مواجهة ثقافية مباشرة مع التاريخ

الرابط المختصر

إجماعٌ على واجب المقاوَمة الثقافية. هذا ما ذهبت إليه أفكار كتّاب ومثقّفين عرب من مختلف الأجيال والمشارب ممّن استطلعت "العربي الجديد" آراءهم حول ما يُمكن للثقافة العربية أن تُقدّمه وما هي أدواتها لخدمة قضاياها، وفي طليعتها قضية تحرير الأرض والإنسان التي تدور رحاها الآن في فلسطين معمّدة بدم أبنائها.


يبدو أن عدد الشهداء في غزّة، حتى كتابة هذا المقال، وبعد عملية "طوفان الأقصى"، يفوق ثمانية آلاف فلسطيني جلُّهم من النساء والأطفال، قُتلوا وُدكّت بيوتهم فوق رؤوسهم أمام أنظار كلّ العالم وبمساعدة الأميركيّين ودعم المستعمرين الأوروبيّين الكلاسيكيين مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا.

أصبحت جريمةً قانونية في فرنسا أن يرفع أحدُهم العلم الفلسطيني، وبلغ الأمر بالألمان أن يُجرّموا كلَّ من يحاول التظاهر انتصاراً لأهل غزّة أو للمُطالبة بوقف الحرب على أهلها. ليس هذا فحسب، بل طالب أكثر من خمسين ألف طالب وأكاديمي مناصر لدولة الكيان الصهيوني بفصل المفكّر العربي الفلسطيني جوزيف مسعد من "جامعة كولومبيا" بعد نشره مقالاً عن العدوان على غزّة، يُبيّن فيه أنّ عملية طوفان غزّة في السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر جاءت ضربةً موجعة لمستقبل نتنياهو السياسي، وسيكون لها أثر كبير على عملية التطبيع بين "إسرائيل" والحكومات العربية.

أمّا تآمر فيسبوك والإعلام الغربي ضدّ الفلسطينيّين في الجرائم التي تُرتكب في غزّة، فهذه فضيحة أخلاقية أُخرى جعلت الكثير من الكتّاب العرب والغربيّين يعيدون النظر في مصطلحات غربية مركزية مثل الديمقراطية والتنوير والليبرالية والعقلانية والتقدّم والحضارة وحقوق الإنسان.

لا بد لنا من فهم المكوّن الثقافي الصلب في الاستعمار الصهيوني الاستيطاني في فلسطين، وهو تقديم نفسه تاريخياً وأيديولوجياً ووجودياً وسردياً ومعرفياً ووطنياً باعتباره المخلّص المسيح لليهود الأوروبيّين الذين دفعوا ثمن المحرقة على يد النازيّين، فحُقّ للناجين من المحرقة بأن ينالوا وطناً قوميًا لهم في فلسطين، اخترعه الاستعمار البريطاني من خلال وعد بلفور عام 1917، بعد سلسلة ممنهجة من شراء الأراضي وتهجير الفلسطينيّين وارتكاب الكثير من المجازر بحقّهم. وهذا بالطبع يدفعنا لمحاولة فهم جذور الصهيونية الأوروبية وزواجها الكاثوليكي بالمسيحية البروتستانتية، وصيرورة اختراع دولة "إسرائيل"، بوصفها روما الجديدة المحاطة بالبرابرة العرب المسلمين، حسب وصف دعاتهم أمثال ديفيد بن غوريون وغولدا مائير وتيودور هرتزل وهربرت صاموئيل، وكتّابهم أمثال عاموس عوز ويهودا عميخاي وغيرهم.

مسؤولية أخلاقية في مجابهة الفاشية الصهيونية سرديّاً

ظلّت السردية الصهيونية قائمةً وجرى تجديدها على يد الكّتاب الصهاينة وبعض المؤرّخين الجدد، أمثال بيني موريس الذي اختزل قضية الفلسطينيّين في مشكلة اللاجئين، والاعتراف بأنّهم طُردوا من فلسطين، لكنّه يرى، في الوقت نفسه، أنّ الكيان الصهيوني دولة شرعية خاضت حروبها المشروعة ضد العرب البرابرة المعادين للسامية.

