هل زرت يوما طبيبا نفسيا؟

الرابط المختصر

في عصر تكثر فيه الضغوط النفسية جراء أعباء العمل والأزمات المالية والالتزامات العائلية وسرعة إيقاع الحياة وتعقيداتها والصخب والضوضاء ودفق المعلومات وكثرة الأحداث،تبدو الإجابة بـ"لا" على سؤال "هل زرت يوما طبيبا نفسيا" غريبة.

إلا أن "لا" كان جواب 20 من أصل 22 مارا في الشارع، لكنهم في ذات الحين "لا يمانعون زيارته فيما لو عانوا مرضا أو أزمة نفسية".
 
حنان تؤكد على أهمية زيارة الطبيب النفسي عند الحاجة، "فاستمرار المشكلة يؤدي إلى تراكمها ويسبب مشاكل كثيرة. في حياتنا نواجه العديد من المشاكل والضغوطات القوية. ولا عيب في زيارة الطبيب".
وتستدرك: "لكن البعض يجد الذهاب إلى الطبيب النفسي أمرا معيبا".  
 
محمد لجأ إلى الطبيب النفسي مرة واحدة، سرا، عندما تعرض إلى مشكلة سببت له اكتئابا. لضغوطات التي نعاني منها في حياتنا اليومية تدفع الشخص للإصابة بالاكتئاب واليأس. استفدت كثيرا من زيارة الطبيب، الحديث معه أشعرني بالراحة".
 
ويضيف: "غالبية الأردنيين يعانون من اكتئاب ومشاكل نفسية وبرأيي هم بحاجة لزيارة الطبيب النفسي".
 
قليلون هم زوار الأطباء النفسيين، وأقل منهم من يعترفون بالاستعانة به. هل هي قلة الوعي بالصحة النفسية، أم المفاهيم الاجتماعية والثقافية المغلوطة عن "الجنون" وعلاجه بالشعوذة؟ أم هي الكلفة العالية لجلسة الطبيب النفسي، أم ارتفاع ثمن أدوية الأمراض النفسية وتركيز بعض الأطباء على العلاجات الدوائية؟
 
يعلل الأخصائي النفسي محمد الحباشنة الظاهرة بالمفهوم المتراكم لدى الناس التي تربط الطب النفسي بالشعوذة. "الناس لديها انطباعات خاطئة عن الطب النفسي، حيث يستخدمون تعبيرا غريبا هو "الجنون" الذي يعتبر شتيمة أكثر منه تشخيص ولا يوجد في معجم الطب النفسي ما يسمى بالجنون. فالأمراض النفسية تتدرج من حالات بسيطة جدا كالقلق إلى حالات صعبة كالفصام العقلي".
 
"وكلنا تمر علينا أزمات إذا لم نتلقى علاجا تخصصيا يتعلق بالأزمة ممكن أن تتطور وتنتقل من حالة حادة إلى حالة مزمنة".
 
ويشير الحباشنة إلى عامل آخر في احجام الناس عن العلاج النفسي وهو الاعتقاد الخاطئ بأن العقاقير تؤدي إلى الإدمان، وهذا غير صحيح. وقال: "الأدوية التي تستخدم في العلاج هي عقاقير نوعية تعمل على علاج المشكلة وليس التخفيف منها ولا تؤدي الى الإدمان وإمكانية الانقطاع عن تناول الأدوية سهلة وضمن الإشراف الطبي".   
 
دراما.. وصورة مشوهة!
وحمل الحباشنة الدراما التلفزيونية مسؤولية الصورة المشوهة لدى الناس عن الطبيب النفسي، "فعمدت على اظهاره بصورة مخزية. هذا الأمر اثر كثيرا وصور الطبيب على أنه شخص مجنون وبالتالي فقد الناس الدافعية في موضوع العلاج النفسي حتى لو كان بحاجة له".
 
وتابع: "الناس ترى ان المرض النفسي ضعف في الإرادة والدين والشخصية وهذه الفكرة تمنع العديد من القدوم إلى الطبيب النفسي للعلاج خشية من الاتهام بضعف دينهم أو شخصيتهم. وهذا الأمر خاطئ لأن ما مر به المريض كان يجب أن يمر به لأن بعض الناس أجسامهم مستعدة لتطوير حالة من الاكتئاب. فلا يراجعون الطبيب لأنهم يخافون من أن يتهموا بدينهم وأخلاقهم، وهذا يزيد الطين بله بحيث ان الشخص المصاب باكتئاب ستتفاقم المشكلة لديه إذا لم يتعالج".
 
