القراءة الميتافيزيقية والقراءة المضادة

في غمرة إعادة قراءة ماركس، وجد الفيلسوف الفرنسي لوي ألتوسير نفسه مضطرا إلى إعادة النظر في مفهوم القراءة ذاته. فميّز بين نوعين من القراءة: قراءة منفعلة وقراءة فعالة. تقف القراءة الأولى أمام المقروء سلبية متلقية، وهي تَؤول إلى ذلك الفعل السحري البسيط الذي يلغي المادة المكتوبة، ليتمكن من روح النص والنفاذ إلى أغواره، والإنصات إلى "صوته"، والْتقاط معناه. هذه هي القراءة التي ينعت بها ألتوسير مؤلفات الشباب عند ماركس، حيث كان هذا الأخير "يقرأ حضور الماهية المجرّدة في وجودها العيني الشفّاف.

تقوم هذه القراءة على إبيستيمولوجيا المباشرة وعلى ميتافيزيقا الحضور، وهي تؤول في نهاية الأمر إلى مجرد الشرح والتعليق، معتبرة أن هدفها هو بلوغ ما قيل وإدراك ما تم إثباته والتدليل عليه. إنها إذن، قراءة شارحة تحاول أن تنفذ إلى أعماق النص لإدراك الحقيقة التي يحملها، والتي أودعها إياه كاتبه، بعد أن دارت بخلده وجالت في فكره.

مقابل هذه القراءة الشارحة تقوم القراءة الفعّالة المنتجة المحوّلة التي توَلد النّص اللا مكتوب الذي لا يكون مجال الكتابة إلا علامة عليه وعرضا من أعراضه. وتلك هي القراءة التي سبق لنيتشه أن سماها قراءة "مشخصة للأعراض"، لأنها تفحص النص، وتتوقف عند "أعراضه"، "لتكشف اللا منكشف في النص الذي تقرأه فترده إلى نص آخر حاضر بغيابه الضروري في النص الأول". هذه هي القراءة المضادة الذي يرى ألتوسير أنه يجدها عند ماركس في مؤلفات نضجه، وهي لا تقرأ "الواقع" على أنه كتاب مفتوح يعطي للقارئ معانيه بصفة فورية، وإنما على أنه واقع منفلت عن نفسه متباعد عنها، وهو تباعد من صميم الواقع ذاته، وليس راجعا لنقائص القارئ وقصوره المنهجي. فالإنسان على حد تعبير ماركس نفسه، "لا يسعى إلى تهجي معنى الهيروغليفيات، والتمكن من أسرار العمل الاجتماعي الذي يسهم فيه، إلا مع توالي الأزمان".

هذه القراءة الثانية إذن، قراءة متشككة تتهم المباشر وترفض البداهات، وهي تسعى أن تكشف في بياض النص المُسَوَّدة التي تختفي من ورائه، فتحاول أن تنتج العملية الفعلية للكتابة، تلك العملية التي ليست عملية إظهار وتملك للمعنى الوحيد والحقيقة المطلقة، وإنما، كما قال نيتشه، "عملية توليد الاستعارات".

تقوم هذه القراءة إذن، على ابيستمولوجيا اللامباشرة التي تتنافى مع الحدوس الأولية، والتي تعتبر أن الحدس ليس معطى أول، وألا وجود لمعرفة أولى، وأن كل معرفة هي لف ودوران، وأن تملك المعاني نهاية درب، وأن التستر من محددات كل حقيقة.

بإمكاننا أن نقول إن القراءة مفهومةً على هذا النحو لا تعمل إلا على تأكيد ما تجمع عليه التيارات الفكرية الأساسية المعاصرة. في هذا الصدد يرى كلود ليفي- ستروس أن هذه الاتجاهات تلتقي عند مسألة التستر هذه؛ فالماركسية والتحليل النفسي، شأنهما شأن علم الجيولوجيا، تريان "أن الواقع الحقيقي ليس أكثر الوقائع ظهورا وتجليا، وأن طبيعة الحقيقي تتجلى في حرصه على الاحتجاب". على هذا النحو نفسه يحدد هايدغر "الحقيقة" التي يفضل أن يسميها "اللا تحجب".

لا ينبغي أن نفهم الحرص على التحجب هنا إخفاء للأسرار وإقرارا بأن هناك معاني تتمنع عن كل إدراك، وإنما ينبغي اعتباره خاصية أنطولوجية تجعل التستر من صميم الحقيقة، والاختفاء من صميم الظهور. ولكي نظل في السياق الذي نتحدث عنه هنا، لنقل إنها خاصية الانفلات التي تجعل الواقع لا يعطينا نفسه إلا بقدر ما ينفلت ويهرب، أو لنقل إنه التمييز الماركسي بين الواقع الفعلي وبين الكيفية التي يعاش بها، التمييز بين الواقع الفعلي وبين العلائق الاجتماعية، والتأكيد بأن الواقع الفعلي لابد وأن يعاد إنتاجه فيعاش ملونا.

