نصفُ أيار.. عبث الشقيق وجحيم المتوسط 

الرابط المختصر

في النصف من أيار، تماما حين تدق الساعة موحية بمنتصف النهار، يبدأ العشاق بالبحث عن مكان يلتقون فيه، عن كومة حجارة يكتبون عليها الأحرف الأولى من أساميهم، وسهم جامح يخترق نصف القلب يتركونه خلفهم كتذكار رخيص ويمضي كل منهم لأمانيه.

في المنتصف من أيار، يدخل القاتلون العابرون ضفاف المتوسط إلى سُرَّة الكون، يلقون نفاياتهم، ويبنون كيانهم على جثث البناة الأوائل والأواخر، هنا يصبح الدم على ضفاف المتوسط مجرد علبة حبر يحملها الشريد الطريد بن غوريون ليعلن ميلاد كيانه على أرض دولة أخرى، ويبشر بميلاد شعب جمعته فكرة وليدة على حساب شعب آخر بنى فكرته منذ 6 الاف سنة.



وفي المنتصف من أيار، نذهب كلنا للمسارات البريئة، نقول لكل من ساهم ببناء عرش صهيون.. أنت لست مني، أنت منهم، قاتل متبجح، إرهابي إلى حد الفجور، ومتوحش يلبس بنطالا ويقتلني بدم بارد..



وفي النصف من أيار نسترجع ما فات خلف الآباء والأجداد، الروايات التي تقول لنا كم كنا هناك، وكيف صرنا هنا، بعيدا عن سياج الصبر، ورائحة الطابون والزيتون الروماني العتيق، والدجاجات تعبث بما تبقى من طعام الأمس في حوش الدار، وشجيرات الميرمية، وبعض رشفات زيت الزيتون، والليمونة التي تتناسل في الحب الرضيع، وقسوة الحصاد، وأضاميم القمح حين نحملها على عجل الى البيدر القريب..



وفي النصف من شهر أيار، نزحف للأماني، كما الجياد العاديات ضبحا، نهرب من تفاصيل يومنا إلى دهرنا الذي تَقَضَّى عاريا ومكلوما وبريئا وطيبا، دهر مضى كان الإنسان الفلسطيني فيه مجرد كائن مغرق في الطيبة إلى حد الهبل، فباعه اخوته لأول قافلة عابرة لحيفا من الضفاف البعيدة للمتوسط اللئيم.



وفي المنتصف من أيار  يهجم علينا كل أنبياء بني إسرائيل يزحفون على جثثنا من عهدهم القديم، تبتعثهم شهوتهم للدم والقتل، هل يؤمن الفلسطيني بأنبياء إسرائيل وبهذه القبيلة التي توضأت بالدم الفلسطيني منذ ما قبل توراتهم، حين كتبها العابرون ذات ضحى على ضفاف دجلة.



وفي المنتصف من أيار، أقول للريح المرسلة خذيني إلى شواطيء الأسئلة، بالقرب من سواحل الماء والنعناع، قولي لي شيئا عن تراتيل القران في سورة "الفجر"، وفي تنهدات "الغاشية "، واحتمال الهروب من "التكاثر " إلى "بعثرة القبور..".

وفي المنتصف من أيار، أقول لسيدي يسوع : كيف واجهتهم وحيدا؟، كيف قتلوك منفردا أيها المسائي الروحي البهي الجميل، أيها الفلسطيني الذي انبثق من روح الله قمرا صاعدا في الجليل، فعافوك حين كشفت عوراتهم أمام الله، فحملوك على الصليب ظلما وبهتانا وكفرا..

وفي الخامس عشر من أيار، أقول ما يقوله اللاجيء الطريد، سفير الغربة منذ خمسة وسبعين شمسا وخمسة وسبعين خريفا، وخمسة وسبعين مطرا، كيف يشتاق مثلي حين ينبعث فيه الإياب،وحين تقوم قيامة الوطن في روحه فلا يجد غير رجع الصدى، والقليل من شظايا القمر ترقص على شفتيه جذلى..



وفي الخامس عشر من ايار، أنهر الحكاية عن البوح، أسألها التوقف قليلا عند أقدام من باعوا ومن شروا، ومن هادنوا ومن تهودوا، ومن ماتوا ومن ضاعوا، كم ثمن كل هذا الدم المهراق طيلة خمسة وسبعين شارعا، وخمسة وسبعين جدارا، وخمسة وسبعين سجنا ، وخمسة وسبعين موتا، وخمسة وسبعين خيانة لجبهة الله في القدس..



وفي النصف من أيار أسأل ابن عمي، وأخي، وباقي فرسان القبيلة، كم شرفا ضاع منا، وكم نصرا فقدناه، وكم هزيمة شربناها مع نبيذ المسرات والحفلات في جبة السلطان وسنوات حكمه الوثيرة.

وأقول لإبن عمي واخي منذ خمسة وسبعين نصفا من شهر أيار، التقطني هناك من زاوية في شارع خلفي وقل لي.. لماذا تقتلني، وتبيعني، وتنام في حضن اليهودي في القدس، وتنسى دمي الذي لا يزال غضا منذ خمسة سبعين موتا عالقا في جبتك..

ويا أيها السيء من نصف أيار.. أكرهك لأنني لا أحب فجيعتي فيك، وفي ابن العم والأخ والشقيق، أكره هذا اليوم الذي صرت فيه مجرد خبر وقصة عبث الكثيرون في تفاصيلها، فأضاعوني وأضاعوا كل شهور السنة منذ خمسة وسبعين خريفا..

أكره أيار لأنني لا أحب الموت فيه، ولا أحب السلطان فيه..



واكره أيار لأنه يعيدني إلى سيرة الإثم الذي ارتكبه الكثيرون بحقي..

واكره أيار لأنه يبكيني، يستعيدني قهرا وغصبا الى النقطة الأولى التي ذهب الشهداء فيها الى الله مخدوعون بقصور سلاطينهم، وذهب الشعب لاجئا طريدا الى جحيم الكون..