وجدت ملك، فتاة في السادسة عشرة من عمرها، نفسها في عالم مختلف تماماً عمّا كانت تعرفه، مستذكرة ماذا كانت تشعر الفترات التي عايشتها في جائحة كورونا، تقول " في البداية، كانت العطلة من المدرسة تبدو كفكرة ممتعة، كنا نستمتع بقضاء وقت أطول مع العائلة ، ومشاهدة الأفلام، وتصفح مواقع التواصل الاجتماعي. لكن بعد مرور أسابيع قليلة، بدأت الأمور تأخذ منحى آخر" .
بدأت ملك تشعر بالوحدة. لم تعد ترى صديقاتها أو تتحدث معهن كما كانت تفعل يومياً في المدرسة. ساعات طويلة تمر دون أن تجد ما تفعله، وشعور بالخوف بدأ يتسلل إلى قلبها مع كل خبر جديد عن ارتفاع حالات الإصابة بالفيروس، كما تقول " تحولت أيامي إلى روتين مرهق استيقظ افتح
الكمبيوتر لتتلقى الدروس عن بعد، ولكن بعد فترة لم أعد أشعر بأي حماس أو رغبة في التعلم.
بمرور الوقت، بدأت ملك تعاني من نوبات من القلق، وصار النوم أمراً صعباً عليها. كانت تسأل نفسها باستمرار: "متى ستنتهي هذه الأزمة؟ متى سأعود لحياتي الطبيعية؟". كانت ترى والديها قلقين أيضاً، لكنهما لم يكونا يدركان تماماً ما الذي تمر به.
في أحد الأيام، وبعد أن شعرت باليأس تماماً، قررت أن تتحدث إلى والدتها عن مشاعرها. شاركتها ما تشعر به من خوف ووحدة، وعن افتقادها لصديقاتها والأنشطة التي كانت تجعل حياتها مليئة بالحيوية. كانت هذه اللحظة بداية لفهم ملك أن ما تمر به ليس شعوراً فريداً، بل هو نتيجة الظروف الصعبة التي فرضتها الجائحة على الجميع.
التغيرات النفسية والعاطفية بعد الجائحة
قالت الدكتورة ملك السعود، وهي أخصائية نفسية، إن العزلة الاجتماعية التي فرضتها إجراءات الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي أثناء جائحة كورونا كانت لها تأثيرات كبيرة على الصحة النفسية للفتيات اليافعات. فقد أوضحت أن هذه العزلة أدت إلى زيادة مستويات القلق والتوتر لديهن نتيجة قلة التفاعل الاجتماعي الذي كن يحصلن عليه من المدرسة أو الأصدقاء، وهو ما أثّر بشكل ملحوظ على استقرارهن النفسي.
وبيّنت الدكتورة السعود أن تلك الفترة شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في حالات القلق والاكتئاب بين الفتيات اليافعات بسبب الضغوط النفسية الناتجة عن الخوف من الإصابة بالفيروس أو فقدان أحد أفراد العائلة، بالإضافة إلى الصعوبات في التأقلم مع التغيرات المفاجئة في الحياة اليومية، مثل التعليم عن بُعد.
وأكدت أن فقدان الروتين اليومي، الذي كان يشمل الذهاب إلى المدرسة والمشاركة في الأنشطة الاجتماعية، أثّر سلباً على الفتيات، إذ إن الروتين يشكّل جزءاً مهماً من استقرارهن النفسي. وأوضحت أن غياب هذا الروتين أدى إلى شعورهن بالوحدة والعزلة، مما زاد من التحديات التي واجهنها في التكيف مع الروتين الجديد الذي فرضته الجائحة.
تأثير التعليم عن بعد
قالت المعلمة ابتسام الجواودة، وهي معلمة في إحدى المدارس إن التعليم عن بُعد قد أثر سلبًا على ثقة الطلاب بأنفسهم. فقد أوضحت أن العديد من الفتيات يشعرن بعدم القدرة على المنافسة مع أقرانهن بسبب نقص التفاعل الشخصي والافتقار إلى الدعم المباشر من المعلمين. كما بيّنت أن البيئة الدراسية المنزلية تفتقر غالباً إلى التحفيز، مما يؤدي إلى انخفاض الأداء الأكاديمي.
