ورقة: واقع الدولة الواحدة في إسرائيل حان الوقت للتخلي عن حل الدولتين

الرابط المختصر

ترجمة: ديانا أبو رمان/ تحرير ومراجعة: عبدالله الطائي

على وقع الأحداث المتصاعدة وارتفاع حدة التوتر بين الفلسطينيين وسلطات الاحتلال الإسرائيلي، خصوصًا بعد ما شهدته ساحات المسجد الأقصى مؤخرًا من اقتحامات متكررة واعتداءات مستمرة على المصلين في الحرم القدسي واعتداء على المسيحيين ومنعهم من الوصول إلى كنيسة القيامة إلى جانب العلميات العسكرية على قطاع غزة واتساع دائرة المستوطنات في أراضي الضفة الغربية، تُطرح تساؤلات عديدة وبشكل مستمر حول منطقية الاستمرار بالمطالبة بخفض التصعيد والتمسك والتعويل على خيار حل الدولتين ومدى جديته وإمكانية تطبيقه على الأرض.



في هذا المقال الذي نُشر في مجلة Foreign Affairs وترجمه معهد السياسة والمجتمع، يدعو الكتّاب إلى الاتجاه صوب واقع الدولة الواحدة من منطلق الحقائق على الأرض، والتخلي عن خيار حل الدولتين، ولربما أن هذا الرأي بدا وكأنه يأخذ حيّزًا مهمًّا لدى النخب المقربة من دوائر القرار في الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية. ومن هذا المنطلق ننشر المقال، الذي لا يعبّر عن وجهة نظر المعهد، لاعتقادنا بوجوب أن تحظى هذه المسألة بنقاش أوسع لدى المسؤولين والنخب الفلسطينية والأردنية.

عودة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى السلطة بتحالفٍ يمينيّ متطرّف ضيّق حطّمت حتى وهم حل الدولتين. فلم يخجل أعضاء حكومته الجديدة من إبداء آرائهم حول ماهية إسرائيل وما يجب أن تكون عليه في جميع الأراضي التي تسيطر عليها: “إسرائيل الكبرى” لا تعرَّف على أنها دولة يهوديّة فحسب، بل دولة يكرَّس فيها القانونُ التفوقَ اليهوديّ على جميع الفلسطينيين الذين بقوا هناك. ونتيجةً لذلك لم يعد من الممكن تجنب مواجهة واقع الدولة الواحدة.

حكومة إسرائيل الراديكاليّة الجديدة لم تخلق هذا الواقع، لكنها جعلت من المستحيل إنكاره؛ فالوضع المؤقت “لاحتلال” الأراضي الفلسطينية يمثل اليوم حالةً دائمةً لدولة تقود فيها مجموعةٌ من الناس مجموعةً أخرى. كان الوعد بحلّ الدولتين منطقيًّا كمستقبلٍ بديلٍ في السنوات التي تلت اتفاقيات أوسلو عام 1993 عندما كان هناك مؤيدون للتسوية من الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، إذ تم إحراز تقدّم ملموس عبر بناء مؤسسات دولة فلسطينية افتراضية. لكن تلك الفترة انتهت منذ مدة طويلة؛ فاليوم ليس من المنطق السماح للتطلعات المستقبليّة الخياليّة بأن تحجب الخيارات الحاليّة الراسخة بعمق.



لقد حان الوقت للتعامل مع ما يعنيه واقع الدولة الواحدة بالنسبة للسياسات، والسياسة والتحليل؛ ففلسطين ليست دولة منتظرة، وإسرائيل ليست دولة ديمقراطية تحتل بالصدفة الأراضي الفلسطينية. لطالما شكلت جميع الأراضي الواقعة غرب نهر الأردن دولة واحدة تحت الحكم الإسرائيلي، حيث تخضع الأرض والشعب لأنظمة قانونية مختلفة جذريًا، ويُعامَل الفلسطينيون بشكلٍ دائم على أنهم طبقة أدنى. ولربما أن صانعي السياسة والمحللين الذين يتجاهلون واقع الدولة الواحدة سيُحكم عليهم بالفشل وعدم الأهمية، فهم لا يفعلون شيئًا سوى توفير ستار دخاني لترسيخ الوضع الراهن.



بعض الآثار المترتبة على واقع الدولة الواحدة واضحة. لن يتوقف العالم عن الاهتمام بحقوق الفلسطينيين، بغض النظر عن مدى حماس العديد من مؤيدي إسرائيل (والحكام العرب) الذين قد يرغبون في ذلك.

تصاعد العنف ونزع الملكيّة وانتهاكات حقوق الإنسان خلال العام الماضي، يزداد خطر المواجهة العنيفة على نطاق واسع مع كل يوم يحبس فيه الفلسطينيون في هذا النظام المتوسع باستمرار من القمع القانوني والتعدي الإسرائيلي. ولكن ما هو أقل وضوحًا هو كيف سيتكيف الفاعلون المهمون مع تحول واقع الدولة الواحدة من سر مكشوف إلى حقيقة لا يمكن إنكارها.



يبدو أن الرئيس الأمريكي جو بايدن ملتزم تمامًا بالوضع الراهن، ولا يوجد دليل على أن إدارته قد فكرت في هذا الخيار أو فعلت الكثير بما يتجاوز إدارة الأزمات والتعبير عن السرور. مشاعر الأمنيات قوية في واشنطن، حيث ما يزال العديد من المسؤولين الأمريكيين يحاولون إقناع أنفسهم بأن هناك فرصة للعودة إلى مفاوضات حل الدولتين بعد مغادرة حكومة نتنياهو المنحرفة، لكن على ما يبدو أن تجاهل الواقع الجديد لن يعطي لهذا الخيار أمدًا أطول.

إذا كانت الولايات المتحدة تريد تجنب حالة عدم الاستقرار العميقة في الشرق الأوسط والمزيد من تحدي أجندتها العالمية الأوسع، فيجب عليها التوقف عن استثناء إسرائيل من معايير وهياكل النظام الدولي الليبرالي الذي تأمل واشنطن في قيادته. فالأوضاع التي تعصف بإسرائيل وفلسطين تتطلب استجابةً عاجلة من الدولة -الولايات المتحدة- التي مكّنت ظهور دولة واحدة تدعم التفوق اليهودي.

