هجمات باريس ودموع التماسيح
غدت عبارات الشجب والإدانة والصدمة... جميعها ترنيمة بائسة بين يدي آلهة التوحش التي يقدم عبدتها من عشاق الموت لها الأبرياء قربانا؛ دماً مسفوحاً يجري أنهاراً يحملهم مجيزاً بهم الصراط إلى حيث فضاءٍ خَلَقته نواقص أنفسهم وخيالاتهم الموتورة التي تغذت على تراكمات من الأقاصيص والأهازيج التي نسج خيوطها أفراد ألَّهوا أنفسهم وألههم أتباعهم من بعدهم فحاكوا ما نسجه سادتهم أحكاماً وأوراداً تفوح منها رائحة البغضاء والنقمة على كل محبوب ومرغوب.
ليس في اعتداءات باريس أي جديد أو مفاجئ سوى عدد القرابين المسفوح دمها حيث فاق كل تخيل أو تصور، أما من حيث مبدأ سفك الدماء قربى وزلفى لآلهة يقتلها العطش فهذا لم ولن يتغير لأن البقاء والثبات من صفات الذات لتلك الآلهة التي لن يجف بئر عبّادها ولن يكُفَّ كهّانها المقتاتون على فتات عقول طلاب الموت من أجل حياة "آجلة" ليس فيها من دور للعقل حيث الكلمة لغرائز وشهوات طالما كبتت قهراً امتثالاً لأوامر الآلهة ذاتها التي تجعل المحرم مباح والمباح موبقاً حيثما شاء حفظة أسرارها وحراس قدس أقداسها.
تتعدد الزوايا التي يمكن من خلالها تحليل ما بعد اعتداءات باريس على صعيد السياسة الداخلية المتعلقة بالهجرة وصعود اليمين المتشدد ومراجعة التهميش والإقصاء الذي يقال أن المهاجرين يتعرضون له، أو على صعيد السياسة الخارجية المتعلقة بانخراط فرنسا في محاربة الإرهاب في مالي ومشاركتها في الضربات الجوية في سوريا والعراق وربما ليبيا ضد داعش وغيرها، زوايا عديدة ينهمك المتخصصون في تقييم الوضع منها كل حسب اهتمامه وتخصصه، إلا أن ثمة مؤشرات تعكسها ردود الأفعال على ما حدث من جانب عموم الأفراد في الدول العربية والإسلامية وكذلك في مسارعة بعض الدول التي يكمن عندها بيت الداء لمواساة فرنسا بجرم ارتكبه جيل أنتجته تلك الدول نفسها من خلال مناهجها وسياساتها الأصولية.
الانحدار الأخلاقي الذي تمثله بعض ردود الأفعال المبتهجة فاق في الابتذال كل مقاييس السقوط والانحطاط بحيث لم يعد بالأمكان أن تقول: "أحط" أو "بلغ من الدناءة كذا وكذا"، فردود الأفعال هذه باتت بذاتها معياراً يمكن استخدامه لتعبير عن تحقير شيء أو استنكار عمل ما، كأن تقول مثلا: "إن هذا التصرف أحط من الشماتة والفرحة باعتداءات باريس"، فأي شيء يمكن أن يبرر ابتهاج شخص بقتل شخص مثله وربما أفضل منه في مواقفه وتفكيره؟ إنه شيء واحد: استرضاء الآلهة وتقديسها. هل الفرحة بقتل الأبرياء على هذا النحو مردّه الطمع في أجر الجهاد بناءً على المقولة "أنّ من أحب أن يجاهد ولم يستطع فله أجر المجاهدين"؟ أم مردّه التبرير البائس القائم على التماثل في الإجرام الذي يستر به الشامتون سواءاتهم حين يقولون: "هذ جزاء ما يفعله الغرب بنا" أي أنهم قتلة فلماذا لا نكون قتلة مثلهم بل وأشد وحشيةً منهم. إن كلا التبريران ينمّان عن نفوس مضطربة استعذبت أن تَقتُل وتُقتَل على "هدي" عفوا، بل على ضلالة "ناموس" العين بالعين والسن بالسن الذي لا يمكنه أن ينتج سياقاً أخلاقياً وفكرياً متحضرا.