وأضافت المعلمة الجواودة أن الضغط النفسي الناتج عن التعلم عبر الإنترنت والتغيرات المفاجئة في أساليب التعليم كان واضحاً، وأكّد العديد من الأخصائيين أن هذا الضغط كان ملموسًا لدى الطلاب. حيث تواجه العديد من الفتيات صعوبة في التكيف مع أساليب التعليم الجديدة، مشيرةً إلى أن الانتقال المفاجئ من التعليم التقليدي إلى التعلم عن بُعد يُعدّ مصدرًا للقلق، خاصة فيما يتعلق بإدارة الوقت والانضباط الذاتي.
كما أوضحت أن الكثير من الطالبات يشعرن بالإرهاق نتيجة الضغوطات المرتبطة بالتكنولوجيا، مثل مشكلات الاتصال بالإنترنت أو صعوبات استخدام البرامج التعليمية، مما يزيد من الأعباء النفسية والتحديات التي تواجههن في التعلم عن بُعد.
الدور العائلي والدعم الاجتماعي
تُكمل الدكتورة ملك السعود قائلة إن الأبحاث قد تشير إلى أن التوتر العائلي أثناء الجائحة أثّر بشكل كبير على الصحة النفسية للفتيات اليافعات. فقد أشارت إلى أن زيادة الضغوطات المالية والوظيفية التي واجهتها الأسر قد تدفع الأطفال إلى الشعور بمستويات أعلى من القلق والتوتر، مما يؤثر على استقرارهم النفسي. وتوضح الدكتورة أن العديد من الفتيات يشعرن وكأنهن محاصرات في جو من التوتر المستمر، مما يساهم في تفاقم مشاعر الاكتئاب والقلق.
كما أكدت الدكتورة السعود أن دور الأسرة والأصدقاء في تقديم الدعم النفسي لا يمكن تجاهله، حيث يمكن للأسر والأصدقاء المساهمة في تعزيز الشعور بالانتماء والأمان. وأوضحت أن الأفراد الذين يتلقون الدعم العاطفي من أسرهم وأصدقائهم غالباً ما يشعرون بتحسن في حالتهم النفسية. وأضافت أن هذا الدعم يمكن أن يشمل الاستماع الفعّال، والتواصل المفتوح حول المشاعر، ووجود مساحات آمنة للتعبير عن القلق.
وفي الختام، بيّنت الدكتورة السعود أن الدعم الاجتماعي يلعب دورًا حيويًا في تعزيز قدرة الفتيات على التكيف مع التحديات النفسية خلال الأوقات الصعبة، مما يساعدهن على مواجهة الضغوطات والتقلبات التي فرضتها ظروف الجائحة.
تأثير الجائحة على النمو الاجتماعي والعلاقات
قال الدكتور علاء، وهو طبيب نفسي، إن الفتيات اليافعات تأثرن بشكل ملحوظ بجائحة كورونا في مجال النمو الاجتماعي وبناء العلاقات. وأوضح أن مع فرض إجراءات التباعد الاجتماعي، واجهت الفتيات تحديات كبيرة في تكوين علاقات اجتماعية جديدة، إذ أُجبر العديد منهن على الابتعاد عن بيئاتهن الاجتماعية المعتادة، مثل المدرسة أو الأنشطة الجماعية، مما أدى إلى قلة الفرص للتواصل مع الأقران. وأضاف أن هذه العزلة الاجتماعية أسفرت عن مشاعر الوحدة والقلق، حيث أصبحت الفتيات يواجهن صعوبة في فتح قنوات جديدة للتواصل وبناء صداقات جديدة.
