"هتجن يا أخوَنّا يارتني مرحتش واشنطن ولا نيو يورك".

"هتجن يا أخوَنّا يارتني مرحتش واشنطن ولا نيو يورك".
الرابط المختصر

 

بيرم. علمٌ من أعلام الشعر الشعبي وعبقرية لن يجد بمثلها الزمان وإن أراد. في حضرة بيرم التونسي يمكنك استلهام عبقرية الرجل من زوايا مختلفة ليس الشعر والأدب بالضرورة محور ارتكازها.

 

لم تحل مرارة الغربة وقسوة الحياة التي عاشها بيرم في المنفى من عقده لمقارنات موضوعية مجردة بين واقع المجتمع المصري والعربي وما يقابله من واقع يسود المجتمع الفرنسي.

 

لم ينبهر شاعرنا الكبير بالأضواء ولا بواجهات المحال التجارية بل ولا بنظام النقل والمواصلات كما يحدث لكثير من ضحايا الانبهار من السواح والزوار لدول أروبا وأمريكا. أدرك بيرم أن سر التمدن والتطور يكمن في السلوكيات والعادات وليس في المرافق والخدمات، فهذه الأخيرة نتاج لرقي الأولى وسموها. لا يحتاج الأمر كبير عناء لاستحضار أمثلة على دول تتعالى فيها المباني وتتقدم لديها الخدمات التقنية بفضل وبجهد الأجنبي دون حدوث تغير أو تقدم على صعيد المنظومة القيمية التي تحكم شعوب تلك الدول وحكّامها، فهذه الدول استنسخت بعض مظاهر الحضارة ويستعصي عليها استنساخ التحضر. بوسعك أن يكون لديك أعلى جسر أو برج أو سلّم... ولكن يستحيل عليك أن تتخذ من أيّها  رافعة تسمو بسلوكياتك وعاداتك إلى عنان الحداثة واحترام حقوق الإنسان والديمقراطية بوصفها مرتكزات وأدوات إدارة شؤون البلاد والعباد، ولولا أن أماكن التوقيف ومراكز الإصلاح لدينا غير مهيأة للأشخاص ذوي الإعاقة ولولا أنني أفضل قضاء إجازة العيد مع أولادي وزوجتي؛ لسميّت بعض تلك الدول.

يقول العظيم بيرم في إحدى مقارناته الزجلية بين السلوكيات الاجتماعية المصرية العربية ونقيضها الفرنسية:

"هتجن ياريت يا خوانا مارحتش لندن ولا باريز
دي بلاد تمدين و نضافة و ذوق و لطافة و حاجة تغيظ.
ملاقيتش جدع متعافي و حافي و ماشي يقشر خص
ولا شحط مشرمخ أفندي معاه عود خلفة و نازل مص
ولا لب أسمر و سوداني و حمص و انزل يا تقزيز.
ولا عركة في نصف الليل دايرة بالحيل و ساحبها بوليس
قدامها جدع متجرجر وشّه معور قال ده عريس
الخلق ماهي بتتجوزو اشمعنا احنا مافيش تمييز.

 ولا واحدة في وش الفجر تيبرطع ماليه الدنيا صوات
قال ايه جوز خالتي أم أحمد سلفة أخوها السيد مات
سبحانك ما أعظم شانك والله الموت ده مفيد و لذيذ.
ولا صايع طالع يجري وصايع تاني بيجري وراه
ويقول هاهاع حصّلتك يابن الأبصر ايه عاملاه
لا شارع غيط يا خوانا و لا احنا بدارة ولا احنا معيز.
ولا حد بيبييع حاجة يقول بريال و تأخدها بصاغ
يا خوانا حتى الابرة تاخدها بدوشة و قلب دماغ
حلفان و عراك و مناهدة و يمكن ضرب كفوف يا حفيظ".

 

العجيب في أبيات بيرم أنها لاتنطوي على تمجيد لسلوكيات فرنسية معينة بل هي تسرد جانباً من الممارسات السلبية الاجتماعية مع الإشارة لعدم وجودها في المجتمع الفرنسي، وهذا مؤشر آخر على عبقرية بيرم التحليلية الموضوعية وتبصره بالخيط الدقيق بين الاعتراف بالنقص والإقرار بتفوق الآخر حيثما كان ذلك واقعا مع الاعتزاز بالهوية وعدم الوقوع في شَرَك الانبهار وسطحيته.