هذه الاستعارية تجعل القراءة لا تنفصل عن الكتابة؛ فالكتابة بهذا المعنى تقدم نفسها مقروءة مؤولة. فكأنما لا وجود لدرجة صفر القراءة. والنص لا ينتظر العين التي ستجيء كي ترى فيه ما تراه، وإنما هو يرى ذاته.

نحن أمام مقروء يقرأ ذاته، أمام مقروء هو القاريء وموضوع هو الذات، ومرئي هو الرائي. محايثة الرؤية للمرئي تجعل القراءة المشخصة للأعراض، تقوم ضد كل قراءة "تجعل من الخطاب المكتوب الشفافية المباشرة للحقيقة، ومن الواقع صوت خطاب"، وهي تقوم ضدها لتكشف "اللا منكشف في النص الذي تقرؤه في النص الأول".

لا يتعلق الأمر بذات ناظرة تقهرها صعوبة التأويل، وإنما بنص يفيض لوحده، نص لا يعطينا نفسه إلا في ما يحجبه، وبالضبط "في ما يحمله في طياته من رخاوة، خلف مظهر أقوى الحقائق بداهة، في الصمت الذي يتخلل خطابه، والنقص الذي يعوز مفاهيمه، والبياض الذي يتسلل إلى سواد كتابته الدقيقة". ومجمل القول، في كل ما ينطوي على خواء، رغم امتلائه.

ما أبعدنا هنا عن كل قراءة متلقية وعين متأملة، فكأن النص يرى نفسه: "فليست الرؤية هنا رؤية ذات فردية تمتلك القدرة على الإبصار، فتمارسه في انتباهها وشرودها، بل إن الرؤية تصدر عن الشروط البنيوية للنص. إنها علاقة الانعكاس المحايثة لمجال الإشكالية النظرية، والتي تربطها بموضوعاتها ومشاكلها… لم تعد الرؤية رؤية عين (عين العقل) فاعل ترى ما يوجد داخل الحقل الذي تحدده الإشكالية النظرية. إن الحقل هو الذي يرى ذاته في الموضوعات والمسائل التي يعيشها".

مفهوم الإشكالية هنا مفهوم أساس، وهو لا يعني مجرد الإشكال، كما أنه لا يحيل فحسب إلى مجموعة من المشاكل والإشكالات، وإنما إلى ما يدعوه ألتوسير هنا "الشروط البنيوية للنص". وبالمثل، فإن مفهوم البنية لا ينبغي أن يردنا هنا إلى مجرد علائق صورية. الإشكالية ليست علائق صورية، وإنما هي ظروف الإنتاج النظري، أو إن شئنا فلنقل، بتعبير الماركسيين أنفسهم، إنها نمط الإنتاج النظري. فمثلما أن نمط الإنتاج المادي يربط بين أدوات الإنتاج، وبين قوى الإنتاج وعلائق الإنتاج؛ أي العلائق التي تنشأ بين الفاعلين الاجتماعيين أثناء عملية الإنتاج، فإن الإشكالية هي نمط الإنتاج النظري الذي يشمل أدوات الإنتاج النظري من مفهومات ونظريات وإشكالات، وكذا العلائق التي تربط بين هاته وتلك.

حقل الرؤية التي يرى بها النص ذاته يتحدد، لا بنوايا القارئ وقوة إدراكه وحسن نيته، وإنما بالإشكالية؛ أي بظروف الإنتاج النظري التي ترتبط بتاريخ المفهومات وتاريخ العلوم، وبطبيعة الحال، بنمط الإنتاج المادي ذاته.

هذا التوظيف للمفهومات الاقتصادية في حقل الإبيستمولوجيا هو الذي دفع مفكرا ماركسيا، مثل ألتوسير أن يتحدث عن "ممارسة نظرية"، وأن ينظر إلى فعل القراءة كفعل منتج بالمعنى الذي يعطيه الاقتصاديون للكلمة؛ أي كفعل محوّل، يعتبر أن كل إنتاج هو دوما إعادة إنتاج، وأن كل قراءة وتأويل، هي دوما إعادة قراءة وإعادة تأويل، وأن العالم البشري هو عالم الاستعارات والمعاني "الثانوية" Connotations. أما المعنى الأول، فهو على حد تعبير رولان بارث "أسطورة علمية".

أضف تعليقك