(أنثى تشبهني) لنهلة الشقران
إنّ ترسيخ الهوية النسائية أمرٌ واضح في الإبداع المعاصر، وهنا لا بدّ من التنبيه إلى التمييز بين مصطلحي «النسوية» و»النسائية» كما يرى محمد الصفراني؛ فـ»النسوية» تتعلق بقضايا المرأة في الثقافة سواء أكتب النصَّ رجل أم امرأة، أمّا «النسائية» فترتبط بما تكتبه المرأة تحديداً. ولعلّ أكثر القضايا الثقافية الملحة لدى النساء تتركّز في قضية واحدة هي ترسيخ الهويّة النسائية في ظل واقع ذكوري.
وهذا يستدعي التمييز بين مصطلحي «الأنثوية» و»النسوية»، فـ»الأنثوية» ليست مرادفة لـ»النسوية»؛ لأن «الأنثوية» تتصل بالتعبير عن رؤية المرأة للحياة وما يجري فيها وتصوير مشاعرها بوصفها مكملاً للرجل وبوصفه مكملاً لها. أمّا «النسوية» فتتصل بالتعبير عن رؤية المرأة بوصفها عنصراً نقيضاً للذكورة، وهنا نلمس حالةً صدامية نادرة مع الآخر، لا لإقصائه، بل لانتزاع بعض ما تظنه حقاً مكتسباً.
وهذا يُثير مجموعة من القضايا النقاشية منها: مشروعية الخطاب الأنثوي في الفكر، وشعريّة الخطاب الأنثوي وآليات التشكّل، وتمركز المرأة النصي في الخطاب بوصفها بؤرة نصيّة، نتحدث عن خصوصية هذا الخطاب وجماليات البوح والرغبة في الإفصاح عن المسكوت عنه، نتحدث عن المرأة ساردة ومسرود عنها، ممّا يُبرز الانحياز للمرأة وقضاياها، والنص الإبداعي بقوام الأنثى ورغباتها.
لقد أسهمت المرأة الأردنية في الحركة الإبداعيّة بشكل عام، والحركة الأدبية بشكل خاص، وذلك من خلال إصدار مجموعة من الأعمال الأدبية المميّزة، وبخاصة في مطلع هذا القرن، حيث اكتمال التجربة الإبداعيّة، ونضج التراكيب، وتداخل الأجناس الأدبية، إذ يستثمر الشعر وظائف السرد في تكوينه البنائي، ويوظف السارد تقنيات الشعر من انزياح لغوي وقصر في الجمل الاسمية وتكثيف للمجاز في مساراته السرديّة. ممّا أبرز صيغاً لغويّة ذات دلالات فنية خصبة، أمدّها وجدان إبداعي متوهج، اشتركت فيه مجموعة كبيرة من القاصات الأردنيات.
تتناول هذه الدراسة رحلة الذات الأنثوية في المجموعة القصصية «أنثى تشبهني» للقاصة نهلة الشقران، والصادرة عن الآن ناشرون وموزعون (2015). وتهدف الدراسة إلى استنطاق الخطاب الأنثوي في هذه المجموعة؛ للكشف عن كيفية تشكّل رؤاه الحُلمية، وطرائقه الفنية، ومعجمه المتوهج في حالتي الفقد والوصال.
لقد سيطر على القصص التي شملتها الدراسة مساران سرديان مستحكمان على الذات الأنثوية، هما مسار الذاكرة الذي يمثل ذكريات الماضي مع حبيب سكن الوجدان، فنلمس فعلَي البوح والنزف معاً، وأمّا المسار الآخر فهو الحُلم الذي تمارس فيه الذات الأنثوية فعل العشق الذي يجنح إلى إقصاء الماضي والانتصار للذات المقهورة وصولاً إلى أقصى درجات الاتحاد بالمحبوب.
لعلّ أهم ما تمتاز به هذه القصص، هو الإيجاز والتكثيف السردي في النص، والاعتماد على أسلوب الحوار، ممّا عزز من إنتاجية البناء الدرامي للنصوص السرديّة، وأكسبها جمالية عالية، فضلاً عن استخدام واضح للأفعال الحركيّة التي تُضفي على النص إيقاعاً سريعاً مختزلاً يمتح من ذات القاصة وروحها العذبة.
