بوكوفسكي: صناعة الرواية من الأسرار

بوكوفسكي: صناعة الرواية من الأسرار
الرابط المختصر

ظهرت رواية "نساء" للأمريكيّ تشارلز بوكوفسكي (1920-1995) إلى العربيّة أخيراً عن دار الجمل في بغداد بترجمة العراقي شارل شهوان بعد أكثر من 37 عاماً على صدورها باللغة الانجليزية؛ لتكون بذلك العمل الروائي الثاني الذي ينقل للعربية في أقل من سنة بعد روايته "ساعي البريد".

 

 

تطلب الأمر من بوكوفسكي أقل من نصف صفحة ليعرّف من خلالها الشخصيّة المحورية في العمل والمدعو هنري شيناسكي؛ الشاعر المتشرد، مدمن الكحول والنساء، ورهانات سباق الخيل؛ والذي بلغ الخمسين تواً "وما مسّ إمراةً منذ أربعة أعوام قبل أن يبدأ بعدها عرض مغامراته الجنسية مع نساء مدينة لوس أنجلوس السفلى دون أدنى شعور بالفخر أو الذنب.

 

104 فصول في روايةً يبدو أنها لم تتطلب الكثير من الخيال، إذ أن بوكوفسكي شغل الوسط الثقافي في أمريكا بسبب زجه أسرار حياته ومن حوله داخل أعماله مثلما لم يفعل كاتب من قبل، ذاكراً في بعض الأحيان صراحة بعض الأسماء الحقيقية لهم.

 

 

ويستمر في عرض مغامراته مع النساء الكثيرات، واللاتي ربما وصلن عددهن إلى فتاتين أو ثلاث في اليوم، بدأهن بالنحّاته ليديا فانس، وخلال التوغل في الرواية قد يظن من لا يعرف السيرة الذاتية لبوكوفكسي أن الكاتب لا يعرف غير تفريغ مشاهد البورنو من الأفلام إلى الورق، لكنه يفاجئ الجميع بقدرته على فهم أكثر المسائل تعقيداً في حياة الكاتب، كأن يقرأ  فيها بطله هنري شيناسكي شعره في ناد ليليّ، ومن الذي يعرف كيف يميل قلوب مدمني الخمر والبؤساء وأناس لوس أنجلوس السفلي إلى قصيدة؟ شيناسكي يعرف بالدقة، يدخل مخوراً يتبادل الشتائم معهم، ثم ينحني إلى عاهرتهِ ويهمس لها: لم يكن من المفترض الاستخفاف بهم، ولم يكن من المفترض أيضاً تملقهم، ينبغي ايجاد منطقة وسطيّة" ويقدرهم أيضاً": سكارى هم كانوا يستطيعون على الفور ملاحظة أي إيماءة مغلوطة أي كلمة خاطئة، " يقول له متعهد حفلات في نادي ليليّ" إنك تنزع إعجاباً يفوق ما تحظى به فرق موسيقي الروك، أود فعلياً إحضارك ليلتي الجمعة والسبت" ويرد شيناسكي العارف بجمهوره" لن ينجح هذا، في وسعك أن تعيد غناء الأغنية نفسها هنا مئات المرات، ولكن فيما يتعلق بالشعر فالناس يريدون كل مرة سماع قصائد جديدة".

 

 

تتداخل الأحداث في الرواية بين تشارل بوكوفسكي الكاتب وبطله هنري شيناسكي الذي هربت منه الحياة حيث أمضى عمره عاملاً كساعي بريد ومريضاً بالبثور التي في وجهه والتي سببت له نفوراً من قبل النساء، لكنه عرف كيف يستعيد هذه الحياة بالكتابة، يقول موزع الكحول له عندما يلاحظ معه فتاتين  تصغرانه بسنوات كثيرة، متسائلاً عن سر انجذاب النساء له:

 

- يا إلهي ما هو سرّك؟

 

- الطرق على الآلة الكاتبة، يرد

 

ويؤشر خلال فترات كثير في الرواية إلى حياته " ولدت في ألمانيا 1920 في أندرناخ، ولمرحلة كتابة روايته الأولى " مكتب البريد" التي أنجزها في 21 يوماً، وحيث تشارف الرواية على النهاية تنعطف الأحداث بشكل مفاجئ، إذ أن كل من ظنّ أن الشاعر هنري شيناسكي اللامبالي ومدمن الكحول وزير النساء الذي لا يعرف منهن غير السرير ومن ثم يتركهنّ لا مبالياً سيتفاجئ ببداية اعترافاته أنه لم يكن غير مجرد نكرة "إني أعبث بحياوات وأوراح كما لو أنها كانت ألعابي، كيف لي أن أعتبر نفسي رجلاً، بأي حق أكتب القصائد؟ بأيّ معدن سبكت؟  أنا ماركيز دو ساد من الدرجة الثالثة وافتقد ذكائه "ولأول مرة يبكي بشكل طفوليّ وحيداً لأنه ما عرف كيف يخرج من ورطة لطالما كانت لا شيئ في البداية، ورطة أن يعطي فتاتين موعدين في ذات الوقت ولا يعرف كيف يتخلص من احداهن الصغيرة والبرئية."، ويكمل" أيتها البشريّة أنت مشروع فاشل منذ البداية".

 

 

يكرر بوكوفسكي في هذه الرواية إسلوبه في روايته الأولى ساعي البريد، لدرجة أن يُبقي على الشخصية الرئيسية بنفس الاسم داخل العملين محملاً إياها صفاته نفسه كشاعرٍ هبيّ عمل كساعي بريد وأخفق كثيراً في جذب النساء إليه، في سمةٍ لطالما شغلت النقاد في أمريكا في متى يتحدث الروائيّ فيه ومتى يتحدث عن نفسه.