وعن ظاهرة دورات البرمجة اللغوية والعصبية، يقول الأخصائي النفسي أنها فكرة غير ناضجة ولا تراعي علم النفس الشمولي. "من يشرف على هذه الدورات هم غير مؤهلين في النواحي النفسية ويتحدثون عن كلاشيهات وتوقعات غير منطقية ويضعون توقعات عالية، فيتوقع الشخص المشترك في الدورة ان حالته ستتحسن بنهاية الدورة".
 
"هذه الدورات غير مجدية في كثير من الأحوال وتشوه الصورة النفسية وتسبب لكثير من الشخوص ارهاقات وانتكاسات باشتراكهم في دورات لا تراعي علم الطب النفسي الشمولي. ويدخلون في هذه الدورات العامل الديني لأن العقل الجمعي يستمتع بوجود العامل الديني".
 
علاج عالي الكلفة!
وبرر الحباشنة الكلفة العالية نسبيا لعلاج الطب النفسي مقارنة بعلاج أمراض أخرى بساعات العلاج الطويلة التي يقضيها الطبيب المعالج مع المريض، بل ويرى أن الطبيب النفسي مظلوم في هذا الجانب. وقال: "أنا كطبيب نفسي اجلس مع المريض الواحد ما يقارب 45 دقيقة، لكن بالمقارنة مع الأطباء الآخرين فإنهم في الساعة الواحد يستقبلون أكثر من 5 مرضى".
 
وأضاف: "التكلفة العلاجية لمدة سنة مع الطبيب النفسي والأدوية تصل كلفتها إلى 300 دينار في المقابل يمكن ان يذهب المريض الى شيخ وتكون تكلفة العلاج ما بين 1000 و2000 دينار دون فائدة".
 
الطب النفسي ... والتأمين!
وانتقد الحباشنة التأمين الصحي الذي يستثني العلاج النفسي وكأنه "من الكماليات"، وفي حال وجوده فهو "مجحف بحق الطبيب المعالج لاختصار جهد الطبيب. حتى التأمين الصحي الحكومي لا يشمل الطب النفسي. والطبيب النفسي إذا كان مريضا لم يكن مؤمنا عند أطباء التخصصات الأخرى. وحاليا تم تعديل هذا القانون وتم شمولهم مؤخرا. لكن هذا يدلل على مفهوم الطب النفسي عند الأطباء الآخرين".
 
جهود حكومية
وفي وزارة الصحة قسم تثقيفي حول الصحة النفسية حيث تعقد دورات توعوية بمشاركة منظمة الصحة العالمية، تستهدف الأطباء العامين في مجال الرعاية الصحية، إضافة إلى محاضرات في النوادي والمدارس.
 
وعن دور وسائل الإعلام في نشر الوعي في الصحة النفسية، يلقي نبهان ابو صليح، مدير اختصاص الطب النفسي في وزارة الصحة، باللوم على الطرفين: وسائل الإعلام والوزارة.
 
ويشير إلى مشكلة النقص الحاد في عدد الأشخاص المختصين في مجال العلاجات النفسية. "في وزارة الصحة عدد الأطباء النفسيين لا يتجاوز 15 طبيبا، هناك نوع من العزوف لدى الأطباء عن دراسة الطب. للأسف المداخيل المادية لا تساوي العناء عند معالجة المصابين بأمراض نفسية".
 
ويؤكد أبو صليح أن الأمراض النفسية مشمولة في التأمين الصحي الحكومي. "كل مواطن أردني يحصل على علاج نفسي كامل وشبه مجاني، يدفع المريض نسبة لا تساوي 1% من الكلفة الحقيقة، وأي علاج داخل المستشفى فيكون كاملا 100%، أما العلاج في العيادات الخارجية فيدفع 25 قرشا فقط، هو ثمن الدواء مهما كان سعره".
 
ويتابع: "عيادات وزارة الصحة موجودة في كافة إنحاء المملكة. وأيضا يوجد 30 مركزا صحيا شاملا خارج العاصمة، في كل منها عيادة نفسية، وفي كل عيادة طبيب واحد مختص، بالإضافة 25 طبيب تحت التدريب موزعين على كافة العيادات".
 