ولعلّ اكتشاف وظائفية الذات الإبداعية أمر مهم في اكتناه أسرار قصص نهلة الشقران، بوصفها نقطة انبعاث لرؤى حالمة تصاغ بلغة العاطفة، وتحولات النفس الفاعلة انطلاقاً من دور الأدب في معرفة الحقيقة، إذ يتخذ الحدس والتخييل وسيلة للمعرفة.
لا يمكن وضع الفن القصصي للكاتبات الأردنيّات خارج تصنيف الحداثة، فمشروعهن الإبداعي قائم، والذات الأتثوية مستعرة لا تنطفئ، ترفض مساومة الرجل، بل إن هذه الذات تصرخ لإزالة الأقنعة، وبخاصة قناع الذكورة المتسلط.
يعكس إبداع نهلة الشقران ذاتاً أنثوية مرئية في عالم الكلمات، تجتاح بخيالها المتلقي الذي أُجبر على الارتداد إلى عالم الأنثى متحصناً بفيض وجدانها الخصب؛ لتتكون الصورة الأنثوية بسحر اللغة، وتعابيرها المدهشة.
لقد وظّفت كثير من الكاتبات الأردنيات الاستعارة في سردهن توظيفاً يخدم رؤيتهن الإبداعية، كذلك تمّ توظيف عالم الذكورة لخدمة الذات الساردة بوعي أنثوي يدفع بعملية التلقي إلى مراحل مختلفة من التطور حتى تصل إلى إدراك خصوصية الأنثى، وإمكانياتها الحقيقية في تحولات حرجة مُعذبة لا يمكن للمرأة البوح بها كاملة بل جاءت مجزأة؛ لتكتمل صورتها في ذات أنثوية متكاملة ذات وعي وتجربة وقدرة على الإدهاش والبوح الشفيف.كما في قصة «رِجِعْ أيلول»: «يا حبيب القلب لا تودّعني بصمت. قل لي إنّ السماء ستجمعنا ذات يوم، اروِ لي قصص العشق التي عادت من جديد بعد ما مضى دهر كلّه أيلول .. عدني أنك لن تمحو اسمي من دفترك الأسود الذي كتبنا به معاً أحلامنا بقلم واحد، رسمتُ بيتاً يحوينا وقفلاً لا يملك مفتاحه غيرنا، ورسمتَ لي جبلاً كبيراً وشمساً مخبئة خلفه، تعتليه أجسادنا النحيلة، وتُلامس أكفّنا السماء بفرح» (ص32).
نلمس في كثير من قصص الكاتبة تحرك الأنوثة المبدعة في قلاع زمنية أنتجتها ذات الكاتبة وبوحها العذب وإرثها الاجتماعي الذي اختارت اختراقه لتنفذ إلى مكنون ذاتها الخصب، فتبدو الذات الأنثوية متحركة تحاور الآخر من منطلق قوة الحبّ، كما في القصة التي تحمل المجموعة اسمها «أنثى تشبهني»: «قصص الغرام التي كتبتُها كنتُ أنا بطلتها، وأحلام أبطالي كانت بوجهي المسامح، ويده لم تُلامس إلا أنوثةَ ضلوعي، وابتسامة ثغره رحلتْ معه بعد ضياع عمرَينا في البحث عن روح ٍ واحدة سكَنتني، وقصص عنترة وعبلة كُتبت لنا، والصحراء تاهَ بها ليلاً يستنجدني، و .. و.. و..» (ص45).
إنّ هذه الذات في رحلتها لإثبات وجودها كانت على وعي واضح بتجارب الماضي وإرثه الخصب، محاولة تجديده في قالب عصري بعيداً عن نمطية الكلمة أو مصارحتها للواقع ببوح أنثوي يستقي من منبع خصب فيه غضب وثورة وصراع مثلما فيه استكانة ووجد شفيف، كما في قصة «ظل من رماد»: «أخاطب النفس في مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل بحثاً عن ظل أبيض أسكنه فيسكنني، مللت انعدام الألوان في ذاكرتي الهرئة، جثوت على أنفاسي المتعبة، قاومت اندفاعها، كتمتها.. ابتلعتها رغماً عنها وشعرت بلذة النصر عندما لم تخرج كما ينبغي، خرجتْ متقطعةً مذبوحةً وكنتُ أنا من أراق دماءها» (ص89).
يشكّل عنوان المجموعة القصصية «أنثى تشبهني» لازمة مهمة للنص الأدبي، إذ يعبّر العنوان عن دلائل النص وإيحاءاته التي من شأنها أن تدل المتلقي على متنه، من باب أن النص تعبيرٌ نفسي عن أحاسيس الكاتبة ومشاعرها ورؤاها الفنية وسياقاتها الثقافية، المعبِّرة عن ذاتها في النص. ويُشترط في العنوان أن يكون خالياً من المآخذ النحوية، وأن تُراعى فيه جودة اللفظ والمعنى معاً.
