نحو بعد ما بعد الحداثة: ملامح الجماليات القادمة1

نحو بعد ما بعد الحداثة: ملامح الجماليات القادمة1
الرابط المختصر

 

عرفت الكتابة السردية الإبداعية في مرحلة ما بعد الحداثة تحولات جذرية على صعيد الشكل والتقانات الكتابية والمضمون والتلقي. وهيمنت تلك التحولات على سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. ولكن تسعينيات ذلك القرن كانت حبلى بتغيرات واسعة النطاق في الأدب والفن والنظرية والسياسة والاقتصاد والمجتمع والتكنولوجيا، بدأت في التأسيس لانحلالات وتراكيب ونماذج فكرية مغايرة، بحيث أصبح من الصعب على نحو متزايد تطبيق نظريات ما بعد الحداثة واستراتيجياتها على تلك التحولات التي أرهصت بانعطافات متتالية بعيدًا عن ما بعد الحداثة.

 

وفي هذه الدراسة سأُسلط الضوء على ملامح وأبعاد التحول بعيدًا عن الجماليات السردية لما بعد الحداثة وظهور ما يمكن أن نطلق عليه الآن: جماليات وتقانات سردية بعد ما بعد حداثية.

 

يذهب العديد من النقاد إلى أنه من الصعب الوقوف عند الحدود الفاصلة بين أدب الحداثة وأدب ما بعد الحداثة. فقد سبق وأن وظفت الرواية والقصة الحداثية معظم التقانات والجماليات التي وظفها السرد في ما بعد الحداثة. حتى إن روائيي ما بعد الحداثة أنفسهم لا يتفقون حول الأسماء التي تندرج تحت الحداثة وتلك التي تنتمي إلى ما بعد الحداثة. فيرى الروائي والناقد الأمريكي ما بعد الحداثي البارز وليم غانس الذي كان أول من وظف مصطلح "ما وراء القص" عام 1970ـ إن أسماءً مثل إيتالو كالفينو وجون بارث، ودونالد بارثلم، وروبرت كوفر، وجون هوكس، واسمه ذاته، تندرج ضمن ما يعرف بالحداثة المتأخرة، بينما يؤكد الروائي الأمريكي جون بارث، وهو زميل لغاس، إنه يمكننا أن نطلق على هؤلاء الروائيين صفه ما بعد الحداثيين.

 

ويوضح الناقد ما بعد الحداثي برايان مكهيل إن أدب الحداثة يتميز على صعيد الرؤية بانشغالاته ذات الطبيعة المعرفية الأبستمولوجية (Epistemological)، بينما انشغل الأدب في ما بعد الحداثة بالإشكاليات ذات الطبيعة الأنطولوجية (Ontological). وقام مكهيل بمقارنة الأعمال السردية المبكرة والمتأخرة لروائيين مثل صموئيل بيكت، وكارلوس فوينتس، وفلاديمير نابوكوف، وروبرت كوفر، وتوماس بنجن، ليظهر طبيعة التحولات التي طرأت على السرد في الانتقالة من الحداثة إلى ما بعد الحداثة.

 

يبحث أدب الحداثة عن القيم والمعاني في عالم الفوضى التشتت، ويسعى الفنان الحداثي نحو تحقيق حالة من الانسجام والوحدة من خلال عملية الإبداع الأدبي والفني، فهو الوحيد القادر في هذا العالم الفوضوي والمبتذل على العثور على الجمال وإعادة إنتاجه من خلال إبداعه المتميز والأصيل. وخلال ذلك يعيش المبدع الحداثي حالة من الصراع الوجودي والمعاناة الداخلية بسبب التوتر الكبير بين عالمه الداخلي الذي يقوم على الجمال والوحدة والانسجام والمعنى، وعالمه الخارجي الذي يقوم على العبثية والتشتت والابتذال والمباشرة. ويحارب ذلك المبدع بأسلوبه الإبداعي المتميز وعبقريته الفنية قيم المجتمع البرجوازي المنحلة والبراغماتية، وتندرج ضمن هذا الوصف أعمال حداثية بارزة مثل (صورة الفنان في شبابه) و(عوليس) لجيمس جويس و(الأرض اليباب) لأليوت.