 

من “غير مقبول” إلى “غير قابل للنكران”



خيار الدولة الواحدة ليس احتمالًا مستقبليًّا، بل إنه موجود بالفعل، بغض النظر عما يعتقده أي شخص. فدولة واحدة تتحكم بين البحر الأبيض المتوسط ​​ونهر الأردن في دخول وخروج الأشخاص والبضائع، وتشرف على الأمن، ولديها القدرة على فرض قراراتها وقوانينها وسياساتها على ملايين الأشخاص دون موافقتهم.



يمكن لواقع الدولة الواحدة، من حيث المبدأ، أن يقوم على أساس الحكم الديمقراطي والمواطنة المتساوية. لكن مثل هذا الخيار ليس مطروحًا في الوقت الحالي؛ فإسرائيل اضطرت إلى الاختيار بين الهوية اليهوديّة لإسرائيل والديمقراطية الليبرالية، واختارت الأولى. فهي مغلقة في نظام السيادة اليهودية، حيث يتم التمييز هيكليًّا ضد غير اليهود أو استبعادهم في مخطط متدرج: يتمتع بعض غير اليهود بمعظم، ولكن ليس كل، بالحقوق التي يتمتع بها اليهود، بينما يعيش معظم غير اليهود في ظل إسرائيل الفصلَ والتمييزَ والسيطرة.



قدمت عملية السلام في السنوات الأخيرة من القرن العشرين احتمالات محيرة لشي مختلف. ولكن منذ قمة كامب ديفيد عام 2000، عندما فشلت المفاوضات التي قادتها الولايات المتحدة في تحقيق اتفاق الدولتين، عملت عبارة “عملية السلام” في الغالب على تشتيت الانتباه عن الحقائق الموجودة على الأرض وتقديم ذريعة لعدم الاعتراف بها. الانتفاضة الثانية، التي اندلعت بعد فترة وجيزة من خيبة الأمل في كامب ديفيد، والتدخلات الإسرائيلية اللاحقة في الضفة الغربية حولت السلطة الفلسطينية إلى أكثر من مجرد مقاول أمني في الداخل الفلسطيني لإسرائيل. وقامت بتسريع الانجراف نحو اليمين في السياسة الإسرائيلية، وأحدثت تحولات ديموغرافية من خلال انتقال المواطنين الإسرائيليين إلى الضفة الغربية، وتسببت بتجزئة جغرافية للمجتمع الفلسطيني.



بدا جليًّا التأثير التراكمي لهذه التغييرات خلال أزمة عام 2021 في الاستيلاء على منازل الفلسطينيين في القدس الشرقية، الأمر الذي لم يضع المستوطنين الإسرائيليين والفلسطينيين في صراع ضد بعضهم البعض فحسب، بل شمل الصراع أيضًا المواطنين اليهود والفلسطينيين في الداخل الإسرائيلي ما أدى إلى تقسيم المدن والأحياء.

حكومة نتنياهو الجديدة، المكونة من ائتلاف من اليمينيين الدينيين والقوميين المتطرفين، تلخص هذه الاتجاهات، فأعضاؤها يتباهون بمهمتهم لإنشاء إسرائيل جديدة على صورتهم: أقلّ ليبرالية وأكثر تديّنًا وأكثر استعدادًا للتمييز ضد غير اليهود. كتب نتنياهو أن “إسرائيل ليست دولة لجميع مواطنيها” بل هي “للشعب اليهودي فقط”. وأعلن إيتمار بن غفير الذي عينه نتنياهو وزيرًا للأمن القومي، أن غزة يجب أن تكون “لنا” وأن “بإمكان الفلسطينيين الذهاب إلى. . . المملكة العربية السعودية أو أماكن أخرى، مثل العراق أو إيران”.

لطالما شاركت أقلية من الإسرائيليين هذه الرؤية المتطرفة ولديها أسس قوية في الفكر والممارسات الصهيونية وبدأت في اكتساب أنصار بعد فترة وجيزة من احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية في حرب عام 1967. وعلى الرغم من أنها ليست وجهة نظر مهيمنة حتى الآن، إلا أنها يمكن أنها تعبر بطريقة مقبولة عن المجتمع الإسرائيلي ولا يمكن اعتبارها موقفًا هامشيًا.

ولطالما كانت حقيقة واقع الدولة الواحدة جلية لأولئك الذين يعيشون في إسرائيل والأراضي التي تسيطر عليها ولأي شخص انتبه للتحولات الحتمية على الأرض، لكن في السنوات القليلة الماضية، تغير شيء ما. حتى وقت قريب، نادرًا ما كان يتم الاعتراف بواقع الدولة الواحدة من قبل الجهات الفاعلة المهمة، وأولئك الذين تحدثوا الحقيقة بصوت عالٍ تم تجاهلهم أو معاقبتهم على فعل ذلك. ومع ذلك، وبسرعة ملحوظة، أصبح ما لا يمكن قوله قريبًا من الحكمة التقليدية.

الديمقراطية بالنسبة للبعض



يحتاج العديد من المراقبين إلى ارتداء عدسات نظر جديدة لرؤية حقيقة الدولة الواحدة، وهم الأشخاص الذين اعتادوا على التمييز بين الأراضي المحتلة وإسرائيل – أي الدولة كما كانت قبل عام 1967 عندما احتلت إسرائيل الضفة الغربية وغزة – يعتقدون أن سيادة إسرائيل تقتصر على الأراضي التي تحتلها – السيادة قبل عام 1967.

لكن الدولة والسيادة ليسا نفس الشيء. تُعرَّف الدولة بما يتم السيطرة عليه، بينما تعتمد السيادة على اعتراف الدول الأخرى بشرعية تلك السيطرة.

