هذا الكتاب في أنه يشكل إضافة معرفة نوعية إلى المكتبة البحثية العربية الحديثة، ويقدم نظرية لاكان بشكل أكاديمي يكاد يكون متفرداً. وكل ما نرجوه هو أن يحصد المترجم نتاج بحثه الدؤوب العنيد وأن يتحقق غرضه في أن يساهم كتابه في التثاقف والتبادل الحضاري والفكري والانساني وأن يكون عونا للدارس العربي الجاد على استيعاب هذه النظريات المعقدة وتطوير معارفه وقدراته البحثية من أجل مساهمة عربية أرقى في الفكر الانساني الكوني.

 

 

 

 

المؤلف د.ديلان ايفانس

"ديلان ايفانس"، أكاديمي بريطاني مواليد عام 1966، تأهل ليكون محللا نفسيا لاكانيا في بوينس ايريس باريس ولندن، عمل محاضرا في جامعات شرق بريطانيا، له مساهمات عديدة في جريدة ال" جارديان" البريطانية، ونشر العديد من الكتب. مجال تخصصه الحالي هو العلاقة ما بين النفس البشرية والعلم، ودراسة المشاعر والتأثير الوهمي (الغفل) للعقارات الطبية. من كتبه:

 

The Utopia Experiment (2015)

Atheism: All That Matters (2014)

Risk Intelligence: How to Live with Uncertainty (2012)

Emotion, Evolution and Rationality (2004)

Placebo: The Belief Effect (2003)

Introducing Evolution (2001)

Emotion: The Science of Sentiment (2001)

Introducing Evolutionary Psychology (1999)

 

 

أضف تعليقك