 

بينما ينكر أدب ما بعد الحداثة وجود المعنى في هذا العالم العبثي الخالي من أي عمق أو دلالة خلف السطح، وينقسم العالم إلى بؤر عديدة مشتتة وغير مترابطة ولا يعود هناك غير اللحظة الراهنة ليتعامل معها الفنان، والوظيفة الوحيدة للفنان والأديب هي المحاكاة الساخرة لهذا البحث العبثي عن المعني بأسلوب مستعار غير أصيل ولا شخصي، وبعملية تقترب من اللعب واللهو العابث أكثر مما تقترب من الإبداع. يدرك الفنان والأديب في ما بعد الحداثة أن الفوضى والعبث وغياب المعنى عن هذا العالم لا يمكن تجاوزها ولا تذليلها، ويعتبر أن محاولة أدباء الحداثة إقناع القارئ بوهم الوحدة والانسجام والجمال موقفا لا أخلاقيا وتلفيقيا يجب مواجهته وإقصاءه نهائيا، ومن أجل تحقيق هذه التصورات ما بعد الحداثية، لجأ الأدباء والفنانون إلى السخرية، واللعب، والتهكم، والسخرية السوداء، والتشتت، والتقطيع، والتناقض، والمعارضة الأدبية، وكسر الزمنية، وتضمين أنماط كتابية لم تكن معروفة ضمن السرد الروائي، وتعد روايات مثل (أكل لحوم البشر The Cannibal) لجون هوكس والصادرة عام 1949، ورواية (الغذاء العاري The Naked Lunch) لوليم بوروز الصادرة عام 1959 من النماذج المبكرة على هذا النوع من السرد. بينما يتفق معظم نقاد ما بعد الحداثة على أنه يمكن اعتبار روائيين مبكرين مثل توماس ستيرن، ورابليه، وكافكا، وبورخيس، الآباء الحقيقيين للسرد ما بعد الحداثي.

 

يؤكد الباحث شانون وليامز في دراسته (خصائص الرواية في ما بعد الحداثة) على أن التمايز الحاسم بين القصة والرواية في أدب الحداثة وأدب ما بعد الحداثة يقوم على حقيقة أن القصة الحداثية تسمح للكاتب بخلق كون منظم يسمح للقارئ باستخلاص عبارات عن الخبرة الإنسانية من تعقيدات الوجود الحداثي، ويقارن شانون وظيفة القصة في أدب الحداثة بوظيفة الأسطورة باعتبارها تؤسس وتعزز نظام المعتقدات العامة الذي يتركب عليه المجتمع. بينما تسعى القصة في أدب ما بعد الحداثة إلى تطبيق فوضى الوجود المعاصر على بنية الشكل والمضمون، وإلى تفكيك القوانين والقواعد السردية المتعارف عليها من أجل فضح زيف الأسطورة التي تروج لنظم عقائدية مستندة إلى الوهم. وبذلك فإن السرد الحداثي، ورغم موقفه النقدي العميق، يسعى إلى دعم واستمرارية النظام، بينما يشكل السرد ما بعد الحداثي تهديدا كاملا للنظام.

 

وفي العقدين الأخيرين من القرن العشرين ظهر عدد من النقاد البارزين الذين تميزوا بدراساتهم لأدب ما بعد الحداثة، بشكل عام، وخصائص وتقانات السرد ما بعد الحداثي، على وجه الخصوص. ومن أشهر تلك الأسماء ليندا هتشيون، وباتريشيا واو، وبرايان مكهيل، ولاري ماك كافري، وونش اومندسن. هذا فضلًا عن الجهد النقدي لروائيين ما بعد حداثيين مثل وليم غانس وجون بارث. وتعد مقالة جون بارث (أدب الاستهلاك The Literature of Exhaustion) المنشورة عام 1967 من أوائل المحاولات النقدية لتحديد ملامح السرد ما بعد الحداثي. فقد وصف بارث رواية ما بعد الحداثة بأنها الرواية التي تقلد شكل الرواية، وتكتب بواسطة مؤلف يقلد دور المؤلف. ويقول بارث إن ما يقصده من مصطلح الاستهلاك هو ليس الاستهلاك الأخلاقي أو الجسدي، ولكنه استهلاك الأشكال الأدبية التقليدية من خلال التوظيف المتكرر لها، وقد أطلقت العديد من المصطلحات لتوصيف تقانات وجماليات السرد ما بعد الحداثي مثل: (الاستبطانية Introspected) و(الانطوائية Introvert) و(النرجسية Narcissistic) و(رواية الوعي الذاتي Self-conscious fiction) و(الانعكاس الذاتي Self-reflexive) و(ضد الرواية Anti-fiction) و(التخريف Fabulation) و(رواية التمثيل الذاتي Auto-respresential). وتجدر الإشارة إلى أن "هذه المصطلحات ليست مترادفة، كما أنها تبرز هيمنة جزء معين على الكتابة، وتظهر اهتمامات مرتبطة بمؤلفين مختلفين، وبفترات زمنية مختلفة". وقد شاع توظيف ما وراء السرد أو ما وراء القص بوصفه مصطلحًا مرتبطًا بذلك النمط من الكتابة السردية.