يُذكّرنا المؤرّخ نور مصالحة بأن الترحيل هو مصطلح مخاتل لحقيقة الطرد الجماعي للفلسطينيّين ومحو فلسطين التاريخية من الذاكرة الجمعية، ويُذكّرنا إدوارد سعيد، وجوزيف مسعد كذلك، بأنّ سردية الضحية والتعاطف معها لا تكفي لتحقيق مشروع التحرير والتحرر لفلسطين وأهلها ومشروع المقاومة المسلحة والمشروعة. نحن، إذن، أمام مجابهة ثقافية كبرى لا يمكن للمخيال الثقافي الاستعماري أن يعزلها عن تاريخ المحو الثقافي الذي تعرَّض له الهنود الحمر على يد كريستوفر كولومبوس وأتباعه الجدد والسكّان الأصليّين في كندا وغيرها من دول الاستعمار الأوروبي. وكأن خطاب الصهيونية باختصار يقول لنا جميعاً وللفلسطينيّين وبكلّ صفاقة: ذبح الفلسطينيّين وتهجيرهم ومحو تاريخهم وثقافتهم ووجودهم هو حقّ مشروع لدولة الكيان الصهيوني، وأيّ محاولة لمجابهة وحش الاستعمار الصهيوني هي محض عنف بربري متوحّش ونازي ومعاداة للسامية.

يعلم المؤرّخون، أمثال رشيد الخالدي وآفي شليم، أنّ كسر شوكة الثورة الفلسطينية في 1936 - 1939، على يد الاستعمار الإنكليزي كانت بداية إرهاصات النكبة الفلسطينية. ظلّ هذا المشروع الصهيوني منذ عام 1948، وما نسمّيه بالنكبة، حسب توصيف قسطنطين زريق، ترجمة استعمارية وإمبريالية ثقافية لفكرة جرى تصنيمها عبر العقود المنصرمة، وهي التحديث والنهضة والتقدّم الأوروبي مقابل ثنائية التخلّف والتأخّر الحضاري الذي يغرق فيه العرب المسلمون، حسب توصيفهم، بعد سقوط الدولة العثمانية من خريطة القوى الإمبريالية التي تصنع قواعد اللعبة، حتى صار صنّاع التاريخ يسمونها آنذاك "رجل أوروبا المريض".

اختفت فلسطين سياسياً من الفعل السياسي الدولي بعد "اتفاقية أوسلو" عام 1993، بل صار يُشار إليها بخجل في محافل الأمم المتّحدة من خلال ما آلت إليه السلطة الفلسطينية الهزيلة والفاسدة، بل وصل الأمر أن أصبحت السلطة الفلسطينية تمارس وظيفة الوكيل الاستعماري داخل الضفّة الغربية، ولا تألو جهدا في التنكيل بالفلسطينيين والمقاومة، وكلّنا نذكر التصفية الوحشية للناشط الفسطيني نزار بنات على يد السلطة الفلسطينية، أو ما يسمّيها جوزيف مسعد بالمرتزقة. التصقت صورة الفلسطيني في المخيال الصهيوني والأوروبي المركزي في أفلام هوليوود والإعلام الغربي المتحيّز باعتباره الفلسطيني المخرِّب والبربري والأصولي والمعادي للسامية. صار الفلسطينيُّ اليهوديَّ الجديد في عقر داره.

التعاطُف غير كافٍ لتحقيق مشروع التحرّر الفلسطيني

وفي ملّتي واعتقادي أنّ هنالك ثلاث سرديات ثقافية يجري توظيفهما في خضمّ الخطاب الصهيوني الاستعماري المضادّ للوجود الفلسطيني وحقّ الفلسطينيّين في المقاومة والردّ بالمثل وتحقيق مشروع التحرُّر الوطني في أرض فلسطين التاريخية، وهي: صراع الحضارات، ومعاداة السامية والاستشراق الصهيوني. لقد نجحت الصهيونية في جعل مشروعها الاستعماري المعادل الموضوعي للاستعمار الأوروبي والتفوّق الغربي المتغطرس، فحشدت الجامعات والعلماء والأدباء وصواريخ إف-16 وأعتى أنواع الأسلحة لتنضمّ إلى جوقة الاستعمار الجديد ورسم صورة فلسطين دائماً بوصفها "أرضاً بلا شعب لشعب بلا أرض".

