جورج الفار: حفريات في "فلسفة الدين"

جورج الفار: حفريات في "فلسفة الدين"
الرابط المختصر

يأتي كتاب "فلسفة الدين: الفلسفة والوعي الديني" لأستاذ الفلسفة في الجامعة الأردنيّة الدكتور جورج الفار، والصادر حديثًا عن "دجلة"، في محاولة جمع العلم من جهة، والدين من جهة أخرى، مرتكزًا في ذلك على تجربة شخصية عايشها المؤلف.

 

وعن ظروف العمل على الكتاب يقول الفار "منذ مدة طويلة يلح عليّ هاجس ذو طبيعة شخصية ومعرفية، أن أكتب في مجالين أتقنهما وعملت فيهما، بعد أن لاحظت فقر المكتبة العربية لمثل هذين المجالين، وأن أجمع بينهما في كتاب واحد.

 

ويؤكد الفار "يحاول الكتاب أن يكشف عن عمق العقل الديني ليعالج المسألة الدينية، علاجًا نقديًا واعيًا، دون أن يلجأ إلى التوفيق أو التلفيق أو إخفاء الحقائق، إنما بمواجهةِ هذه الحقائق ووضعها أمام العقل ليقبلها أو ليرفضها".

 

فالمشكلة الدينية، بحسب ما ينظر إلها الفار، لا تكمن في المسافة الواقعة ما بين النظرية والتطبيق، والتي تقول: إنّ الدين شيء، وتطبيقه شيء آخر، وإنما تكمن في عمق العقل الديني الذي لا يقبل النقد ولا المراجعة ولا التنوير، حيثه يصفه بأنه "تجمّد عند مرحلة تاريخية ماضوية، لا يريد مغادرتها، أو نقدها، أو إنارتها بالدراسات الحديثة، التي من شأنها أن تعيد صياغة العقل الديني وتنويره لتنقضه من ماضويته".

 

أما النص المقدس فيراه الفار "جامدًا"، في حين أن العقل متحرك، وشروط تفسير النص تقع في خارجه، لا في داخله؛ أيّ في العقل المفسر أو المؤول له، فكلما أغلق العقل أو تعصب أو ضاق، أغلق النص الديني الذي يفسره وتعصب له وضيّقه، وكلما استنار العقل، يوسع النص ويجعله يسمو على التفاهات والصغائر. على حد تعبيره.

 

 

ويصف الفار المنظومة العقلية والمنطقية في النص الديني بالـ "ضعيفة"، ولا تصمد أمام النقد العقلاني المنطقي، إلّا أن النص الديني لم يقل إنه منظومة عقلانية ومنطقية، فقط المنظومة اللاهوتية والفقهية المفسرة للنص هي التي تقول إنها منظومة ذكائية، وتبعًا لذلك، يرى الفار أن على المنظومة اللاهوتية والفقهية أن تخضع للقياس العقلاني والمنطقي. إلا أنها بدل أن تبني للدين منظومته المتجانسة والعقلانية، راحت تبرر للنص الديني عدم منطقيته وخروجه عن العقل، وأبعد من ذلك راحت تخفض سقف العقل وتتهمه بالقصور، بدل أن تتهم ذاتها بهذه التهمة، وتفحص جذورها النظرية وأسسها العقلانية.

 

يسعى الكتاب إلى تبيان أن من مهمة فلسفة الأديان تكمن في فحص هذه الجذور والأسس النظرية التي قامت عليها المنظومات اللاهوتية للأديان المختلفة، وحول هذا النقطة يؤكد الفار أن فلسفة الدين قامت بعملها فوجدت أن المنظومات اللاهوتية عامة تعاني من خلل شديد، يتمثل في أن البناء النظري اللاهوتي هو بناء هش وكرتوني قابل للانهيار، يقترب من اللاعقل أكثر من اقترابه من العقل ذاته، ويهتم بالجدل وفصاحة اللغة، أكثر من اهتمامه بالفكر وبالحوار العقلاني المتزن.

