حوار مع د. جورج الفار مؤلف كتاب "الفلسفة والوعي الديني"
يركّز أستاذ الفلسفة في الجامعة الأردنيّة الدكتور جورج الفار مؤخراً في ندواته وآخر مؤلفاته "الفلسفة والوعي الديني" على الفكرة الفلسفية والخطاب الديني، في نشاطٍ واضحٍ، دفعه إليه "ما يشهده العالم من تغييرات كبرى أهمها "ظاهرة الانغلاق" والتراجع إلى الهويات الصغرى في الوقت الذي يدفعنا فيه العلم إلى الانفتاح والتحرر من أوهام الماضي".
وكان لـ عمّان نت هذا الحوار مع الفار
- لماذا الآن وهنا؟ ولماذا الفلسفة والدين؟ وهل يجتمعان؟
- لفكر البشري ليس آنياً إنما فكراً تاريخانياً وتراكمياً مستمراً، أما لماذا الكتابة والحديث عن الفلسفة والدين فهما الموضوعان اللذان يتنافسان لبناء تصورات الإنسان حول الكون والعالم والحياة لخدمة أغراضهما؛ فالدين يدعي أنه يبني تصوراً واضحاً لهدف الإنسان من الوجود وليعطي معنى للوجود ذاته، كذلك الفلسفة التي تدعي في إحدى تعريفاتها أنها "علم الوجود" بين ما يدعيه الدين وما تدعيه الفلسفة، هناك مسافة، ومنطقة رمادية يتنازعها الطرفان، إلا أن للفلسفة أفضلية لأنها تربط نفسها بالعلم أي أنها لا تتفلسف إلا بعد أن يبرهن العلم على ظواهر العالم، مما يعطيها بعداً علمياً ومن ثم مادياً، أكثر من كونه تصورياً ماورائياً دينياً.
أما إذا كان الدين والفلسفة يجتمعان معاً، فالمواقف متضاربة، فأصحاب الفلسفة المادية يقولون باستحالة هذا الاجتماع، وأصحاب الفلسفة المثالية يقولون بإمكانية الاجتماع على بعض المواضيع وأهمها الموضوع الأخلاقي، أما أصحاب الفلسفة الواقعية فيقولون بأن الدين موجود والفلسفة موجودة فلا بد من الاعتراف المتبادل واختيار واستكشاف مجالات التعاون.
- لماذا اخترت مثل هذا العنوان إذاً "الفلسفة والوعي الديني" هل للتوقيت علاقة به؟
-يعاني الوعي الفردي والقومي والإنساني من أزمة كبرى فالوعي الفردي متشظي في ظل تشظي العالم بأجمعه، والوعي القومي في أزمة، لأن شعوب العالم الثالث ومنها الشعب العربي منقسم على ذاته ولم يغادر وعيه القديم إلى الوعي العلمي الجديد، والوعي الإنساني في لهاث مستمر محاولاً الجمع بين ما حققه من تقدم علمي وتكنولوجي، وما لم يحققه من تقدم أخلاقي وروحي يوازي تقدمه في المجال التكنولوجي.
أما لماذا هذا العنوان بالذات؟ فالمسألة بسيطة تتعلق بالوعي الديني الذي ظل حبيس الماضي فهو ماضوي بامتياز لأن النصوص المقدسة تقيده وتمنعه من الحركة والتقدم إلى الأمام.
أما الموضوعان القادران على مساعدته في تحرره وفكاكه من قيده: فهما الفلسفة والعلم اللذان استطاعا أن يواكبا الإنسان في حركة تقدمه بل دفعاه إلى الإتيان بأعمال وإنجازات تفوق فيها الإنسان على نفسه وعلى الطبيعة التي أنجبته.
هدف كتابي هو أن تحاول الفلسفة تثوير الوعي الديني بمساعدة من العلوم الإنسانية، وتكشف للدين أزمته البنيوية وضعف منطقه وبراهينه العقلية، لتضعه أمام مرآة المستقبل لا مرآة الماضي، ولينظر إلى نفسه فيها ليجد أنه تأخر عن اللحاق بركب العلم وركب الإنسان ذاته الذي سافر في مركبة العلم إلى المستقبل.
