نحو بعد ما بعد الحداثة: ملامح الجماليات القادمة 2

نحو بعد ما بعد الحداثة: ملامح الجماليات القادمة 2
الرابط المختصر

الجزء الثاني من

 

هيمنت الأنماط السردية التي تسعى لإعادة إنتاج تقانات ماوراء القص وما وراء القص التاريخي على النشاط السردي في عدة مناطق من العالم خلال الفترة بين عقد الستينيات ونهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وأصبحت جماليات الكتابة السردية الما بعد حداثية مظهرًا من مظاهر عولمة الأداء الثقافي للنشاط البشري بصورة عامة، غير أن هذه الصورة بدأت بالتغير والتحول مع بداية التسعينيات من القرن العشرين، وإن كانت بوادر هذه التحولات أكثر حضورا في النشاط الثقافي للمركز منها في الأطراف والهامش، إن جاز لنا التعبير بمصطلحات ما بعد الحداثة.

 

كان هذا التغيير والتحول في الموقف من جماليات السرد الما بعد حداثي أبعادها الفكرية والثقافية، مؤشرا مهما على تغيرات وتحولات ذات دلالات أكثر عمقا وأبعد تأثيرا في النموذج الفكري للنشاط الثقافي من ما بعد الحداثة إلى مرحلة جديدة اطلق عليها النقاد الثقافيون عليها مصطلح فضفاض هو بعد ما بعد الحداثة.

 

في كتابهما الصادر عام 1991 بعنوان (من البيوريتانية إلى ما بعد الحداثة From Puritanism to Postmodernism) حدد الناقدان مالكوم برادبري وريتشارد رولاند لحظة تحول الأدب من ما بعد الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة بنهاية الثمانينات وبداية التسعينيات من القرن العشرين، وأتفق معهم الناقد (باري لويس Bary Lewis) في مقالته التي شارك بها في (قاموس روتلدج النقدي لفكر ما بعد الحداثة The Routledge Critical Dictionary of Postmodern Thought) وأشار إلى الفترة بين 1989 و1992 بوصفها لحظة التحول التاريخية إلى أدب بعد ما بعد الحداثة . وفي عام 1993 نشر الروائي الأمريكي البارز ديفيد فوستر والاس مقالا مهما بعنوان (مراجعة نقدية للقصة المعاصرة: التلفزيون والقصة الأمريكيةReview of Contemporary Fiction: Television and U. S Fiction) تقصى فيه مظاهر تراجع ما بعد الحداثة في القص الأمريكي المعاصر.

 

أكد والاس على أنه لم يعد بمقدور القصة المعاصرة في أمريكا توظيف تقانات ما وراء القص وذلك لأن التلفزيون كان قد استعان بها بشكل مكثف وأفرغها من محتواها، وأشار إلى ظهور عدد من الروائيين الجدد في أمريكا تجاوزوا تقانات ما بعد الحداثة واتجهوا نحو توظيف (القص التصويري Image-Fiction). وعبر والاس عن أمله في أن تتمخض هذه البدايات للروائيين الجدد عن تأسيس تقانات جديدة تقوم على التفاعل الإيجابي بين الروائي والقارئ. أعيد طبع هذا المقال في كتاب والاس (شيء من المفروض أنه ممتع لن أقوم به مرة ثانية أبداA Supposedly Fun Thing I will Never Do Again) والصادر عام 1997 ولاقى ترحيبا واسعا.

 

وفي عام 1996 صدر للروائي الأمريكي الشهير جونثان فرانزن كتابا ضم مجموعة من المقالات تحت عنوان (قد يصادف أن تحلم Perchance to Dream)، والعنوان مأخوذ من بيت شعري لمناجاة هاملت الشهيرة (أكون أولا أكون To be or not to be) عن مسرحية شكسبير الشهيرة (هاملت Hamlet). أعلن فرانزن في هذا الكتاب عن قراره بالتوقف عن الكتابة حول قضايا الثقافة في الرواية كما كان روائيو ما بعد الحداثة يفعلون في رواياتهم.

 