 

عرفت ليندا هتشيون ما وراء القص بأنه "رواية عن الرواية، أي الرواية التي تتضمن تعليقا على سردها وهويتها"، وعرفتها باتريشيا واو "رواية تلفت الانتباه بانتظام ووعي إلى كونها صناعة بشرية وذلك لتثير أسئلة عن العلاقة بين الرواية والحقيقة"، ووصف ماك كافري ما وراء القص بأنه "تلك الكتابات التي تختبر الأنظمة الروائية وكيفية ابتداعها، والأسلوب الذي تم توظيفه لتشكيل وتصفية الواقع بوساطة الافتراضات السردية والاتفاقيات". ويثير ما وراء القص أسئلة تتعلق بالعلاقة الإشكالية بين التخييل والواقع، وينزع نحو إثارة الشك في طبيعة تصوراتنا عن الواقع وعن ما هو حقيقي وقائم بذاته خارج حدود الخطابات التي تشكل ثقافتنا ووعينا. كما أنه يعمل على تعطيل الوثوقية المطلقة والبداهة الساذجة التي تتشكل منها تلك التصورات. فيتعمد ما وراء القص تقويض الحدود القائمة بين الخيال والواقع وعرض وعي الرواية بكونها تركيب خيالي. ويذكر الكاتب القارئ دائما بأنه يقرأ رواية خيالية وبأن الشخصيات ليست سوى كائنات ورقية غير حقيقية، وأن على هذا القارئ أن لا يتماهي مع الشخصيات ولا يتفاعل معها على أساس أنها تجسيد لأشخاص حقيقيين. ويتم ذلك على صعيد الجماليات الكتابية من خلال تقانات متعددة مثل تحول المؤلف الحقيقي إلى إحدى الشخصيات الخيالية المشاركة في الحدث السردي، وخلق سيرة ذاتية متخيلة لكتاب متخيلين، ودخول شخصيات موجودة على صعيد الواقع أو أحداث واقعية ضمن بنية السرد التخييلي ومن ثم التشكيك بمدى واقعيتها، وابتكار نوع من الحوار والنقاش المباشر بين الشخصيات الخيالية في عالم السرد التخيلي وبين المؤلف في العالم الواقعي وتدور معظم تلك الحوارات حول طبيعة بناء الحدث الروائي أو حول بناء الشخصية الروائية، دخول شخصيات مستعارة من أعمال روائية أخرى معروفة لنفس المؤلف أو لمؤلفين آخرين بوصفها شخصيات مشاركة في الحدث السردي، وتضمين السرد مقالات روائية موجهة مباشرة من المؤلف إلى القارئ بعيدا عن الصياغة الفنية للحبكة التخييلية للعمل السردي، وتحضر تلك المقالات بوصفها تأملات حول طبيعة ووظيفة الرواية أو بوصفها تعليقًا على الأحداث والشخصيات الروائية والرواية التي تدور أحداثها عن محاولة إحدى الشخصيات كتابة رواية أو التعليق على مخطوطة أو عمل روائي متخيل أو حقيقي.

 

يقترب ما وراء القص من جماليات المسرح الملحمي عند الأديب والمنظر والمسرحي الكبير برتولت بريشت والذي برز قبل الحرب العالمية الثانية في الغرب. يقول بريشت "لا ينبغي لنا أن نتعلق بقواعد وأسس (مجربة) لسرد حكاية أو بأنماط من تاريخ الأدب أو بقوانين جمالية لا تبلى"، ويضيف "إن علينا أن ندع الفنان يوظف كل خياله وأصالته وروحة الساخرة وقوته الخلاقة في سبيل تحقيقها. ولا يحق لنا أن نقتصر على أنماط أدبية بكل تفاصيلها، أو أن نجبر الأديب على إتباع قواعد صارمة معينة في سرده للقصص". يقف هذا المبدأ الفني على النقيض تماما من دعوة الشاعر والناقد الرومانسي الإنجليزي الشهير صموئيل كولردج للفنان والقارئ لتعطيل عدم التصديق (Suspension of Disbelief)، والتي تعني أن على الفنان أو الأديب والقارئ أن يعطلوا شعورهم بأن العمل الفني أو الأدبي هو عالم خيالي ويتفاعلوا معه بوصفه حقيقة وواقعًا. في حين يقوم ما وراء القص بالتشكيك بمدى واقعية ما يتم تداوله ثقافيًا بوصفه حقائق مسلم بها، ومدى خيالية ولا معقولية ما هو خيالي ولا معقول، والتقليل من شأن مفاهيم مثل الأصالة والمصداقية والحضور، إنه سرد يظهر انشغاله بالطبيعة الخطابية للعالم.