ستجزئ هذه العدسات الجديدة مفاهيم الدولة، والسيادة، والأمة، والمواطنة، مما يسهل رؤية واقع الدولة الواحدة الذي يقوم حتمًا على علاقات التفوق والدونية بين اليهود وغير اليهود في الأراضي الخاضعة لسيطرة إسرائيل المختلفة، ولكن دون منازع. انظر إلى إسرائيل من منظور الدولة. إنها تسيطر على منطقة تمتد من النهر إلى البحر، ولها شبه احتكار لاستخدام القوة، وتستخدم هذه القوة للحفاظ على حصار شديد القسوة على غزة وإحكام السيطرة على الضفة الغربية من خلال أنظمة نقاط التفتيش والشرطة وتوسيع المستوطنات بلا هوادة.

حتى بعد انسحاب قواتها من غزة في عام 2005 احتفظت الحكومة الإسرائيلية بالسيطرة على نقاط الدخول والخروج في القطاع. تتمتع غزة بدرجة من الحكم الذاتي، كالتي تتمتع بها أجزاء من الضفة الغربية، ومنذ الحرب الأهلية الفلسطينية القصيرة في عام 2007، تدار المنطقة داخليًا من قبل منظمة حماس الإسلامية، التي لا تقبل إلا القليل من المعارضة. إلا أن حماس لا تسيطر على الساحل أو المجال الجوي أو حدود المنطقة. بعبارة أخرى، وفقًا لأي تعريف معقول، فإن إسرائيل الدولة تشمل جميع الأراضي من حدودها مع الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط.

كان من الممكن التغاضي عن هذا الواقع لأن إسرائيل لم تقدم ادعاءات رسمية في سيادتها على كل هذه المناطق، فقد ضمت بعض الأراضي المحتلة، بما في ذلك القدس الشرقية ومرتفعات الجولان. ولكنها لم تعلن بعد السيادة على بقية الأراضي التي تسيطر عليها، ولربما مجموعة فقط من الدول من المرجح أن تعترف بمثل هذه الادعاءات إذا كانت إسرائيل ستقدمها. إن السيطرة على الأراضي وتعزيز الهيمنة المؤسسية دون إضفاء الطابع الرسمي على السيادة تمكن إسرائيل من الحفاظ على واقع الدولة الواحدة بشروطها. يمكنها أن تنكر مسؤوليتها عن معظم الفلسطينيين وحقوقهم لأنهم سكان أراضيها، ولكنهم ليسوا مواطنين في هذه الدولة، مما يبرر بشكل ساخر هذا التمييز على أنه يبقي إمكانية حل الدولتين على قيد الحياة. من خلال عدم إضفاء الطابع الرسمي على السيادة، يمكن لإسرائيل أن تكون ديمقراطية لمواطنيها، ولكنها غير خاضعة للمساءلة من قبل الملايين من سكانها. وقد سمح هذا الخيار للعديد من مؤيدي إسرائيل في الخارج بالاستمرار بالتظاهر و الادعاء بأن كل هذا مؤقت، وأن إسرائيل ستبقى ديمقراطية ليبرالية وأن الفلسطينيين في يوم من الأيام سيمارسون حقهم في تقرير المصير.

ولكن حتى داخل حدود ما قبل عام 1967 فإن الديمقراطية الإسرائيلية لها حدود، ويتضح ذلك عندما يتم النظر إليها من خلال عدسة المواطن. فقد أنتجت الهوية اليهودية لإسرائيل وواقع الدولة الواحدة سلسلة معقدة من التصنيفات القانونية التي توزع حقوقًا ومسؤوليات وحماية متباينة. يعرّف قانون “الدولة القومية” لعام 2018 إسرائيل على أنها “الدولة القومية للشعب اليهودي” وينصّ على أن “ممارسة الحق في تقرير المصير القومي في دولة إسرائيل هو أمر فريد للشعب اليهودي”؛ ولا يوجد ذكر للديمقراطية أو المساواة للمواطنين غير اليهود.

وفقًا لهذا التسلسل الهرمي للعضوية، فإن الفئة الكاملة من المواطنة محجوزة لليهود الإسرائيليين (على الأقل أولئك الذين تتوافق يهوديتهم مع المعايير الحاخامية). إنهم مواطنون بدون شروط. يتمتع الفلسطينيون الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية ويقيمون في إسرائيل قبل عام 1967 بحقوق سياسية ومدنية، ولكنهم يواجهون قيودًا أخرى -قانونية وغير قانونية – على حقوقهم ومسؤولياتهم وحمايتهم. يملك الفلسطينيون المقيمون في القدس، نظريًا، خيار أن يصبحوا مواطنين إسرائيليين، لكن معظمهم يرفض ذلك لأن القيام بذلك سيكون عملاً من أعمال عدم الولاء. الفلسطينيون المقيمون في المناطق هم أدنى طبقة على الإطلاق. وتعتمد حقوقهم ومسؤولياتهم على المكان الذي يعيشون فيه، مع وجود أولئك الموجودين في غزة في أسفل التسلسل الهرمي – وهو وضع لم يتدهور إلا منذ سيطرة حماس على السلطة. إن مطالبة أي فلسطينيّ وصف وضعه القانونيّ يمكن أن يؤدي إلى إجابة تستمر لعدة دقائق – وما تزال الإجابة مليئة بالغموض.

لطالما كان هناك أمل في حل الدولتين الذي من شأنه الاعتراف بحقوق الفلسطينيين، كان من الممكن النظر إلى الوضع داخل حدود إسرائيل لعام 1967 على أنه حالة مساواة قانونية مقترنة بالتمييز الفعلي ضد بعض المواطنين وهو واقع مؤسف، ولكنه مشترك في كثير من أنحاء العالم. ولكن عندما يعترف المرء بواقع الدولة الواحدة، ينكشف أمر أكثر ضررًا. في تلك الدولة الواحدة، هناك بعض الذين تخضع حركتهم وسفرهم وحالتهم المدنية وأنشطتهم الاقتصادية وحقوق الملكية والوصول إلى الخدمات العامة لقيود شديدة. نسبة كبيرة من المقيمين طيلة حياتهم من ذوي الجذور العميقة والممتدة في أراضي تلك الدولة يصبحون عديمي الجنسية. وجميع فئات ودرجات التهميش هذه تُفرض من خلال إجراءات قانونية وسياسية وأمنية تفرضها الجهات الحكومية المسؤولة على جزء فقط من السكان.