وبيّن الدكتور علاء أن الجائحة ساهمت أيضًا في تعطيل تطوير المهارات الاجتماعية، مشيرًا إلى أن العديد من الشباب يتعلمون كيفية التفاعل مع الآخرين من خلال التجارب العملية. وأوضح أنه مع قلة التفاعل الشخصي، فقدت الفتيات فرصة تعزيز مهارات مثل التواصل الفعّال، وإدارة النزاعات، والقدرة على قراءة الإشارات الاجتماعية. وأضاف أن لهذه التأثيرات المحتملة أبعادًا طويلة الأمد على ثقتهن بأنفسهن وقدرتهن على التكيف في بيئات اجتماعية جديدة.
أكد الدكتور علاء أن هذا الوضع يستدعي تقديم الدعم المناسب لمساعدة الفتيات على تجاوز هذه التحديات، والعمل على استعادة قدراتهن الاجتماعية، وذلك لضمان تمكنهن من التكيف مع مختلف البيئات الاجتماعية مستقبلاً.
الاضطرابات النفسية الشائعة بعد الجائحة
يكمل الدكتور علاء، موضحًا أنه بعد جائحة كورونا، شهدنا زيادة ملحوظة في انتشار الاضطرابات النفسية بين الفتيات اليافعات، خاصة اضطرابات القلق واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD). وأشار إلى أن الأبحاث تشير إلى أن الضغوط النفسية الناجمة عن التغيرات المفاجئة في الحياة اليومية، مثل العزلة الاجتماعية والقلق من الإصابة بالفيروس، أدت إلى تفاقم مستويات القلق بين العديد من الفتيات. فقد أصبحت الكثير منهن يشعرن بقلق دائم حول المستقبل، وخوف من العودة إلى الحياة الطبيعية، مما يسبب توترًا مستمرًا يؤثر على أدائهن الأكاديمي والعلاقات الاجتماعية.
وفيما يتعلق باضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، بيّن الدكتور علاء أن بعض الفتيات تعرضن لتجارب صادمة خلال الجائحة، مثل فقدان أفراد من الأسرة أو الإصابة بعدوى فيروسية. وأوضح أن هذه التجارب يمكن أن تؤدي إلى ظهور أعراض مثل الكوابيس، الارتباك، والانفعال الزائد، مما يؤثر سلبًا على حياتهن اليومية واستقرارهن النفسي.
وأكد الدكتور علاء أهمية تقديم الدعم النفسي اللازم للفتيات للتعامل مع هذه الاضطرابات، سواء من خلال العلاج النفسي المتخصص أو من خلال المساعدة الاجتماعية. وأوضح أن الدعم العاطفي والمهني ضروري لضمان تحسين صحتهن النفسية وتعزيز قدرتهن على التكيف مع التغيرات الحياتية، مما يتيح لهن التغلب على الصعوبات والعودة إلى حياة مستقرة وصحية.
الوعي بالصحة النفسية والوصمة الاجتماعية:
قالت الدكتورة عروبة شواقفة وهي منسقة المشاريع النفسية في منظمة اتحاد منظمات الرعية الطبية والإغاثية – المكتب الإقليمي ي الشرق الاوسط، إن التعامل مع الصحة النفسية للفتيات اليافعات يتطلب اتباع استراتيجية شاملة تبدأ بالتثقيف والتوعية. يمكن تحقيق ذلك عبر برامج تعليمية في المدارس، حيث تساعد إدخال برامج خاصة بالصحة النفسية في المناهج الدراسية على تعليم الفتيات كيفية التعامل مع مشاعرهن وإدارة الضغوط، والتعرف على علامات الاضطرابات النفسية. كما يمكن الاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية مثل إنستغرام ويوتيوب، التي تحظى بشعبية كبيرة بين الفتيات، لزيادة الوعي حول الصحة النفسية عبر مقاطع فيديو ومحتوى تفاعلي. وتهدف ورش العمل وحلقات النقاش إلى جمع الفتيات مع أخصائيين في الصحة النفسية وتقديم المعلومات بطريقة بسيطة ومناسبة لأعمارهن.
إضافة إلى ذلك، أكدت الدكتورة شواقفة أهمية توفير بيئة آمنة وداعمة، سواء من خلال الأهل الذين يجب أن يكونوا مستمعين متفهمين وداعمين، أو من خلال المنظمات الدولية والمحلية التي تقدم خطوطًا ساخنة ومراكز دعم توفر خدمات استشارية يمكن للفتيات اللجوء إليها عند الشعور بالقلق أو الضغط النفسي.