كان الروائي ديفيد فوستر والاس من أوائل الروائيين الذين دعوا إلى تجاوز تقانات وجماليات ما بعد الحداثة في الكتابة السردية، ففي عام 1989 صدرت لوالاس مجموعة قصص قصيرة بعنوان (الفتاة ذات الشعر الغريب Girl with Curious Hair) تضمنت في نهايتها قصة قصيرة طويلة بعنوان (غربا تتجه الإمبراطورية Westward the Course of Empire Takes It’s Way) وظف فيها والاس تقانات ما بعد الحداثة، من أجل أن يكشف عن محددوية تلك التقانات ويفضح أوهام ما بعد الحداثة ونزعتها الاستهلاكية الرأسمالية. تضمنت قصة والاس تناصا سرديا مع المجموعة القصصية الشهيرة لأبرز ممثلي جماليات ما وراء القص في أمريكا جون بارث والتي تحمل عنوان (ضائع في بيت المرح Lost in the Funhouse) من خلال ظهور بطل مجموعة بارث (أمبروزا Ambrose) كأحد الشخصيات في قصة والاس. وقد رد بارث على والاس من خلال كتابة روايته (يأتي قريبا Coming Soon) والصادرة عام 2001 وأراد من خلالها أن يثبت أن بعد ما بعد الحداثة قد تكون هي ذاتها الدافع لاستمرار ما بعد الحداثة وتقانات ما وراء القص. كان جون بارث قد رفض فكرة موت ما بعد الحداثة وتقانات ما وراء القص وقال بقدرتها على الاستمرارية والبقاء طويلا. وفي مؤتمر شتوتغارت الشهير عام 1991 ساهم بارث بورقة نقدية حملت عنوانا لافتا (النهاية: مقدمة The End: An Introduction) أكد فيها أن المرحلة القادمة لن تكون مرحلة موت ما بعد الحداثة ولكنها ستكون بداية جديدة لها. وكانت الباحثة البارزة (هايدي زيغلر Heide Ziegler) قد دعت في آب (أغسطس) من عام 1991 إلى مؤتمر أكاديمي في مدينة شتوتغارت في ألمانيا تحت عنوان (نهاية ما بعد الحداثة The End of Postmodernism)، وشهد المؤتمر سلسلة من الحلقات النقاشية حضرها إيهاب حسن، ومالكوم برادبري، وريموند فيدرمان، وجون بارث، ووليم غاس. ونشرت الأوراق المقدمة إلى المؤتمر في كتاب حمل عنوان(موت ما بعد الحداثة: اتجاهات جديدة The End of Postmodernism: New Directions) صدر عام 1993. كان الهدف من المؤتمر القيام بمراجعة أخيرة لما بعد الحداثة من أجل تجاوزها نهائيا وإلى الأبد.

 

كان بارث متأكدا من قدرة ما بعد الحداثة القدرة على استيعاب جميع القوى والتيارات المضادة لها والاستفادة منها في تحقيق انطلاقات جديدة. وقد كانت فترة التسعينيات مرحلة مثيرة في تاريخ الرواية الأمريكية وذلك لأنها شهدت ظهور جيل جديد من الروائيين يبحثون عن التغيير ويسعون إلى تأسيس حساسيتهم الروائية الخاصة، واستمرار الجيل السابق لهم في الكتابة بنشاط وقوة. ففي الوقت الذي ظهر فيه كل من ديفيد فوستر والاس وجونثان فرنزن ومارك دانيلفسكي وديف إيغرز كان كل من جوناثان بارث ووليم غاس يقدمون أفضل أعمالهم الروائية وأكثرها نضجا. ويذهب الباحث (ستيفن جي بيرن Stephen J. Burn) إلى أن التحول النهائي نحو جماليات بعد ما بعد الحداثة في الأدب قد حدث خلال الفترة المحصورة في السبعة وعشرين شهرا التي تفصل بين صدور رواية (لاري مكافري Larry McCaffery) (بعد انهيار يوم أمس After Yesterday Crash) في شهر أغسطس من سنة 1995 ونوفمبر سنة 1997 عندما ظهرت تعيلقات الفيلسوف البراغماتي الأمريكي ريتشارد رورتي حول موت ما بعد الحداثة في صحيفة (النيويورك تايمز New York Times) الأمريكية .

 

ومثلما رافق ظهور تقانات ما وراء القص وما وراء القص التاريخي مجموعة من النقاد الذين اشتغلوا على تحديد تلك التقانات ودراستها وتقديم تأويلات ثقافية وتاريخية لها، مثل ليندا هتشيون، وباتريشيا واو، ولاري مكافري، برز بعض النقاد الذين اهتموا بتقصي جماليات وتقانات بعد ما بعد الحداثة في الأدب بشكل عام، وفي مجال السرد بشكل خاص، مثل تشارلز بي هاريس، وروبرت مكلافن، وراؤول إيشلمان.

 

ويمكن الإشارة إلى أهم التقانات والجماليات التي بدأت في الظهور في الأعمال الإبداعية لبعد ما بعد الحداثة والتي تمثل تجاوزا لتقانات وجماليات ما بعد الحداثة:

• عودة الاهتمام بالشكل والنظام والترتيب بدلا من اللا-نظام والفوضى والتشويش على عمليات التلقي والاستقبال والتي غالبا ما كان يتم توظيفها في أدب ما بعد الحداثة.

• •السعي نحو تحقيق الشمولية والتكامل والوحدة والغلق في العمل الفني من خلال خلق إطارات فنية لتأطير الحدود الفاصلة بين عالم النص والعالم الخارجي.