إن تسمية هذا الواقع أمر مثير للجدل سياسيًّا، حتى مع وجود إجماع حول التباينات الشديدة الملزمة التي تحدده.

دفعت سلسلة من التقارير الصادرة عن المنظمات غير الحكومية الإسرائيلية والدولية التي توثق هذه التباينات مصطلح “الفصل العنصري” من هوامش النقاش الإسرائيلي – الفلسطيني إلى مركزه. يشير الفصل العنصري – ابرتايد إلى نظام الفصل العنصري الذي استخدمته حكومة الأقلية البيضاء في جنوب إفريقيا لترسيخ سيادة البيض من عام 1948 إلى أوائل التسعينيات. ومنذ ذلك الحين تم تعريفها بموجب القانون الدولي والمحكمة الجنائية الدولية على أنها مخطط قانوني للفصل العنصري والتمييز واعتبرت جريمة ضد الإنسانية. وقد طبقت منظمات حقوق الإنسان الرئيسية، بما في ذلك Human Rights Watchومنظمة العفو الدولية Amnesty International، المصطلح على إسرائيل.

وكذلك الحال بالنسبة للعديد من الأكاديميين: وفقًا لاستطلاع أجري في مارس 2022 لعلماء يركزون على الشرق الأوسط وأعضاء في ثلاث جمعيات أكاديمية كبيرة، وصف 60% من المشاركين الوضع في إسرائيل والأراضي الفلسطينية بأنه “واقع دولة واحدة مع عدم المساواة. أقرب إلى الفصل العنصري “.

وقد لا يكون المصطلح مناسبًا تمامًا. إن نظام التمييز البنيوي في إسرائيل أشد قسوة من تلك التي تتبعها حتى أكثر الدول غير الليبرالية. لكنه لا يقوم على أساس العرق، كما تم تعريف الفصل العنصري في جنوب إفريقيا ويتم تعريفه بموجب القانون الدولي، ولكن على أساس العرق والجنسية والدين. ولعل هذا التمييز مهم لمن يرغب في اتخاذ إجراءات قانونية ضد إسرائيل. ومع ذلك، فهو أقل أهمية من الناحية السياسية، ولا معنى له تقريبًا عندما يتعلق الأمر بالتحليل. ما يهم سياسيًا هو أن مصطلحًا من المحرمات أصبح بشكل متزايد مفهومًا سائدًا وفهمًا منطقيًا للواقع. من الناحية التحليلية، ما يهم هو أن تسمية الفصل العنصري تصف بدقة الحقائق على الأرض وتقدم بدايات خارطة طريق لتغييرها. الفصل العنصري ليس عبارة سحرية تغير الواقع عند الاستشهاد بها. لكن دخولها إلى التيار السياسي السائد يكشف عن اعتراف واسع بأن الحكم الإسرائيلي مصمم للحفاظ على السيادة اليهودية في جميع الأراضي التي تسيطر عليها الدولة. قد لا يكون نظام إسرائيل فصلًا عنصريًا من الناحية الفنية، لكنه متناغم معه.

الصحوة الفظة



إن الإسرائيليين والفلسطينيين هم الذين يجب أن يتعاملوا مع واقع الدولة الواحدة. لكن هذا الواقع سيعقد أيضًا علاقة إسرائيل ببقية العالم. لمدة نصف قرن، سمحت عملية السلام للديمقراطيات الغربية بالتغاضي عن الاحتلال الإسرائيلي لصالح مستقبل طموح ينتهي فيه الاحتلال بالتفاوض المتبادل. كما ساعدت الديموقراطية الإسرائيلية (مهما كانت معيبة) والتمييز الرمزي بين إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة الجهات الخارجية على غض النظر.



لقد ولت كل هذه الانحرافات



لطالما كان واقع الدولة الواحدة جزءًا لا يتجزأ من القانون والسياسة والمجتمع الإسرائيليين، حتى لو تم الاعتراف به الآن على نطاق واسع. لا توجد بدائل جاهزة، وقد مرت عقود منذ أن كانت هناك أي عملية سياسية ذات مغزى لإنشاء بديل.

ربما لن يتغير الاعتراف بهذه الحقائق كثيرًا، فالعديد من المشكلات العالمية الدائمة لم يتم حلها أبدًا. نحن نعيش في عالم شعبوي، حيث تتعرض الديمقراطية وحقوق الإنسان للتهديد. يشير القادة الإسرائيليون إلى الاتفاقيات الإبراهيمية، التي أقامت علاقات إسرائيل مع البحرين والمغرب والسودان والإمارات العربية المتحدة، ليقولوا إن التطبيع مع الدول العربية لم يتطلب أبدًا حل القضية الفلسطينية. من جانبهم، قد يستمر القادة الغربيون ببساطة في التظاهر بأن إسرائيل تشاركهم قيمهم الديمقراطية الليبرالية بينما تضاعف العديد من الجماعات المؤيدة لإسرائيل في الولايات المتحدة دعمها. قد يكافح اليهود الليبراليون الأمريكيون للدفاع عن إسرائيل التي تتمتع بالعديد من خصائص الفصل العنصري، لكن احتجاجاتهم لن يكون لها تأثير عملي يذكر.



ومع ذلك، هناك أسباب للاعتقاد بأن الانتقال من عالم الدولتين الطَموح إلى عالم حقيقي من دولة واحدة يمكن أن يكون طريقاً صخريًا. إن تعميم تشبيه الفصل العنصري وصعود حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات – ورد الفعل العنيف ضد كليهما – يوحي بأن المجال السياسي قد تغير. قد تتمتع إسرائيل بأمن مادي واعتراف دبلوماسي إقليمي أكثر من أي وقت مضى، مع القليل من القيود الدولية أو المحلية على أنشطتها في الضفة الغربية. لكن السيطرة تتطلب أكثر من قوة وحشية. كما تتطلب بعض مظاهر الشرعية، مع الحفاظ على الوضع الراهن من خلال طبيعتها المسلَّمة، وتجنيسها بمنطق سليم، واستحالة حتى التفكير في مقاومة مبررة. ما تزال إسرائيل تمتلك القوة المادية لكسب المعارك التي تختارها. ولكن مع انتشار تلك المعارك، فإن كل نصر يزيد من تآكل موقعها القتالي. أولئك الذين يريدون الدفاع عن واقع الدولة الواحدة يدافعون عن المبادئ الاستعمارية في عالم ما بعد الاستعمار.