 

ولا يكتفي الكتاب بذلك إنما يورد شواهد واضحة توضع أمام اللاهوت لتقول له: إن ما وصل إليه العقل والعلوم الإنسانية تعدى بكثير المقولات اللاهوتية التي تجتر ذاتها، لذا باتت هذه المقولات غير قادرة على عقلنة النص الديني ولا أنسنته وليس باستطاعتها جعله معاصرًا.

 

بالإضافة إلى ذلك يورد الكتاب ما توصل إليه فلاسفة ما بعد الحداثة وعلماء البيولوجيا والإنسانيات والانثروبولوجيا في مقاربتهم لأي سردية كبرى أو نص مقدس أو تاريخي، فيقول إن على اللاهوتيين أن ينطلقوا من النقطة التي وصل إليها هؤلاء المفكرون في انكبابهم على دراسات النصوص القديمة والنتائج التي توصلوا إليها وهي أن كل نص هو تاريخاني وجغرافي بيئي بالضرورة، وكل نص هو تراكمي معرفي بالضرورة أيضاً، وأن كل نص هو محدود ببنيته وأسلوبه الأدبي واللغوي، وأنه ليس هناك نص شامل ومانع لكل المعارف، كما أن كل نص تقف خلفه سلطة معينة، فهو بالضرورة سلطوي يعبر عن مصالح تلك السلطة.

 

كما يخص المؤلف "السرديات الكبرى" بفصل كامل ويقارنها فيما بينها، مستعينًا بكتاب فراس السواح "مغامرة العقل الأولى" ليرصد ما هو مشترك بينها كلها. ليكشف أن كل سردية أخذت عن السردية التي سبقتها وعدلت عليها. وأن السرديات في الديانات السماوية أخذت عن سرديات أقدم منها وجدت في بلاد ما بين النهرين وسوريا، وطهرتها من بعض عناصرها الوثنية، مثل: تعدد الآلهة، ووصف أمزجتهم المختلفة، لتضعها على لسان الإله الواحد، الذي يظهر أنه المتكلم من خلال هذه السرديات.

 

كما يرصد الكتاب ديناميكية الأديان من الداخل والخارج، محاولاً اكتشاف القانون الذي حرك العقل الديني عبر التاريخ، وقد رصد الكاتب الانقسامات الكبرى التي حدثت داخل الدين الواحد، واكتشف أنها حدثت كل أربعة إلى خمسة قرون بتوازٍ في كل الأديان تقريبًا، فاستوقفته هذه الملاحظة، وراح يسأل ما هو القانون الداخلي أو الخارجي الذي يجعلها تنقسم تقريبًا في كل خمسة قرون، فاكتشف عدة عوامل داخلية وخارجية إذا اجتمعت أحدثت تلك الانقسامات، والطريف بالأمر أن أغلب هذه العوامل تجتمع كلما مر أربعة أو خمسة قرون، ومن ثم يحدث الانقسام أو الانشقاق الكبير، فما هي هذه العوامل، وكيف تتحرك وتتجمع ومن ثم تُحدث الانقسام؟.

 

كلها أسئلة يطرحها المؤلف على عقل القارئ  ليحاول أن يجيب عليها، دون أن يغلق أمام قارئه باب الاجتهاد ليضيف ما عنده من معارف إلى معرفة المؤلف وليغني الحوار.

 

أما طرافة الموضوع وجديته، فتكمنان في تضمين هذا الكتاب نظرة جديدة إلى الموضوع من زاوية مختلفة، لتزود القارئ بكاميرا واسعة العدسات، بحيث يرى ما لم يكن يراه من زاويته وخلفيته الأولى، سواء أكانت فلسفية أم دينية.