 

لقد عدت للتو من زيارة عمل ليست الأولى لمدينة نيو يورك وواشنطن، وكأي زيارة لدولة أجنبية، خيّمت أجواء المقارنات والمقاربات على أعضاء الوفد الزائر واختلفت الزوايا التي يقارن أو يقارب كل منّا وفقاً لها مشاهداته ومعايناته للخدمات والمرافق والتدابير المتخذة لتعزيز حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة هناك. أنا شخصياً لم أتفاجأ بوجود جوانب من الضعف والنقص في بعض القطاعات الخدمية ولا بفلسفة ومنظور تعاطي بعض من قابلناهم مع قضايا الأشخاص ذوي الإعاقة حيث يشبه إلى حد كبير المنظور السائد لدينا المرتكز على التشخيص الطبي والتوجه الرعائي الوصائي، ولم أتفاجأ بوجود متشردين في الشوارع ممن يعضهم الفقر ويتخذون من سماء واشنطن المتقلبة غطاءً ومن أرضها الرطبة فراشا... كل هذا متوقع وسمعنا وقرأنا عنه قبل زيارتنا بشهور.

 

أشد ما يلفت النظر ويفاجئ هو وعي المسؤولين والناس بوجه عام بوجود هذه النواقص والاعتراف بها والمجاهرة بأن التأخر في تغييرها يعكس تقصيراً وتلكّؤاً يجب معالجته. لم يروِ لنا أحد بانبهار إنجازاته وعطائه وعظمته، كانوا يتحدثون عمّا لديهم بهدوء وبوصفه خطوةً على طريق طويل لا يريدون أن تشغلهم فرحة قطع مسافة معينة منه عن مسيرة استكماله حتى نهايته إن كان له نهاية.

 

على هدي من منهج بيرم أقول: لم أرَ مسؤولاً أو مسؤولةً تسبح بحمد نفسها أو مديرها أو وزيرها، لم يتحفنا أحد بقصيدة طويلة مملة من الإنجازات وتعظيمها، لم يفقد أحد أعصابه ونحن نواجهه بأسئلة عن إخفاقات وتحديات عالقة، لم يتهمنا أحد بأننا أصحاب أجندات أجنبية أو حاقدون أو حاسدون، لم يتحسس أحد من امتداحنا لزميل أو زميلة له في العمل كنّا قد قابلناه/ا وتعاملنا معه/ا من قبل، لم يستغل أحدهم وقت اللقاء معه/أ في إبراز دوره/أ بل كان الحديث عن الغير والآخر والفريق هو سيد الموقف، لم يمصّ أحد شفته السفلى بحسرة ويحوقل لرؤيته/ا عصا بيضاء أو كرسي متحرك، لم يضجر أحد منهم بأداء واجبه بمساعدتنا وتسهيل تحركاتنا حتى في أصعب الظروف وأعقدها، لم يندب أحدهم حظه أو حظنا بسبب الإعاقة، لم يضطر أي منهم أو منا –إلا قليل- للاعتذار أو التفسير لأنهم لم يقومو بشيء يضطرهم إلى ذلك ولأنهم يحكّمون المنطق أكثر بكثير من العواطف، لم أسمع "أفففف" ولا "أخخخخ" ولا "خلص مش قادر/قادرة" ولا "هذا كثير ومش شغلي القيام به"... أقول هذا وقد تعرضنا لمواقف صعبة جداً تمثلت في مكوثنا في مطار واشنطن لمدة 7 ساعات انتظاراً لهدوء العواصف الرعدية ثم ذهبنا لنيو يورك لنجد أن الطائرة التي ستقلنا إلى عمان قد أقلعت ومن ثمتحتم علينا البقاء 3 أيام في نيو يورك دون حقائب، كانت المسؤولة في واشنطن عن تنسيق زيارتنا تعتذر عن ما يحدث وليس لها فيه ذنب، حتى حين تحدثت معها عن خطوات احترازية كان يمكن اتخاذها لتجنيبنا جزءً مما حدث أو كله، لم تتنطع وتتمترس خلف كبرياء الجاهلين بل كان ردها ببساطة: "نعم صحيح، وهذا رأي ولكنه للأسف ليس قراري، ومن قلبي أعتذر"! مهنية وحرفية تطفئ نار أي غضب أو انفعال.