وأشارت أيضًا إلى ضرورة مواجهة الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالصحة النفسية، وذلك من خلال إطلاق حملات إعلامية ومجتمعية تهدف إلى كسر الحواجز المحيطة بالحديث عن هذه الموضوعات، وتشجيع أفراد المجتمع على دعم الفتيات. وتشمل هذه الجهود تسليط الضوء على شخصيات ناجحة واجهت تحديات نفسية وتحدثت عنها علنًا، مما يساعد في تشجيع اليافعات على طلب المساعدة دون خجل، ويعزز الفهم بأن الاضطرابات النفسية ليست ضعفًا بل حالة يمكن أن تصيب أي شخص.
الدعم النفسي المتاح بعد الجائحة
قالت الدكتورة عروبة شواقفة، إن تحسين الصحة النفسية للفتيات اليافعات في مرحلة ما بعد الجائحة يتطلب تبني مجموعة من التوصيات العملية المبنية على الخبرات المكتسبة من المشاريع النفسية السابقة. ترى الدكتورة شواقفة ضرورة تفعيل برامج الصحة النفسية في المدارس بشكل أوسع، من خلال إدراج مقررات حول الصحة النفسية في المناهج الدراسية، وتوفير عدد أكبر من الأخصائيين النفسيين والمرشدين المدربين على تقديم الدعم اليومي للفتيات. كما تؤكد أهمية التوعية المجتمعية للحد من الوصمة الاجتماعية المحيطة بالصحة النفسية، من خلال حملات توعوية تستهدف العائلات والمجتمع ككل لتشجيع الحديث عن الصحة النفسية كجزء طبيعي من الحياة.
أشارت أيضًا إلى أن تعزيز دور الإعلام أمر لا غنى عنه، حيث يمكن لوسائل الإعلام أن تساهم بشكل كبير من خلال تقديم برامج وأفلام توعوية تسلط الضوء على أهمية الصحة النفسية، ومشاركة قصص نجاح لأشخاص معروفين تخطوا تحديات نفسية، مما يشجع الفتيات على طلب المساعدة دون خجل. وتوصي الدكتورة بتشجيع الأنشطة الترفيهية والفنية، كالرسم والموسيقى، إلى جانب أنشطة التأمل واليوغا، والتي تُعد وسائل فعّالة لتحسين الصحة النفسية والتخفيف من التوتر.
وبالإضافة إلى ذلك، شددت الدكتورة شواقفة على ضرورة تقوية التواصل الأسري، من خلال برامج متخصصة تساعد الأهل على تعزيز تواصلهم مع بناتهم، والاستماع إليهن دون أحكام، وتقديم الدعم العاطفي. كما دعت إلى الاهتمام بالبحث والتقييم المستمر لفهم احتياجات الفتيات وتطوير البرامج وفقًا لهذه الاحتياجات. وأكدت كذلك على أهمية بناء شبكات دعم اجتماعي للفتيات لتعزيز الصداقات الصحية، حيث أن العلاقات الاجتماعية القوية تلعب دورًا هامًا في تعزيز الصحة النفسية.
ختامًا، دعت الدكتورة شواقفة إلى تشجيع الحكومات على تبني سياسات تدعم تحسين الوصول إلى خدمات الصحة النفسية، وتدعم الأبحاث التي تركز على احتياجات الفتيات اليافعات، مما يضمن تقديم خدمات تلبي هذه الاحتياجات وتساهم في بناء جيل من الفتيات يتمتع بقدرة أعلى على مواجهة التحديات النفسية.
يأتي هذا التقرير في إطار الشراكة بين شبكة الإعلام المجتمعي- راديو البلد و جمعية معهد تضامن النساء الأردني لمشروع متحدون في مواجهة العنف ضد المرأة والفتيات أثناء وما بعد جائحة كورونا الممول من صندوق الأمم المتحدة الاستئمانيUNTF.