ويلفت أبو صليح إلى أن نظرة العلاج في القطاع الخاص مختلفة عنها في القطاع العام، حيث أن "في القطاع العام المهم ان يؤدي العلاج مفعوله وبسعر اقل، خصوصا ان هذا العلاج يعتبر كلفة على الخزينة ولكن القطاع الخاص لا يكترث الطبيب بكلفة العلاج".
 
دور للمجتمع المدني!
ومن جهتها، تسعى جمعية اختصاصيي الأمراض النفسية التابعة لنقابة الأطباء إلى إلزام كافة المؤسسات غير الحكومية بإدراج الأمراض النفسية ضمن التأمين الصحي. "لكن للأسف ليست كل المؤسسات ملتزمة بهذا القرار. للأسف يستثنى المرض النفسي من تأمين الصحي في معظم المؤسسات غير الحكومية"، يقول أبوصليح.
 
ونوه مدير اختصاص الطب النفسي في وزارة الصحة إلى دور زواج الأقارب في انتشار الأمراض النفسية. "كل الأمراض النفسية لها علاقة بالعامل الوراثي، كثير من الإضرابات الغذائية التي تؤدي إلى تخلف عقلي مرتبطة بزواج الأقارب، هناك أمراض فيها صفات وراثية متنحية تكثر احتمالية انتقالها عند زواج الأقارب".
 
وعن مشكلة المرضى النفسيين في الشارع أوضح أن هناك تعاون بين وزارة الصحة ووزارة التنمية الاجتماعية في معالجة. حيث يتم جمع المتسولين ثم تحويل المرضى النفسيين منهم إلى المستشفى للعلاج.
 
وأكد أن خطورة المريض النفسي لا تزيد عن خطورة غير المريض على المجتمع. "لكن بسبب عدم معرفتنا للتعامل معهم وبسبب اضطراب اتصالهم بالواقع يتهيأ لنا أنهم أكثر خطورة. الناس تعتقد أن المرضى النفسيين هم أكثر خطورة من الناس الآخرين". 
 
ثقافة الشعوذة!!
أخصائي علم الاجتماع حسين خزاعي يوضح أن " البعض يعتبر زيارة الطبيب النفسي ترفا، رغم ان الحاجة للطبيب النفسي مثل أي اختصاص آخر، بل ان الجهاز العصبي والجهاز النفسي حساس جدا. لكن الشخص الذي بحاجة الى الطبيب يتحرج من زيارته خوفا من نظرة المجتمع والقيل والقال عن هذا المريض. هذه النظرة كرستها المورثات الاجتماعية والعادات والتقاليد التي سار عليها المجتمع".
 
ويضيف سببا آخرا يتعلق "بعزوف الأطباء عن هذا التخصص ولعدم وجود انتشار لهم، رغم أننا نعيش في ظل ضغوط نفسية وأزمات بكافة أنواعها، اقتصادية واجتماعية، فنحن بأشد الحاجة لوجود الطبيب النفسي".
 
"في الدول الغربية على سبيل المثال يعطى كل طالب مدرسة أو جامعة قبل دخوله كرت لزيارة الطبيب النفسي".
 
ويعلل لجوء البعض إلى الشعوذة لعلاج الأمراض النفسية، "بأنهم يعتبرون أن وقعها اخف من الطبيب النفسي".
 
ويشير الخزاعي إلى التأخر في توفير عيادات للأطباء النفسيين في بعض المحافظات. "وهذا قد يكون نتيجة عدم التوعية بوجودهم وبدورهم المساند في الأسرة، لأن قضايا التنشئة الاجتماعية وقضايا بعض الأمراض غير معروفة بين الآباء والأمهات، ويستطيع الطبيب ان يشخصها ويعطيهم العلاج المناسب".
 
"لكننا كأسر في المجتمع الأردني لم ندخر مالا من اجل العلاج، ونتحمل الوجع حتى آخر رمق لأننا نعيش تحت ثقافة العيب وعادات وتقاليد لم تتقبل الطبيب النفسي".
 
وإضافة إلى كل العوامل السابقة التي تسهم في عزوف الأردنيين عن زيارة الطبيب النفسي، تجدر الإشارة إلى ضعف نشاط نشر وترجمة الكتب المتعلقة بالطب النفسي، لتحتل كتب "الأبراج" والتعرف على النفس في "الإجابة على عشرة أسئلة" و"مشاكل الأزواج" وغيرها من الكتب التجارية غير العلمية رفوف المكتبات.

أضف تعليقك