من أندية الروتاري إلى خيام «الإخوان»

الرابط المختصر

أحسب أن أحدا من الأردنيين ، لم يتخلف عن التعبير عن سخطه على العدوان الإسرائيلي البربري على القطاع المنكوب ، وعن تضامنه التام واللصيق مع الشعب الفلسطيني في غزة المحاصرة والجائعة والصامدة والمقاومة... في وقفة إجماع وطني عابر للمنابت والأصول ، للطوائف والجهات الأربع ، للأجيال والجندر والفئات والطبقات: فالأردنيون كلهم مع فلسطين وغزة... مع الصمود الذي طاول الأسطورة وحاكاها.

 

وإذ أتيح لكاتب هذه السطور أن يلتقي مئات الأردنيين في الندوات والاجتماعات التي شهدتها البلاد ، من أندية الروتاري حتى خيام التضامن التي أقامتها جماعة الإخوان وحزب الجبهة ، فقد أمكن له الوقوف على نبض الشارع الأردني بكل مكوناته وفئاته ومشاربه وطبقاته ، وأكاد أجزم بأنه نبض صدر عن قلبْ واحدْ توزّع على ستة ملايين جسد.

ثلاث طبقات توزعت عليها مشاعر الأردنيين جميعا: ألم مزق قلوبهم...وغضب جعل دماءهم تغلي في شرايينهم وأدمغتهم...واعتزاز مكّن هاماتهم من أن تبلغ الجبال طولا.

ألم لعذابات الأطفال والنساء والرجال والشيوخ في غزة ، وحزنّ حَفرت أشلاء الأطفال المتناثرة ودماؤهم التي لونت شوارع غزة وجدرانها ، أخاديدَه على وجوههم ، والأرجح أنها ستنتقل إلى وجوه أبنائهم وأحفادهم كما تنتقل العوامل الوراثية ، فبعد غزة ، لم يعد الصراع محكوما بالسياسة والحقوق والدين والإيديولوجيا ، بل بعوامل الوراثة والجينات أيضا ، على ما يظن كثيرون.

غضب على الوحشية المنفلتة من عقالها ، برابرة وفاشيون ، مغول وعنصريون من أكثر الطرازات والطبعات انحطاطا: الكوكلاكس كلان ، عاثوا في القطاع المنكوب قتلا وتخريبا وتدميرا وإبادة جماعية ، قتّلوا البشر والشجر والحجر ، لم يتركوا مسجدا ولا مشفى ولا ملاذا آمنا ، إلا وأمطروه بوابل من الموت الأصفر والأبيض والأسود.

"كفرّ" بكل منظومة القيم الزائفة التي بشر بها الغرب المزدوج وكان أول من اغتالها في سماء غزة ومياهها وعلى أرضها ، و"ضيق" بكل الأوهام البائسة والرهانات المريضة على سلام مع القتلة والغزاة ، ولا أدري مَن مًن رسل السلام والديمقراطية وحقوق الإنسان الغربيين ، سيجرؤ بعد اليوم على الظهور بصورة "الواعظ والمبشر" و"الأستاذ".

أما الاعتزاز ، فكان عزاء الذين نزفت غزة من عروقهم طوال أسابيع نكبتها وصمودها ومقاومتها ، فكل يوم يمضي على جرحها المفتوح ، كان يضيف إلى ملحمة غزة وأسطورة صمودها ، فصلا جديدا ناصعا ومشرقا ، خصوصا بعد أن انقضت الأيام الستة الأولى ، التي تذكر بحرب الأيام أو الساعات الستة ، فلا هي رفعت الرايات البيضاء ولا مقاتلوها وقادتهم بحثوا عن نجاتهم الشخصية أو نجاة أسرهم من لهيب النار الإسرائيلية ، الكل في المعركة سواء والكل على مسافة واحدة من القدر والمصير ، من النصر أو الشهادة.

حرب إسرائيل على غزة ، و"المؤامرة في مرحلة ما بعد غزة" ، وحّدت الأردنيين وصلّبت جبهتهم الداخلية ، ووفرت عوامل قوة عديدة ، يمكن البناء عليها وفوقها ، لمواجهة ما ينتظرنا من تحديات ، وإذا كنا في هذا المقام ، لسنا بصدد "التنظير" للمرحلة المقبلة ، فإن أقل ما يمكن أن يقال على عجل: أن غزة تجبّ ما قبلها ، وأن كثيرا من مفرداتنا ومفاهيمنا ومعادلاتنا وحساباتنا وتحالفاتنا ومقارباتنا التي كانت صالحة قبل غزة - أو ربما كانت كذلك - لم تعد صالحة بعدها ، والمؤكد أننا بحاجة لوقفة مراجعة شاملة.