• عودة الاهتمام بالقصة والحبكة التقليدية والتخلي عن تعقيدات تقانات ما بعد الحداثة من أجل تحقيق الوضوح وتجنب الغموض. يظهر أدب بعد ما بعد الحداثة اهتماما متزايدا بالترابط المنطقي للأحداث في القصة وبناء الحبكة.

• عودة الاهتمام بالشخصية بوصفها ذاتا تجريبية وليست مجرد كائن من ورق أو تركيب خيالي. وبحث جوانب التجربة الإنسانية وطبيعة المواقف الوجودية من خلال حركة الشخصية المتخيلة داخل إطار العمل الفني والأدبي. إن الغرض من بناء الشخصية المتخيلة داخل العمل الإبداعي في قص بعد ما بعد الحداثة هو مساءلة المواقف الإنسانية والثقافية والاجتماعية للأفراد في العالم الخارجي والبحث عن ممكنات ثقافية أخرى للإشكاليات الوجودية والثقافية التي تواجه الذات الواقعية في الخارج. يتجاوز القص في بعد ما بعد الحداثة استراتيجيات ما بعد الحداثة لتعطيل الفاعلية الإنسانية للشخصيات الروائية والتذكير المتعمد بحقيقتها المتخيلة ولا واقعيتها. أكد روائيو ما بعد الحداثة على إفراغ الشخصيات المتخيلة والحبكة من محتواها الإنساني أو إمكانيات إحالتها على الواقع الإنساني خارج عالم النص. ولذلك حرص روائيو بعد ما بعد الحداثة على تنقية مفهوم الشخصية بصورة منظمة من شوائب قص ما بعد الحداثة.

• السعي لخلق نوع من التعاطف والتواصل بين القارئ والشخصية المتخيلة وما تتعرض له من أزمات أو تتخذه من مواقف وتجاوز تقانات التغريب وكسر الألفة والتي كثيرا ما تم توظيفها في أدب ما بعد الحداثة.

• تأكيد إمكانيات القص والوحدات السردية الكبرى على تمثيل العالم الخارجي وتجاوز مفهوم اللا-إحالة للأنساق التمثيلية في أدب ما بعد الحداثة. يؤمن الأدب في بعد ما بعد الحداثة بوجود الواقع الاجتماعي الخارجي ولكنه لا يتعامل معه على أساس النظرية الانعكاسية الاختزالية، بل من خلال خلق إطارات فنية وجمالية تعمل على تكثيف هذا الواقع من أجل السمو والتجاوز. يقول الناقد البارز روبرت مكلافن في دراسته حول رد الفعل ضد ما بعد الحداثة إن إحدى الطرق الجيدة للتفكير في الأجندة التي أتبعتها بعد ما بعد الحداثة هي استمرار الإيمان بقدرة الأدب على اتخاذ مواقف نقدية من العالم الاجتماعي خارج النص، ولكن فقط إذا ما فهمنا أن كل ما يتم التفكير فيه يتجسد لنا من خلال اللغة. فلم يعد بالإمكان العودة إلى التصور ما قبل السوسيري عن اللغة، والذي كانت فيه اللغة مجرد "مرآة" للأفكار والأشياء وقناة محايدة لنقل عالم الشعور الداخلي إلى الخارج من أجل التواصل. فاللغة قوة قادرة على الفعل في التحولات الاجتماعية، كما "لا تحدد المعاني في مجتمع ما بصفة نهائية، فهي تظل موضوع رهان متجدد لصراع مفتوح بين مختلف الفئات التي تبحث عن إرساء هويتها الاجتماعية". فاللغة جزء من الفعل الاجتماعي وليس ركام من الأنساق الجامدة.

• توظيف موضوعة نهاية ما بعد الحداثة والموقف النقدي منها. فقد لجاءت بعض الأعمال الإبداعية في بعد ما بعد الحداثة إلى توظيف الإحالات والاستعارات والمعارضة الأدبية والتناص المبالغ فيه مع عدد من النصوص التي تنتمي إلى ما بعد الحداثة وذلك من خلال تكرار أسماء الشخصيات أو بعض خصائص الفضاء الروائي لتلك النصوص. ظهرت بعض تقانات ما بعد الحداثة في الأعمال الأدبية لبعد ما بعد الحداثة وكان الغرض من وراء ذلك هو الكشف عن محدودية تلك التقانات وفشلها في خلق جماليات تستطيع التعبير عن الواقع الثقافي والاجتماعي للحظة الراهنة. وقد سبقت الإشارة إلى مجموعة والاس القصصية (الفتاة ذات الشعر الغريب (Girl with Curious Hair) والتناص الذي قام به مع مجموعة جون بارت القصصية (ضائع في بيت المرح Lost in the Funhouse).

 

* باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

1- أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2- الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014

3- نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4- فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني

أضف تعليقك