َحكاية رجل "أهبل"
جملة تكررت على مسامعه مرارا بتعبيرات مختلفة في الآونة الأخيرة، البعض يقول له بدماثة: أنت طيب القلب أكثر من اللازم، والبعض الآخر يقول بحزم: لا تكن شديد الثقة بالآخرين.
ولأن الجملة الصادمة قيلت في وجهه مباشرة "وعلى بلاطة" من قبل أشخاص مختلفين في كل شيء سوى إجماعهم على تلك النتيجة، فإنه استبعد عنصر سوء النية، وخشي أن يكون لدى الأصدقاء ما يبرر هذا الاستنتاج، لذلك قرر في لحظة صفاء أن يخضع شخصيته موضع الانتقاد إلى تقييم ذاتي بالغ الموضوعية والحياد، يتناول فيه أداءه المهني والإنساني، مركزا على العيوب قبل المزايا، فأقر لنفسه بأنه شخص نزق، مزاجي عنيد لا يتمتع بالمرونة الاجتماعية المطلوبة.
لكنه كان على يقين أن ذلك لا يؤثر على منجزه الوظيفي، لأنه يؤدي مهام عمله بكل إخلاص حريصا على الإبداع والابتكار، حائزا على رضا رؤسائه، الذين يشيدون دوما بشخصيته الجادة، ويمنحونه لقب الموظف المتميز، وتعلق صورته أحيانا على لوحة الشرف في مقر عمله، ما يجعله يحصد المكافآت الاستثنائية وشهادات التقدير التي يعلقها على جدران مكتبه بكل اعتزاز.
ورغم معرفته الشخصية بالكثير من المتنفذين والأثرياء، إلا أنه يبقى نموذجا غير صالح للتداول بينهم، لعدم اكتراثه باهتماماتهم من استثمارات وعقارات وأرصدة وأبراج ويخوت وألماس، وغيرها من مفردات الوجاهة، وبالتالي فهو محصن بداهة ضد الانبهار بالبريق الذي يعمي أبصار الكثيرين، غير أنه يشعر بغربة مماثلة في أوساط المفترض أنها أكثر رأفة وحميمية، ويشارف على الاختناق أحيانا من فرط النفاق والتزييف والانتهازية والتزاحم على المكتسبات الصغيرة.
ولأنه يميل بطبعه إلى المباشرة والوضوح، وهو أخرق بالكامل فيما يتعلق بمهارات المجاملة إلا في حدها الأدنى، فإنه كثيرا ما يجد نفسه طرفا في خصومات لم يخترها، فيذهب إلى العزلة طائعا متجنبا مزيدا من الخيبات. غير أنه كشخص تربى على الصخب سرعان ما يستوحش، فيعاود الحركشة بالحياة، متخذا قرارات غير جادة بضرورة التركيز على مصلحته فقط، واستثمار عوامل الصعود الاجتماعي التي يتميز بها، وفقا للأصدقاء، لكنه يخفق في الإيفاء بوعده لذاته ويعود إلى أسلوبه غير الاستراتيجي القائم على إنكار الذات وحس الشفقة والانحياز للطرف الضعيف في أي معادلة.
في علاقته بالآخرين ليست لديه معايير متعلقة بالربح والخسارة، فهو يحب أشخاصا ويمقت آخرين لأسباب غامضة متعلقة بمزاجه، لديه منسوب فائض من الوفاء يقال إنه يعيق تقدمه نحو الأمام، نفسه "خضرا"، يحب الناس ويعشق الحياة مهما ضنت عليه بأسباب الفرح.
حين انتهى صاحبنا من تقييمه الذاتي، وأعاد التفكير في نصيحة عدد كبير من الأصدقاء، أيقن أنه سيظل ضمن تصنيفات المرحلة وناسها "أهبل" بامتياز، غير إن روحه ستظل محلقة كطائر في فضاء من الكبرياء حيث لا هبوط!











