 

جاء موعد عودتنا على الطائر الميمون ورحلة الملكية الأردنية، وما أن داست قدمي داخل الطائرة حتى عادت ريمة لعادتها المتجددة القديمة: "آههه! أعمى؟ همم. مرحبا، قدامك صينية وهات إيدك: هاي سلطة، وهادا حمص، وهاي جبنة، وهاي تبولة، وهاي مي"، مع كل "هاي" كانت أصابعي الخمسة تغوص عنوةً في الطبق حتى أنها باتت كخلاط يحتوي على خليط غير متجانس من الأطعمة، ثم كانت "آخر المتمة" بتغطيص يدي في كوب الماء! لم تعبء صديقتنا حفيدة "ماركو بولو" بتوسلاتي الدبلوماسية بأنني لست بحاجة لهذا النوع من الإرشاد وأنه يمكني استكشاف ذلك بنفسي، فالسرعة من جهة في غط اليد بالأطباق وعنصر المفاجأة وسيطرة التعب... جميعها جعلتني أستسلم قليلاً لهذه الرحلة الاستكشافية بين أرجاء صينية الطعام.

 

أقبل شاب رخيم الصوت يسألني عمّا إن كنت أريد شيئاً، طلبت منه مساعدتي في التعرف على نظام تشغيل الأفلام والموسيقى، أبى أن يعلمني الصيد وآثر تلقيمي السمك الذي يريده هو، فأمسك بجهاز التحكم وأخذ يضغط على الأزرار وهو يقول: "بدك قرآن طبعا!"، وكم هي قاتلة كلمة "طبعا"، صوّر له نمطه حول المكفوفين أنهم مسلمون ولو كان آباؤهم غير مسلمين، وأنهم مسلمون متدينون يجب أن يستمعوا إلى القرآن الكريم فقط، ولما سألته بهدوء: "لماذا طبعا؟"، لم يكترث وقال: "بدك موسيقى، هممم، بدك شيء قديم طبعا، عبد الوهاب... أم كلثوم..."، ولولا أنني قاطعته لعاد بي إلى حقبة عبده الحمولي وسلامة حجازي وكامل الخلعي!ومرةً أخرى يوحي له التفكير النمطي أن الكفيف نقيض للحداثة وأنه من المستحيل عليه متابعة فيلم أو برنامج مرئي لوجود عنصر المشاهدة البصرية دون التفات لعنصر الحوار والموسيقى التصويرية والتتبع بالتصور القائم على تسلسل الأحداث والاستنتاج وفقاً للبناء الدرامي العام. كان لي ما أريد وشاهدت فيلم عربي ممل وآخر أجنبي مثير، لتهبط الطائرة بعد رحلة طويلة وأصبح وجهاً لوجه مع موظفي الملكية على الأرض. بدأ أحدهم من قسم العلاقات العامة أو ما يشابهه بدفع زميلتي على كرسيها المتحرك وكنت أمسك بطرف الكرسي، توقف وقال لزميل له يبعد عنه خطوات: "ما باخذهمش الاثنين، باخذ واحد بس" ثم مضى وتركني واقفا، هرولت خلفه وأمسكت به وحاولت وقد اعتراني شيء من الغضب أن أشرح له كيف يكون التحدث بلباقة وذوق مع الآخرين وأن هذا من صميم عمله وليس من شأني تنظيم المهام بينه وبين زميله. عبثاً أحاول فأنى لكلمات عابرة أن تزحزح أنماط فكرية وثقافية غائرة.

 

مضينا نتوغل إلى داخل المطار لنخرج منه وقد دخلنا مرةً أخرى وليست أخيرة في جوف وحش التنميط والحكم المسبق ورفض الآخر.

"هتجن يا أخوَنّا ريتني مرحتش واشنطن ولا نيو يورك"، ليس لانبهار بما لدى معظمهم  من سلوكيات ليست لدينا فحسب، ولكن لكي لا أمر بلحظات الاستقبال البائسة التي أجابهها في كل مرة في مطارنا الدولي ولكي لا يستيقظ شيطان المقارنة فيفسد علي معيشتي لأسابيع.

أضف تعليقك