 

أكيد أن للفلسفة ما تقوله لإثارة الوعي الديني ولإيقاظ العقل الديني، كما أنه أكيد أيضًا أن للوعي الديني ما يقوله وما ينقده في الفلسفة. فإذا كان القديس أغسطينوس قد رفع شعارين "آمن لتتعقل" أو "تعقل لتؤمن" وكان موقفه جيداً من الفلسفة، فنحن من دعاة نقد وتحليل هذين الشعارين ورفع شعار جديد يقول: "إذا كانت الفلسفة تساعدك على التعقل، والتدين يقودك إلى الإيمان، "ففلسفة الدين" مبحث يجعلك تغوص عميقاً في تحليل ما تدركه بعقلك وما تؤمن به بقلبك".
هذا وقام الفار بتوزيع أبواب هذه الدراسة على ثلاثة محاور: تعاون الفلسفة مع الدين، المشترك ما بين الفلسفة والدين. وكنتاج المحورين السابقين استشرف ما سينتج عن هذا التعاون من آفاق جديدة ومن خيارات مستقبلية للإنسان فأسماه "دين الإنسان".

 

أما عن النهج في هذا الكتاب، فقد اتخذ المنهج التحليلي النقدي لتحليل ونقد البنى الدينية النظرية، مبيّنًا ما يمكن فعله لإعادة اللحمة والتعاون ما بين الفلسفة والدين.

 

ويعتقد الفار في كتابه هذا أن الفلسفة تستطيع مساعدة الدين في إعادة النظر في أزمته الراهنة بناء على فحص نظري تقوم به الفلسفة، للبنى الفكرية والنظرية التي بناها في كل تاريخه الماضي.

 

فبعد أن بيّن في الباب الأول التعاون الحاصل ما بين الفلسفة والدين وصولاً إلى محاولة تثوير الوعي الديني ليستجيب الإنسان المتدين للعصر وللعلم وللحداثة، انتقل في الباب الثاني لفحص المحاور المشتركة التي تجمع الدين والفلسفة، مسلطًا الضوء على أزمة الوعي العربي وانتقاده الحرب التي تشن على الفلسفة والعقل، موضحًا لماذا إله الفلاسفة يختلف عن إله رجال الدين.

 

وعالج المؤلف سبعة محاور مشتركة بين الدين والفلسفة وهي الكون، الإنسان، الخلاص، النفس والروح، الأخلاق والعلم، موضحًا وجهة النظر الدينية والفلسفية منها، ومحاولًا جمع النظريتين من خلال وجهة نظر فلسفة الأديان.

 

أما في الباب الثالث فقد عالج موضوعًا مختلفًا، ووضع هذا الباب تحت عنوان "دين الإنسان"، فبعدما استعرض الواقع الحالي للدين وكيف يحول الدين إلى أيديولوجية، وكيف تم تهويد الإسلام والمسيحية، ولماذا تحدث انشقاقات في البنى الدينية، وما هو لاهوت التحرير، قدّم رؤى مستقبلية للخيارات التي سيتخذها إنسان المستقبل وهي خيارات أقرب إلى العلمية والعلمانية منها إلى التدين التقليدي.

 

يعتبر الكتاب صادما للوعي الديني التقليدي الذي يعيشه الإنسان المتعلم والمتدين والذي يحاول أن يوفق ما بين الدين والعلم في الوقت نفسه، إلا أنه ليس كتاباً صادماً للإنسان المثقف والواعي الذي سيفيده الكتاب في تعزيز وعيه، واكتساب مهارة عقلية جديدة في التعامل مع الموضوع الإيماني التقليدي.

 

أخيرًا يحاول الكتاب أن يفتح أمام العقل الديني طرقًا وآفاقًا جديدة ليرتادها، ليجد مخرجًا للعقل الديني الذي يجد نفسه في مأزق مزدوج، الأول أمام العلم، والثاني أمام الفلسفة.

 

أما إذا ما تم طرح التساؤل عمّا هو هذا المخرج الذي وجده المؤلف للعقل الديني؟ فسيجيب الكتاب على ذلك: إن المخرج هو نقد العقل الديني لمنظومته القديمة في سبيل بناء منظومة جديدة مبنية على التنوير والعلم وتثوير الوعي لا أكثر.

أضف تعليقك