كان غسّان كنفاني ووليد الخالدي وناجي العلي ومريد البرغوثي وحلوة زيدان وشادية أبو غزالة وفدوى طوقان ومحمود درويش وإدوارد سعيد وسميح القاسم ووليد سيف وزكريا محمد وجوزيف مسعد ونور مصالحة ورشيد الخالدي وغيرهم يدركون هذا الثالوث الصهيوني الأوروبي قلباً وقالباً، فتجلّى هذا الخطاب في أعمالهم كسردية ثقافية مضادّة للمشروع الصهيوني ومآلاته الأيديولوجية والاستيطانية. لا أزعم أنّ الخندق الثقافي هو الخلاص النهائي للقضية الفلسطينية ومقاومة المحو العرقي والوجودي الذي يمارسه الكيان الصهيوني الفاشي، ولكن الفعل الثقافي بكل أطيافه يبقى فعل مقاوَمة لا عوض عنه كلّما كانت بوصلته القضية الفلسطينية، والمسؤولية الأخلاقية في مجابهة فاشية الكيان الصهيوني على المستوى السردي والأيديولوجي. ولكن علينا أن نعترف أنّ أزمة الثقافة العربية الحالية تكمن في طبقة الثقافة البرجوازية والإنتلجنسيا المحكومة بإكراهات الكيانات العربية الوظيفية، والتابعة للمركز الاستعماري الغربي سياسياً واقتصادياً وثقافياً.

وأختم بمثال حيّ وصارخ على الدعاية الثقافية الصهيونية في شيطنة الفلسطيني وتحويله إلى مخرّب وبربري وأصولي خطير، فها هو عاموس عوز، الروائي الإسرائيلي الأبرز في تاريخ دولة الاستعمار الصهيوني، يحاول الإساءة لتاريخ فلسطين والمقاومة الفلسطينية، حين يقول: "إنّ إسرائيل وطننا، وفلسطين هي وطنكم. وكلّ من يرفض التعايش مع هاتين الحقيقتين فهو إمّا أن يكون أعمى أو شرّيراً... لقد جاءت أوسلو بمئات الشروط، ولكن جوهرها كان واضحاً وبسيطاً: أن نتوقّف عن السيطرة عليكم، أن نتوقّف عن قمعكم، وأنتم بالمقابل تعترفون بدولة إسرائيل، وتتوقّفون عن قتلنا.. وبعد خمسين عاماً، فإن الحكومات العربية لم تألو جهداً في استخدام الفلسطينيّين كأداة انتحارية، من خلال إرسالهم لارتكاب عمليات انتحارية ضدّنا، بينما يكتفون بمراقبة المسرحية وهُم يجلسون على أرائكهم الوثيرة من بعيد. أمّا الآن، فمعظم الحكومات العربية قد أبرمت اتفاقيات سلام معنا دون أن تذرف دمعة واحدة على نكبتكم. فهل تحاولون أيها الفلسطينيون أن تتطوّعوا لأن تكونوا قنابل تدبّ على الأرض، لكي ترتكبوا المزيد من العمليات الانتحارية!" (عاموس عوز، ترجمتي، 1996، The New York Review).

وفي السياق نفسه، لا ننسى أنّ عاموس عوز أرسل نسخة من روايته "قصّة حب وظلام" إلى مروان البرغوثي في السجون الإسرائيلية، مرفقاً معها عبارة خبيثة تجعلنا في مواجهة أيديولوجية وثقافية مباشرة مع التاريخ: "هذه حكايتنا نحن. أتمنّى أن تقرأها، وتفهمها كما نفهمك، راجياً أن أراك خارج السجن وأنت تنعم بالسلام". وبهذا يصبح الجواب على لسان محمود درويش: "من يكتب حكايته يرث أرض الكلام، ويملك المعنى تماماً".


* باحث وأكاديمي من الأردن
هذه المادّة جزءٌ من ملفّ تنشره "العربي الجديد" بعنوان: "الثقافة العربية واختبار فلسطين... ما العمل؟".

لقراءة الجزء السادس من الملفّ: اضغط هنا