النضال من أجل تعريف وتشكيل شروط هذه الدولة الواحدة قد يتخذ الواقع أشكالًا جديدة. في الماضي، خلقت الحروب الدرامية بين الدول فرصًا للمفاوضات والدبلوماسية عالية المخاطر. لكن في المستقبل، من غير المرجح أن يواجه صانعو السياسة الأمريكيون صراعات تقليدية مثل تلك التي اندلعت بين إسرائيل والدول العربية في عامي 1967 و1973. وبدلًا من ذلك، سيواجهون شيئًا أقرب إلى الانتفاضة الأولى والثانية – اندلاع مفاجئ للعنف والجماهير. نزاع شعبي مثل تلك التي حدثت في مايو 2021. في ذلك الوقت، أشعلت الاشتباكات في القدس حريقًا أوسع نطاقًا شمل إطلاق الصواريخ بين إسرائيل وحماس، ومظاهرات وأعمال عنف في الضفة الغربية، وحوادث بشعة حيث إسرائيليون من أصول يهودية وفلسطينية (والشرطة الإسرائيلية) تصرفوا كما لو أن العِرق يتفوق على المواطنة. يبدو أن أعمال العنف اليومية والنوبات المتفرقة من الاضطرابات الشعبية – وربما حتى انتفاضة ثالثة كاملة – لا مفر منها.



صانعو السياسة في الولايات المتحدة ودول أخرى، الذين تحدثوا منذ فترة طويلة عن الحاجة إلى الحفاظ على حل الدولتين، مجبرون على الاستجابة للأزمات التي لم يكونوا مستعدين لها. أثارت المشاكل التي أحدثها واقع الدولة الواحدة حركات تضامن ومقاطعات وصراعات مجتمعية جديدة. تسعى المنظمات غير الحكومية، والحركات السياسية التي تدعم قضايا إسرائيلية وفلسطينية متنوعة، وجماعات المناصرة عبر الوطنية إلى تغيير المعايير العالمية والتأثير على الأفراد والمجتمعات والحكومات بحملات إعلامية جديدة وقديمة. على نحو متزايد، يهدفون إلى تصنيف أو مقاطعة البضائع المنتجة في الأماكن التي تسيطر عليها الحكومة الإسرائيلية (أو حظر مثل هذه المقاطعات) واستدعاء قوانين الحقوق المدنية لتعبئة مؤيديهم وإيجاد بدائل للجهود الدبلوماسية غير المكتملة لقادة الحكومة.



حيث تسعى كل هذه الحركات والحملات إلى تعبئة الجماهير المنقسمة بشدة. الفلسطينيون منقسمون بين حاملي الجنسية الإسرائيلية وأولئك الذين لديهم أشكال أخرى من الإقامة، وكذلك بين أولئك الذين يعيشون في القدس الشرقية والضفة الغربية وغزة. إنهم منقسمون بين أولئك الذين يعيشون في واقع الدولة الواحدة وأولئك الذين يعيشون في الشتات. وهم منقسمون بين حركة فتح السياسية التي تسيطر على الضفة الغربية وحركة حماس التي تسيطر على غزة. هم أيضًا منقسمون بشكل متزايد على مدار الأجيال. يشعر الفلسطينيون الأصغر سنًا بأنهم أقل ارتباطًا بالحركات التي وجهت الالتزامات والطاقات السياسية لآبائهم وأجدادهم، ومن المرجح أن ينجذبوا إلى مجموعات جديدة واعتماد تكتيكات مقاومة جديدة.

وبالمثل، ينقسم اليهود الإسرائيليون حول طبيعة الدولة، ودور الدين في السياسة، ومجموعة من الأمور الأخرى، بما في ذلك حقوق المثليين والمثليات والأقليات الجنسية الأخرى. نظم اليهود الإسرائيليون الليبراليون احتجاجات ضخمة ضد هجوم حكومة نتنياهو على الديمقراطية والقضاء، لكنهم لم يحشدوا حول القضية الفلسطينية كثيرًا، مما أظهر كيف أن الخلافات الداخلية قد وضعت الأسئلة حول عملية السلام جانبًا والتي لم تعد موجودة.

والنتيجة هي أن القادة من كلا الجانبين لا يقودون. هناك سياسيون في جميع المعسكرات يريدون إبقاء غطاء على الصراع، وهذاعمومًا ليس في خدمة أي استراتيجية للحل ولكن من منطلق الشعور بعدم الكفاءة والقصور الذاتي. السياسيون الآخرون يريدون عكس ذلك: تغيير الأمور والتحرك في اتجاه مختلف تمامًا، كما فعل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بـ “صفقة القرن”، حيث وعد بإنهاء الصراع في مسألة قضت فعليًا على حقوق الفلسطينيين وتطلعاتهم الوطنية.

كما يأمل اليهود الذين يضغطون على الضم الرسمي للأراضي المحتلة والفلسطينيون الذين يدافعون عن أنماط جديدة لمقاومة الحكم الإسرائيلي في قلب الوضع الراهن. لكن كل هذه الجهود تتعثر على الهياكل الراسخة للسلطة والمصالح.

في ظل هذه الظروف، من المرجح أن تفشل أي دبلوماسية تتم باسم حل النزاع بطريقة عادلة لأنها أخطأت في فهم البدائل الممكنة للمأزق الحالي والإرادة بين جميع الأطراف لتحقيقها. سيتعين على صانعي السياسات الراغبين في بناء خيارات أفضل الانتباه إلى الطرق التي يعمل بها نظام الدولة الواحدة ويتطور. سوف يحتاجون إلى فهم كيف يتخيل سكانها المتنوعون وطنهم، وكيف يتم فرض الحقوق أو انتهاكها، وكيف تتغير التركيبة السكانية ببطء، ولكن بشكل نذير.