 

وفضلًا عن البناء المشوش وغير المتماسك والتلاعب الواعي بالبنى الروائية وآليات صياغة الخطاب السردي، يوظف ما وراء القص جماليات التناص بشكل مكثف وقصدي. ويكشف التناص في السرد عن استحالة وجود نص نقي قائم بذاته دون التقاطع أو التداخل أو الإحالة إلى نصوص أخرى سابقة، كما أكد على ذلك معظم نقاد ما بعد البنيوية ومفكريها مثل جوليا كريستيفا وتزفتان تودوروف وجاك دريدا ورولان بارت. إن كل نص يحضر بوصفه صدى لعدد لانهائي من النصوص السابقة التي تشكل بتداخلها نسيج الخطاب الثقافي الجمعي. ويؤكد الباحث غيرهارت هوفمان في كتابه (من الحداثة إلى ما بعد الحداثة From Modernism to Postmodernism) على أن توظيف التناص في أدب ما بعد الحداثة يحقق نوعا من تعددية الرموز (Pluralism of Codes) وتعددية التأثيرات وتعددية الخطابات داخل النص. ويتم من خلال التناص انتهاك الحدود الخطابية بين مختلف أنواع الخطابات في الفضاء الثقافي والتأكيد على أن جميع الخطابات في الثقافة هي عبارة عن تراكيب لغوية تقوم على نفس الاستراتيجيات والآليات التي يوظفها النص السردي التخييلي لإنتاج المعنى وتوليد الدلالات، فاللغة هي في حقيقتها "نظاما غير مستقر للمرجعيات، بدلا من كونها نموذجا مضبوطا للمعنى"؛ فنصوص الفلسفة والقانون والتاريخ والأدب جميعها خاضعة للتأويل ولتعدد القراءات ومن ثم فهي لا ترتبط بعلاقة انعكاسية سلبية مع الواقع بقدر ما تقوم بإعادة إنتاج وتمثيل ذلك الواقع ضمن اشتراطات الأنساق الكتابية والخطابية ضمن الثقافة. وبينما حاول إمبرتو إيكو ضبط آليات إنتاج المعنى والدلالة في النص من خلال إيجاد قواعد ومعايير للتأويل، أكد كل من جاك دريدا ورتشارد رورتي وجونثان كلر ورولان بارت على الانفتاح اللانهائي للنص ومنح المؤول حرية التأويل الكاملة وإنكار وجود "ميكانزمات نصية" محددة لإنتاج المعنى يمكن الكشف عنها من خلال التحليل النقدي. ويحاول ما وراء القص تفعيل إمكانيات التأويل المضاعف، على حد وصف جونثان كلر، وتحقيق الانفتاح اللانهائي للنص من خلال توظيف جماليات التناص وتعدد المستويات السردية داخل العمل الروائي.

 

و بالإضافة إلى ما وراء القص كشفت الجهود النقدية لنقاد أدب ما بعد الحداثة عن نمط آخر من أنماط الكتابة السردية وهو ما عبروا عنه بمصطلح (ما وراء القص التاريخي Historiographic Metafiction). ويوظف ما وراء القص التاريخي نفس التقانات السردية التي يستخدمها ما وراء القص ويعمل النمطان السرديان ما بعد الحداثيان ضمن نفس الاستراتيجيات والسياقات النظرية والثقافية، إلا أن ما رواء القص التاريخي يتميز بالانشغالات المتمركزة حول التاريخ والأحداث التاريخية الحقيقية والمتخيلة والاشكاليات التي تثيرها الكتابات التاريخية وعلاقة التاريخ بالحاضر. يسعى وراء القص التاريخي إلى عرض "تفصيلات تاريخية معروفة جرى دحضها وتزييفها عن عمد بهدف إظهار الإخفاقات الممكنة للتاريخ المسجل والاحتمال المفترض للخطأ المقصود وغير المقصود".