في الاتجاه نفسه، يبدو أن نمط الشخصية العدوانية السلبية “Passive Aggressive Personality” متفشياً في مجتمعاتنا إلى حديجعل العديد يصدّقون أنهم ضحايا مثل الآخرين في حين أنهم شركاء في الجرم والعدوان وهم لا يشعرون أو لا يريدون أن يشعروا. إن نمط "الشخصية العدوانية السلبية" يدفعبصاحبه دوما إلى دفع اللائمة عن نفسه وإلصاقها بالآخر. فعلى الرغم من أن جميع الأطراف المتناحرة في ما بينها في بلداننا تذكر اسم الله على كل نفس تزهقها، فإننا ما نفتأ نقول أن هذه المجموعات –التي هي الأغلبية- نتاج أمريكا والغرب، وكأن طلاب الموت هؤلاء قد تتلمذوا على يد هيئة كبار العلماء لولاية نيوجيرسي أو في كلية أصول الدين في جامعة جورج تاون! إنّ الذي جعل من أفراد عصابات تجارة الحشيش في أفغانستان أولياء أصحاب كرامات تحترق بأبوالهم الدبابات الروسية وتسقط بحجارتهم الطائرات الحربية ويستيقظ بعض موتاهم للحظات وريح المسك تفوح منهم... ومن دعى لهم على المنابر وقنت من أجلهم في صلاة القيام في رمضان وحرض الشباب على اقتفاء أثرهم واللحاق بهم... هو نفسه الذي ربّى أجيالاً على ثقافة الموت والارتقاء فوق الجثث إلى السماء.
لا تجد دول منابع الإرهاب الفكري والعقائدي غضاضةً في الاستخفاف بعقول ضحاياهافي فرنسا وغيرها ومواساتهم والتباكي على ما ارتكب في حقهم من جرائم اقترفتها قفازات لو أميطت لظهرت تحتها أيدي المتباكين أنفسهم تقطر دما، في المقابل، لا يمكن تبرئة الدول التي استهدفها الإرهاب من جرم النفاق السياسي والكذب على شعوبها، فهذه الدول تعلم علم اليقين أن بعض من يأمون بيوت عزائها هم من تسبب في الكارثة وأسس لها منذ قرون، ومع ذلك فإنهم يقبلون عزاءهم ويشكرونهم على مواساتهم، ولو أنّ الشعوب المجني عليها قرّعت حكوماتها على هذا المسلك الذي هو بمثابة بيع لدماء رعاياها رخيصاً في مزاد المصالح الاقتصادية المُسيّسة، لسقطت عن وجوه تلك الحكومات الأقنعة ولبدا سوء وقبح صنيعها.
المعالجة الأمنية ضرورية لمكافحة الإرهاب ولكنها بمثابة الكمامات المعقّمة التي تقي من الجراثيم موسمياً دون معالجة تكوّنها وتكاثرها وانتشارها وتوطّنها، ولو أن الدول المكتوية بنيران الإرهاب ضغطت على دول وقوده لإصلاح التعليم وإطلاق الحريات واحترام الحقوق عوضاً عن إبرام عقود الأسلحة التي تنتهي في أيدي من يعيثون في الأرض فسادا؛ لأُغلِقت حلقة الإرهاب المفرغة ولخُلِقَ مجال رحب تنمو فيه قيم التنوع وقبول الآخر بدلا من استعجال الآخرة.
البشرية جمعاء تستحق اعتذاراً ممن جعل من سفك الدماء طريقاً إلى السماء ومن سبي النساء نعمة وعطاء ومن الفنون والإبداع وحرية الرأي "فسقاً" يستوجب التوبة والجزاء، وعلى رئيس فرنسا أن ينظر في راحة يده بعد مصافحة بعض من يقدمون له واجب العزاء كي يرى عليها حمرة الدماء التي لن تغسلها دموع التماسيح.