ينطوي العنوان في «أنثى تشبهني» على بعد تأثيري: نفسي وانفعالي، مخصّب بالأبعاد الدلالية والزمانية والمكانية، وبالأبعاد السياقية كذلك، من باب أن العنوان «تركيبة معقّدة من شحنات (نفسية، اجتماعية، دينية، أيديولوجية، فلسفية، لغوية... إلخ)، منبثقة من ميثولوجيا الأنا، وأحلامها وآلامها وآمالها» كما ترى شادية شقروش في دراستها «كيمياء النص الشعري» (مجلة عمّان، العدد 159، أيلول 2008م، ص46)؛ وكذلك من باب أن العنوان هو «الضربة الشعرية التي تحقق أكبر قدر من التركيز والتكثيف والتبئير على النحو الذي يستوعب عموم التجربة بأقل مساحة كتابية ممكنة» كما يقول محمد صابر عبيد في دراسته «عضوية البناء في القصيدة الجديدة» (مجلة عمّان، العدد 142، 2007، ص13).
لقد جاء عنوان المجموعة القصصية اختراقاً للحدود المرئية ليبلغ عمق الأشياء، ويُبلّغ عنها ما تعجز عن كشفه الحواس. ومن ثم فهو تقنية لغوية خاصة تضطلع بوظيفة إنشاء علامات جديدة بين كائنات العالم وأشيائه، ولذا فإن للعنوان دوراً ملحوظاً في تخصيب آليات التخييل والدفع بها إلى أفق بناء عوالم تتناوب على تشييدها أطياف الحلم والواقع.
فنجد العنوان جملة اسمية قدّمت فيه الكاتبة الاسم (أنثى) على الفعل (تشبهني) لبيان وقع الأنوثة في حياة الذات الساردة وبحثها عن هذه الأنثى ورغبتها في معانقة أسرارها.
الطفولة والارتداد إلى عالمها الجميل علامة فارقة في هذه المجموعة، كما في قصة «رِجِعْ أيلول»: «ما أجمل أن يكون للمرء أمّ تدفّئ يديه في أواخر ليالي الشتاء وتزرعهما بين أصابعها بلا خوف ولا جزع.. صوت لطيف يوقظني قبل شروق الشمس بقليل، وأشتمُّ رائحة زيت وخبز ومدفأة موقدة من فراشي الدافئ وأنا مغمضة العينين... أفرح عند عودتي من المدرسة لأرى وجهاً مغمساً ببقاء ووجود نفسي الضائعة... أقصّ لها قصص العشق التي عَرَفَتْها صديقاتي... وأحلف لها أنني لست عاشقة، وتبتسم بخبث طفولي لذيذ متذكّرةً يوم ولادتي.. وكنت قد سبقتني بسنتين كي أُهْدَى إليك، وتفرح أمي وأمك بنا بانتظار صرخة بكائي أن تزول... «(ص31).
فالنص يُنبئ بروح شفيفة تصيغ المشاعر بلغة رومانسية تمتاز بالإيحاء، ونقل جماليات المخيلة بصور مكثفة تمنح أبعاداً خاصة للمحسوس واللامحسوس لتتحوّل إلى رموز مكثفة لحالات إنسانية متنوعة تتشح بمعاناة الذات الساردة.
في رحلة البحث عن الذات الأنثوية تسترجع نهلة الشقران ما حطّمه الواقع من ذكريات، ممّا منح ذاتها المبدعة أهمية الكشف والبوح، وإدراك طبيعة السعي إلى تجسيد رغبات الأنثى ومشاعرها وإثارة انتباه الذوات القارئة، وذلك بإنشغالها بدلالات النص وتواشاجاته الكاشفة، ولذلك تُمارس الذات الساردة هيمنتها بأفكار موجزة ذات معانٍ موحيّة.
ويمكن القول إنّ الأنوثة باعتبارها قيمة، تتخلى عن بعض مكوناتها؛ لتتبنى بعض أعباء الواقع فتسترجع فاعليتها الموضوعيّة في إطار انفتاح وجداني يكشف رؤية منهجية تنفتح فيها دلالة الأنساق السردية باعتبارها أبنية تعبيرية دالّة.