أما سؤالك عن التوقيت فهو مهم جداً، فالتوقيت العالمي والمحلي دفعاني إلى الكتابة الآن، ليس بضغط من الوقت، بما يشهده العالم من تغييرات كبرى أهمها "ظاهرة الانغلاق" والتراجع إلى الهويات الصغرى في الوقت الذي يدفعنا فيه العلم إلى الانفتاح والتحرر من أوهام الماضي، نرى أن الشعوب تدفع إلى التمسك بهوياتها الدينية أو الطائفية أو العرقية أو القبلية بشكل كبير، ويعود السبب إلى الفوضى والشعور بالضياع والتوحش الرأسمالي والعولمي الذي يسيطر على الأسواق وعلى الشعوب الفقيرة بالذات؛ فراحت الشعوب تحاول إعادة تعريف ذاتها وثقافاتها والتجأت إلى إلى هوايتها الفرعية لتحتمي بها، لتغول الخوف فيها. وهذا الإرهاب الديني والعرقي والطائفي الذي نشهده إنما هو رد فعل سلبي أكثر منه فعل إيجابي، فعندما يخاف المرء أو شعب معين يقوم برد فعل أكثر منه بفعل إيجابي، وأرى أن الوعي العام ومنه الوعي الديني قادر على لعب دور أساسي تنويري في معركة الإنسان المعاصر مع المجهول ومع الإرهاب ومع الماضوية ومع الطائفية، فإذا كنت لا أريد أن أنزع من الإنسان هويته وانتماءه إلى دين أو ثقافة معينة، فإنني في الوقت نفسه لا أريده حبيساً وسجيناً وسلبياً، إنما طليقاً حراً ومبدعاً في تقديم حلول لعالمه ولما يعصف به من مشاكل.
- وضعت أمام الدين ثلاثة حلول لا رابع لها هي عقلنة الدين وأنسنته وإزالة خلافه مع العلم، فلماذا لا يمكن تصور حلول أخرى لأزمة الدين؟
- كل المنظومات المعرفية والتصورية والأخلاقية مرتبطة بالإنسان فهي إنسانية بالضرورة، والدين جزء منها كما الفلسفة والعلم والمعرفة. والعقل هو الجوهرة الإنسانية الأغلى والأرفع شأناً والتي تدير الحياة وتفهمها. فإذا لم يعقلن الدين أو الفلسفة أو العلم، ولم يكن العقل هو الأساس والجوهر لأصبحت هذه المنظومات منظومات وجدانية أو أسطورية. فالعقل إذاً هو الأساس وهو الحكم أيضاً، وهو الذي يؤمّن توازن الدين وعدم اختلاله، كما أن الأنسنة أي وضع الإنسان في المركز وفي الهدف وفي البدء والنهاية، هو غاية كل منظومة معرفية أو تصورية، لأن الإنسان مصدرها وهدفها. فإذا لم يؤنسن الدين أصبح منظومة قمعية أو تسلطية للإنسان الذي هو بحاجة إلى مساعدة بدل أن يقمع.
أما العلم فهو مستقبل الإنسان الحديث وهو موضوع إيمان الإنسان الحقيقي، فقد أثبت جدارته وفسر للإنسان الظواهر الطبيعية وساعده على فهم ذاته والعالم من حوله. الإنسان الحديث يؤمن بما أنجزه العلم وما يمكن أن ينجزه، لذا فالمستقبل سيصوغه العلم دون شك وأي مقاومة للعلم من قبل الدين أو أي منظومة أخرى، ستفشل لا محالة ومن ثم ستنبذ، لذلك على الدين أن يسرع في حسم أمره، ومواقفه من هذه الحلول.
- ما هو شكل التعاون الذي تقترحه ما بين الفلسفة والدين؟
- أظن أن مجال التعاون واللقاء بين الفلسفة والدين اقتصر في الماضي، على تعاون فرع من الفلسفة، أعني الفلسفة المثالية مع الدين في تقديم تبريرات عقلية وشبه عقلية للدين ليدافع بها عن نفسه قام بها فلاسفة مؤمنون مثل أفلاطون، توما الإكويني، أوغسطينوس، ابن سينا، الغزالي وسبينوزا على سبيل المثال لا الحصر، حاولوا إيجاد أرض مشتركة بين الفلسفة والدين، واستخدم هؤلاء الفلاسفة الحجج العقلية في محاولة للبرهان على وجود الله وعلى الخلود وعلى وجود عالم ماورائي، وأصابوا بعض النجاح في ذلك مما دعم المنظومة اللاهوتية.