 

وتوضح فيكتوريا أورلوفيسكي في دراستها (ما وراء القص) أن "ما وراء القص التاريخي هو روايات الانعكاسية الذاتية المكثفة التي تعيد تقديم السياق التاريخي بطريقة ما وراء القص، وتمشكل، تبعا لذلك، قضية المعرفة التاريخية بأكملها، فهي تنتج سرديات تتلاعب بالحقيقة وتكذب السجل التاريخي وتحاول من وراء ذلك إعادة اكتشاف تاريخ المقموعين والمهمشين مثل النساء والأطفال والأقليات العرقية والدينية ومساءلة الروايات التاريخية الرسمية لخطابات السلطة"، وتعرف ليندا هتشيون هذا النمط من الكتابة السردية ما بعد الحداثية على أنها كتابة "تقترح إعادة كتابة وإعادة تمثيل الماضي في الرواية وفي التاريخ، لأجل كشفه أمام الحاضر، ومنعه من أن يكون حاسما ونهائيا وغائيا".وترى هتشيون أن ما وراء القص التاريخي يعمل على تعطيل اليقينية المرجعية المباشرة للرواية التاريخية، ويكشف من خلال التهكم والسخرية عن أن كل من التاريخ والأدب هي بناءات وتراكيب أو أوهام بشرية وأن نصوص الأدب والتاريخ على السواء هي مجرد لعبة واضحة؛ فالأدب والتاريخ هما جزء من أنظمة ثقافتنا الدالة وكلاهما يصنع عالمنا ويجعل له معنى. يحضر الماضي في هذا النمط السردي بوصفه تلفيقات مختلقة من قبل النصوص التي تفرضها خطابات السلطة كمرجعيات لما هو حقيقي في التاريخ ولما تضفيه تلك السلطة وما تسمح به من عمليات إنتاج المعنى وتأويل لتلك النصوص التاريخية. ويسعى ما وراء القص التاريخي، من خلال تقانات العرض والتمثيل السردي ما بعد الحداثي، إلى التشكيك بالمعاني والتأويلات التي تضفيها السلطة على التاريخ ومحاولتها الاستحواذ على الماضي. وتعدد أورلوفسكي عدد من الأعمال الروائية كأمثلة على ما وراء القص التاريخي، مثل (أطفال منتصف الليل) و(تنهيدة مور الأخيرة) لسلمان رشدي، و(امرأة الضابط الفرنسي) لجون فاولز، و(الناس المتجولون) برايان جونسون، و(اثنان أو لا شيء) لريموند فيدرمان، (اسم الوردة) لأمبرتو إيكو.

 

و يعد الناقد برايان مكهيل إن تيارات سردية مثل (الواقعية السحرية)، التي ميزت الأعمال الروائية لكتاب أمريكيا اللاتينية والتي تقوم على التداخل بين عوالم الحلم والعوالم الواقعية في الفضاء الروائي، و(الرواية الجديدة) التي ظهرت في فرنسا في الستينيات من القرن العشرين والتي تخلصت من الحبكة والشخصيات في البناء الروائي، يمكن إدراجها ضمن أنماط الكتابة السردية ما بعد الحداثية. ويمكننا هنا أن نشير إلى أسماء بارزة مثل بورخيس، وكاربنتيير، وكارلوس فوينتوس، وميغيل استورياس، وخوان رولفو، وإيتالو كالفينو، وغارسيا ماركيز، والليزابيل الليندي، على صعيد الواقعية السحرية، وآلن روب غرييه، وميشال بوتور، ونتالي ساروت، على صعيد الرواية الجديدة في فرنسا. بينما يضيف الباحث هيربرت غريبز إلى الأنماط السردية ما بعد الحداثية كل من رواية المؤامرة والروايات البوليسية وروايات الجريمة والتعسف والعنف وروايات الرعب وروايات الخيال العلمي والفانتازيا المفرطة، والروايات التي تصور الواقع الكابوسي المخيف للمستقبل البشري(الديستوبيا Dystopia)، لأنها تقوم على التشويش على عمليات التلقي التقليدية وكسر أفق التوقع لدى القارئ العادي واستدراج الانتباه إلى طبيعة بناء الحبكة ومدى مصداقية الحدث الروائي والشخصيات على حد سواء ومساءلة البديهيات اليقينية والمسلمات الثقافية خارج النص.

 

* باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

1- أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2- الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014

3- نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4- فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني

أضف تعليقك