أشباح الربيع العربي

الاعتراف بواقع الدولة الواحدة له تداعيات مهمة – ومتناقضة – على العالم العربي. لطالما افترضت حجة حل الدولتين أهمية القضية الفلسطينية للجمهور العربي، إن لم يكن لحكوماتهم. إن مبادرة السلام السعودية لعام 2002 التي عرضت تطبيع العلاقات بين إسرائيل وجميع الدول العربية مقابل انسحاب إسرائيلي كامل من الأراضي المحتلة قامت بوضع خط أساس: السلام مع العالم العربي يتطلب حلًّا للقضية الفلسطينية.



استهدفت الاتفاقيات الإبراهيمية، التي توسطت فيها إدارة ترامب ودعمتها إدارة بايدن بحماس، هذا الافتراض صراحةً من خلال تسريع التطبيع السياسي والتعاون الأمني ​​بين إسرائيل والعديد من الدول العربية دون الحاجة إلى إحراز تقدم في القضية الفلسطينية. قطع هذا الفصل بين التطبيع العربي والقضية الفلسطينية شوطًا طويلًا نحو ترسيخ واقع الدولة الواحدة.



حتى الآن، أثبتت الاتفاقيات الإبراهيمية أنها متينة، حيث نجت من حكومة نتنياهو ووزرائه المتطرفين و من المرجح أن يستمر تطبيع العلاقات بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة على الأقل بعد الجولة التالية من العنف الإسرائيلي الفلسطيني، بل وحتى التحركات الإسرائيلية العلنيّة تجاه الضم، لكن منذ توقيع الاتفاقات لم تسع دول عربية أخرى إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وواصلت المملكة العربية السعودية التحوط من رهاناتها من خلال تأجيل إقامة علاقات رسمية مع إسرائيل.



من الممكن أن يظل التطبيع العربي مرتبطًا بالقضية الفلسطينية إلى أجل غير مسمى خارج دول الخليج، ومن السهل تخيل سيناريو تتحرك فيه إسرائيل لمصادرة المزيد من الممتلكات في القدس، وإثارة احتجاجات فلسطينية واسعة النطاق، ثم ترد على هذه الاضطرابات بمزيد من العنف ونزع الملكية بشكل أسرع مما يؤدي في النهاية إلى الانهيار النهائي للسلطة الفلسطينية. يمكن لمثل هذا التصعيد أن يثير بسهولة احتجاجات واسعة النطاق في جميع أنحاء العالم العربي، حيث أدت المصاعب الاقتصادية المستمرة منذ فترة طويلة والقمع السياسي إلى خلق حالة من الذعر والخوف و هناك أيضًا تهديد أخطر يتمثل في قيام إسرائيل بطرد الفلسطينيين من الضفة الغربية أو حتى القدس – وهو احتمال، يُطلق عليه أحيانًا تعبيرًا ملطفًا وهو “الترحيل”، وتشير استطلاعات الرأي إلى أن العديد من اليهود الإسرائيليين سيؤيدون ذلك وهذا لا يعني شيئًا عن الكيفية التي قد تستغل بها حماس أو إيران مثل هذه الظروف، قد لا يهتم الحكام العرب بالفلسطينيين، لكن شعوبهم تهتم وهؤلاء الحكام لا يهتمون أكثر من الاحتفاظ بعروشهم. إن التخلي الكامل عن الفلسطينيين بعد أكثر من نصف قرن من الدعم الخطابي على الأقل سيكون محاطًا بالمخاطر؛ لربما لا يخشى القادة العرب خسارة الانتخابات لكنهم يتذكرون الانتفاضات العربية في عام 2011 جيّدًا وهم قلقون بشأن أي شيء يدعو إلى تعبئة شعبية جماهيرية يمكن أن تتحول بسرعة إلى احتجاجات ضد أنظمتهم.

الخروج أم الصوت أم الولاء؟



قد يؤدي الاعتراف بواقع الدولة الواحدة إلى استقطاب حديثِ الأمريكيين حول إسرائيل وفلسطين، قد يتبنى الإنجيليون وكثيرون آخرون من اليمين السياسي هذا الواقع على أنه تحقيق لما يعتبرونه تطلعات إسرائيلية مشروعة، وقد يدرك العديد من الأمريكيين الذين تركوا يسار الوسط أخيرًا أن إسرائيل قد سقطت من صفوف الديمقراطيات الليبرالية وقد يتخلون عن الوعد الخيالي بدولتين من أجل هدف دولة واحدة تمنح حقوقًا متساوية لجميع سكانها.



تتحمل الولايات المتحدة مسؤولية كبيرة في ترسيخ واقع الدولة الواحدة، وتستمر في لعب دور قوي في تشكيل القضية الإسرائيلية الفلسطينية، لم يكن بناء المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية ليصمد ويتسارع، ولم يكن الاحتلال ليصمد لولا الجهود الأمريكية لحماية إسرائيل من التداعيات في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى، و لولا التكنولوجيا والأسلحة الأمريكية ربما لم تكن إسرائيل قادرة على الحفاظ على تفوقها العسكري في المنطقة، الأمر الذي مكنها أيضًا من ترسيخ موقعها في الأراضي المحتلة.



وبدون جهود وموارد دبلوماسية أمريكية كبيرة لم يكن بإمكان إسرائيل إبرام اتفاقيات سلام مع الدول العربية، من كامب ديفيد إلى الاتفاقيات الإبراهيمية.

رغم ذلك، فإن المناقشات الأمريكية حول إسرائيل والفلسطينيين قد أهملت عن عمد الطرق التي تحرض بها واشنطن الاحتلال وتمت صياغة دعم الولايات المتحدة لعملية السلام من حيث أمن إسرائيل ومن حيث الفكرة القائلة بأن حل الدولتين فقط هو الذي يمكن أن يحافظ على إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية، لطالما كان هذان الهدفان في حالة توتر لكن واقع الدولة الواحدة يجعلها غير قابلة للتوفيق.