ومع الثورة العلمية التي اجتاحت أوروبا في القرنين السادس والسابع عشر ظهر المنهج العلمي التجريبي كمنهج حاسم في إثبات الحقائق الموضوعية فتراجعت قيمة المنهج البرهاني النظري الفلسفي، ولم يعد يظهر فلاسفة قادرون على تبرير البناء المعرفي الديني. إلى أن لجأت مجموعة من اللاهوتيين الأمريكيين الجنوبيين إلى الفلسفة الماركسة لتقيم جسراً للتعاون بين اللاهوت والفلسفة فأطلقت ما سمته "لاهوت التحرير" لغاية منفعية هي تحرير أمريكا الجنوبية من كل القوى المسيطرة عليها ومن الاستعمار والهيمنة الأمريكية ومن قمع السلطات الدكتاتورية، باستبدال التعاون بين اللاهوت والفلسفة المثالية إلى تعاون جديد بين اللاهوت والفلسفة الماركسية.
- هل تشجع الدين للتعاون مع الفلسفة الماركسية إذاً؟
- هناك الفلسفة المادية العلمية الماركسية التي يجب الاعتراف بأن الأدوات التي تستعملها لتحليل الواقع هي أحسن أدوات علمية فلسفية لتحليل الواقع الموضوعي ظهرت إلى الآن. كان لاهوت التحرير ذكياً، فقد رفض المادية الماركسية وعنفها الثوري، وقبل باستعمال أدوات تحليلها العلمية للواقع، واستطاع أن ينظر إلى الأزمة التي تعانيها أمريكا الجنوبية من منظور واقعي وعمل على تشجيع المؤمنين المسيحيين في التخلص من الهيمنة الأمريكية التي كانت تعامل دول أمريكا الجنوبية كحديقة خلقية وتستغلها وتسميها جمهوريات الموز، كما ساعدتهم الفلسفة الماركسية على بناء قاعدة لاقتصادهم وقاعدة حقيقية للديمقراطية وللتحرر، بأن قالت لهم أن من واجب الإنسان أن يتخلص من كل ظلم أو استبداد يعاني منه على هذه الأرض؛ لذلك أقول أن كل تعاون يمكن أن يقدم بين اللاهوت والفلسفة في المستقبل، عليه أن لا يقتصر على الجانب النظري فقط، أي على جانب إعطاء التبريرات العقلية، إنما أي تعاون مستقبلي وجب أن يذهب نحو تحرير الإنسان من جهله وفقره ومرضه، وتحرير الأوطان من المستغلين لها، لذا على اللاهوت أن يعيد أنسنة ذاته وعلى الفلسفة أيضاً العمل على إيجاد منظومة معرفية جديدة تهدف إلى جعل تحرير الإنسان الفرد والجماعة من أولوياتها المطلقة، على هذه الأرض ولا تعد الإنسان فقط بحياة أبدية سعيدة، إنما تدفعه ليعيش هذه الحياة بأحسن ظروف ممكنة، وإذا كان مظلوماً عليه أن يقاوم ويتحرر من الظلم المحيط به والذي يمنعه من أن يحيا حياة جديرة بإنسانيته وبكرامته.