على الرغم من أن القضية الإسرائيلية الفلسطينية لم تكن أبدًا على رأس قائمة أولويات الرأي العام الأمريكي، فقد تغيرت المواقف الأمريكية بشكل ملحوظ: فقد انخفض الدعم لحل الدولتين، وارتفع الدعم لدولة واحدة تضمن المساواة في المواطنة على مدار العام، والسنوات القليلة الماضية تظهر استطلاعات الرأي أن معظم الناخبين الأمريكيين سوف يدعمون إسرائيل الديمقراطية على إسرائيل اليهودية، إذا أُجبروا على الاختيار. أصبحت وجهات النظر حول إسرائيل أيضًا أكثر حزبية، مع تزايد دعم الجمهوريين وخاصة الإنجيليين، للسياسات الإسرائيلية والأغلبية الساحقة من الديمقراطيين يفضلون سياسة أمريكية منصفة، يعبر الديموقراطيون الشباب الآن عن دعم للفلسطينيين أكثر من دعم إسرائيل وهذا كان أحد أسباب هذا التحول، خاصة بين الديمقراطيين الشباب، والقضية الإسرائيلية الفلسطينية يُنظر إليها بشكل متزايد على أنها قضية عدالة اجتماعية وليست مصلحة استراتيجية أو نبوءة توراتية. كان هذا صحيحًا بشكل خاص في عصر “حياة السود مهمة Black Lives Matter”.



لقد أدى واقع الدولة الواحدة إلى زعزعة سياسات اليهود الأمريكيين بشكل خاص منذ السنوات الأولى للصهيونية،حيث اعتبر معظم اليهود الأمريكيين المؤيدين لإسرائيل أن التطلع لإسرائيل أن تكون يهودية وليبرالية في نفس الوقت أمرًا مقدسًا، قد تكون حكومة نتنياهو الأخيرة هي نقطة الانهيار بالنسبة لهذه المجموعة و من الصعب التوفيق بين الالتزام بالليبرالية مع دعم دولة واحدة تقدم مزايا الديمقراطية لليهود (ويبدو الآن أنها تخطو على بعض هؤلاء) لكنها تحجبهم عن غالبية سكانها من غير اليهود.



يرى معظم اليهود الأمريكيين المبادئ الليبرالية الأساسية مثل حرية الرأي والتعبير وسيادة القانون والديمقراطية ليس فقط كقيم يهودية ولكن أيضًا كحصن ضد التمييز يضمن قبولهم أو بقاءهم في الولايات المتحدة. مع ذلك، لطالما كان التزام إسرائيل بالليبرالية متزعزعًا كدولة يهودية فإنها تعزز شكلًا من أشكال القوميّة العرقية بدلًا من القومية المدنيّة، ويلعب مواطنوها اليهود الأرثوذكس دورًا كبيرًا في تحديد كيفية تشكيل اليهودية للحياة الإسرائيلية.



في عام 1970، كتب الخبير الاقتصادي السياسي ألبرت هيرشمان أن أعضاء المنظمات التي تمر بأزمة أو انحدار لديهم ثلاثة خيارات: “الخروج والصوت والولاء”، و الأمريكيون اليهود لديهم نفس الخيارات اليوم حيث يُظهر أحد المعسكرات الذي يهيمن على المؤسسات اليهودية الكبرى في الولايات المتحدة ولاءً ممكّنًا من إنكار واقع الدولة الواحدة، والصوت هو الاختيار السائد على نحو متزايد للأمريكيين اليهود الذين كانوا في السابق في معسكر السلام، وبمجرد التركيز على تحقيق حل الدولتين يوجه هؤلاء الأمريكيون الآن نشاطهم نحو الدفاع عن الحقوق الفلسطينية وحماية المساحة المتقلصة للمجتمع المدني الإسرائيلي، ومقاومة المخاطر التي تشكلها حكومة نتنياهو اليمينية. أخيرًا، هناك الأمريكيون اليهود الذين اختاروا الخروج أو اللامبالاة، وهؤلاء ببساطة لا يفكرون كثيرًا في إسرائيل قد يكون ذلك بسبب عدم امتلاكهم هوية يهودية قوية أو لأنهم يرون أن إسرائيل منحرفة أو حتى معارضة لقيمهم، وهناك بعض الأدلة على أنه كلما تراجعت إسرائيل إلى اليمين، زادت هذه المجموعة، خاصة بين الشباب الأمريكيين اليهود.

التحقق من الواقع

حتى الآن، سعت إدارة بايدن إلى الحفاظ على الوضع الراهن مع حث إسرائيل على تجنب الاستفزازات الكبيرة، ردًّا على استمرار بناء المستوطنات في الضفة الغربية والانتهاكات الإسرائيلية الأخرى للقانون الدولي،حيث أصدرت الولايات المتحدة بيانات فارغة تدعو إسرائيل إلى تجنب الأعمال التي تقوض حل الدولتين، لكن هذا النهج يخطئ في تشخيص المشكلة ويزيدها سوءًا: حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة هي أحد أعراض واقع الدولة الواحدة وليست سببًا، وتدليلها في محاولة لإقناعها نحو الاعتدال لن يؤدي إلا إلى تشجيع قادتها المتطرفين من خلال إظهار أنهم لا يدفعون ثمن أفعالهم.

وبدلًا من ذلك، يمكن للولايات المتحدة أن تواجه واقعًا متطرفًا برد فعل جذري، حيث يجب على واشنطن أن تحذف مصطلحي “حل الدولتين” و “عملية السلام” من مفرداتها؛ لأن دعوات الولايات المتحدة للإسرائيليين والفلسطينيين للعودة إلى طاولة المفاوضات تعتمد على التفكير السحري و إن تغيير الطريقة التي تتحدث بها الولايات المتحدة حول القضية الإسرائيلية الفلسطينية لن يغير شيئًا على الأرض، لكنه سيجرد واجهة سمحت لصانعي السياسة الأمريكيين بتجنب مواجهة الواقع.



يجب على واشنطن أن تنظر إلى إسرائيل كما هي وليس كما هي مفترضة، وأن تتصرف وفقًا لذلك. لم تعد إسرائيل حتى تتظاهر بأنها تحافظ على تطلعاتها الليبرالية. ليس لدى الولايات المتحدة “قيم مشتركة” ولا ينبغي أن يكون لها “روابط غير قابلة للكسر” مع دولة تمارس التمييز ضد الملايين من سكانها أو تسيء إليهم على أساس عرقهم ودينهم، ومن شأن سياسة أمريكية أفضل أن تدعو إلى المساواة والمواطنة وحقوق الإنسان لجميع اليهود والفلسطينيين الذين يعيشون داخل الدولة الواحدة التي تهيمن عليها إسرائيل. من الناحية النظرية لن تمنع مثل هذه السياسة إحياء حل الدولتين في الحدث غير المحتمل أن يتحرك الطرفان في هذا الاتجاه في المستقبل البعيد. لكن البدء من واقع الدولة الواحدة المستهجن أخلاقيًّا والمكلف من الناحية الاستراتيجية يتطلب تركيزًا فوريًا على حقوق الإنسان والحقوق المدنية المتساوية. إن الرفض الجاد للواقع اليوم من قبل الولايات المتحدة وبقية المجتمع الدولي قد يدفع الأطراف نفسها إلى التفكير بجدية في مستقبل بديل. يجب على الولايات المتحدة أن تطالب بالمساواة الآن، حتى لو كان الترتيب السياسي النهائي متروكًا للفلسطينيين والإسرائيليين لتحديده.



ولهذه الغاية، يجب على واشنطن أن تبدأ في اشتراط المساعدة العسكرية والاقتصادية لإسرائيل بإجراءات واضحة ومحددة لإنهاء الحكم العسكري الإسرائيلي على الفلسطينيين. إن تجنب مثل هذه الشروط جعل واشنطن متواطئة بشدة في واقع الدولة الواحدة و إذا استمرت إسرائيل في مسارها الحالي، فيجب على الولايات المتحدة أن تفكر في تقليص المساعدات والامتيازات الأخرى بشكل حاد، وربما حتى فرض عقوبات ذكية وموجهة على إسرائيل والقادة الإسرائيليين ردًا على التجاوزات الواضحة، و يمكن لإسرائيل أن تقرر بنفسها ما تريد القيام به، لكن يمكن للولايات المتحدة والديمقراطيات الأخرى التأكد من أنها تعرف تكاليف الحفاظ على نظام تمييزي غير ليبرالي للغاية، بل وتكثيفه.

إن أوضح رؤية عالمية عبرت عنها إدارة بايدن كانت دفاعها الكامل عن القوانين والأعراف الدولية ردًّا على الغزو الروسي لأوكرانيا حتى لو تجاهل المرء واقع الدولة الواحدة، فإن نفس المعايير والقيم ستكون بالتأكيد على المحك في إسرائيل وفلسطين، كما هو مفهوم على نطاق واسع عبر جنوب الكرة الأرضية. عندما تنتهك إسرائيل القوانين الدولية والأعراف الليبرالية، يجب على الولايات المتحدة إدانة إسرائيل لهذه الانتهاكات كما تفعل مع أي دولة أخرى، تحتاج واشنطن إلى التوقف عن حماية إسرائيل في المنظمات الدولية عندما تواجه مزاعم صحيحة بارتكاب انتهاكات للقانون الدولي.

ويتعين عليها الامتناع عن استخدام حق النقض ضد قرارات مجلس الأمن الدولي التي تهدف إلى محاسبة إسرائيل، والتوقف عن مقاومة الجهود الفلسطينية للسعي إلى الإنصاف في المحاكم الدولية، وحشد الدول الأخرى للمطالبة بإنهاء الحصار المفروض على غزة، وهو إجراء مؤقت آخر يفترض أنه أصبح حقيقة قاسية ومؤسسية.

لكن واقع الدولة الواحدة يتطلب المزيد وذلك بالنظر إلى إسرائيل من هذا المنظور، فإنها تشبه دولة الفصل العنصري. بدلاً من إعفاء إسرائيل من المعيار القوي ضد الفصل العنصري، المرسخة في القانون الدولي، يجب على واشنطن أن تواجه الواقع الذي ساعدت على خلقه وتبدأ في النظر إليه والحديث عنه والتفاعل معه بصدق.

ويجب على الولايات المتحدة أن تدافع عن المنظمات غير الحكومية الدولية، الإسرائيلية، الفلسطينية، ومنظمات حقوق الإنسان، والنشطاء من الأفراد الذين تم تشويه سمعتهم لأنهم ينادون بشجاعة ضد الظلم. يجب على واشنطن حماية منظمات المجتمع المدني الإسرائيلية التي تعتبر الملاذ الأخير للقيم الليبرالية في البلاد، والمنظمات الفلسطينية التي ستكون جهودها حاسمة لتجنب الصراع الدموي في الأشهر المقبلة. و يجب على الولايات المتحدة أيضًا معارضة الاعتقالات الإسرائيلية للقادة الفلسطينيين الذين يقدمون رؤية غير عنيفة للمقاومة الشعبية، ولا ينبغي لها أن تسعى لوقف أو معاقبة أولئك الذين يختارون المقاطعة السلمية لإسرائيل بسبب سياساتها التعسفية.

على الرغم من أن واشنطن لا تستطيع منع تطبيع العلاقات بين إسرائيل وجيرانها العرب، يجب ألا تقود الولايات المتحدة مثل هذه الجهود، ولا ينبغي أن ينخدع أحد بسراب الاتفاقيات الإبراهيمية المزدهرة بينما تتفاقم القضية الفلسطينية. إن فصل اتفاقيات التطبيع هذه عن معاملة إسرائيل للفلسطينيين لم يؤد إلا إلى تقوية اليمين الإسرائيلي المتطرف وعزز التفوق اليهودي داخل الدولة.



هذه التغييرات في سياسة الولايات المتحدة لن تؤتي ثمارها على الفور، سيكون رد الفعل السياسي شرسًا، على الرغم من أن الأمريكيين -وخاصة الديمقراطيين – قد ازدادوا في انتقاداتهم لإسرائيل أكثر من السياسيين الذين ينتخبونهم، لكن على المدى الطويل توفر هذه التغييرات أفضل أمل للتحرك نحو نتيجة أكثر سلامًا وعدالة في إسرائيل وفلسطين. من خلال مواجهة واقع الدولة الواحدة أخيرًا واتخاذ موقف مبدئي، ستتوقف الولايات المتحدة عن كونها جزءًا من المشكلة وتبدأ في أن تكون جزءًا من الحل.