- لماذا تركز على مهاجمة الماضوية واللجوء إلى الماضي في كتاباتك، أليس الماضي هو الذي صاغنا أو صاغ تراثنا وعاداتنا وتقاليدنا؟
لا أنكر أن الإنسان كائن تاريخي وتطور عبر التاريخ، وأن الماضي جزء لا يتجزأ من لحظات التاريخ الثلاث: ماضي – حاضر – مستقبل، إلا أن كون الإنسان كائناً تاريخياً لا يعني أن يبقى حبيس الماضي، أي لحظة واحدة من لحظات التاريخ، بل أن له حاضراً ليعيشه ومستقبلاً ليتطلع إليه. الديانات عادة ما تكون حبيسة الماضي والنصوص والتراث والطقوس والعبادات، بينما إنسان اليوم (إنسان الحاضر) يتطلع دوماً إلى الفكاك من ثقل ذاك التاريخ ليصوغ نفسه صياغة جديدة، فذاك الماضي الذي شكله إلى حد ما، لم يعد يستطيع تشكيله وتشكيل مستقبله. فالحركة التاريخية تتسارع والعلم والاكتشافات والتكنولوجيا تتسارع بحد غير معقول، لذلك الماضي لا يستطيع أن يفهم الحاضر ولا أن يحضر للمستقبل. بعبارة أخرى لا يستطيع مواكبة الحركة المتسارعة جداً. أنا شخصياً لا أريد إعفاءه من الماضي ولكني لا أريده حبيساً لذاك الماضي، بل أن يدرك الماضي إدراكاً جديداً حراً بتثوير وعيه للحاضر وللمستقبل. فالماضي الذي قدّس لم يكن مقدساً في زمانه بل كان حاضراً عادياً في زمنه، فلماذا يقدّس الآن؟ أظن أنه يقدس بسبب هروبنا من مالحاضر وخوفنا من المستقبل، فكأن الإنسان جنين يريد أن يعود إلى رحم أمه الحنون والمظلم خوفاً من الخروج إلى النور وإلى قسوة الحياة الحاضرة، يريد أن يبقى طفلاً خوفاً من الصعوبات التي يواجهها الناضج. لذا أركز على مهاجمة الماضويين الذين يريدون أن يبقوا الحاضر والمستقبل حبيساً للماضي لأنه برأيهم مقدس وغير قابل للنقد.
- هل يحق لك أن تتنبأ؟ هل يحق لك استشراف المستقبل؟ وبأي حق تقرر أو تتنبأ بما سيحدث في المستقبل وخصوصاً حول دين المستقبل؟
لست نبياً ولا أدعي ذلك، إلا أن كل علم حقيقي يحمل صبغة استشرافية للمستقبل يمكن أن يسمى – مجازاً – "نبوءة مستقبلية"، فالعلم في جوهره مستقبلي يحضر طريق المستقبل. استشراق المستقبل لدى المفكر والفيلسوف مبني على دراسته للظواهر الطبيعية وللظاهرة الإنسانية بالذات. فإذا سلمنا أن الإنسان كيان تاريخي، فله ثلاث لحظات يمكنه أن يدرك ويتعمق في اثنتين منها هما الماضي والحاضر ويتنبأ ويستشرف اللحظة الثالثة المستقبلية، بهدف التحضير لها. فعندما قلت أن دين الإنسان المستقبلي هو العلم فإني لا أتنبأ بالمعنى الدقيق للكلمة بل أرى حقيقة واقعية وأدرس صيرورة تاريخية مازالت مستمرة منذ الثورة العلمية الكبرى التي حدثت في أوروبا في القرن السابع عشر والتي مازالت مستمرة إلى الآن. لنأخذ مثالاً بسيطاً، فعندما كان أحد الناس يقع مريضاً فقد كان يعزو ذلك لعمل الشيطان أو الجن أو العين الحاسدة أو ما إلى ذلك من خرافات وكان يلتجئ إلى رجل الدين أو الرجل المقدس ليخلصه من مرضه. وعندما اكتشفت الأمراض وطرق علاجها وتطور الطب لم يعد إنسان عاقل واحد لا يلتجئ إلى الأطباء والأدوية لعلاجه من مرضه، تقدم العلم وتراجعت الخرافة، وتراجع معها دور الدين أيضاً، والأمر مستمر إلى الآن، وفي المستقبل، يكسب العلم أرضاً جديدة فيتراجع الجهل ويتراجع معه الادعاء بالماورائيات أو الغيبيات، والعلم مستمر في كسب أراض جديدة، والغيبيات مستمرة في خسران أراضيها القديمة. فمن سيصبح المالك إذاً في المستقبل القريب أو البعيد؟ العلم بلا شك ومن وما يخالفه سيصبح في المنزلة الأضعف والأدنى من هنا جاءت مطالبتي بإزالة أي تعارض بين الدين والعلم.