مكافحة الإصلاح، "القتل بالاختزال".

مكافحة الإصلاح، "القتل بالاختزال".

يوازي براعة العرب في اللغة واستخداماتها براعة أخرى تتمثل في الاختزال في مواضع تستوجب الإيضاح والإسترسال. لا يجد بعض ساستنا بأساً وهم يعتلون منابر الخطابة في المناسبات الرسمية وغير الرسمية من تكرار فكرةً بعينها 20 مرةً بمرادفات مختلفة، فتجدهم يقولون مثلا: "إن بلدنا عظيم قوي أبي باسل مترابط ومتماسك الأركان، لا تهزه النائبات ولا تفت في عضه المآمرات، بلدنا شامخ صلب العود قوي العزم عازم على البقاء قويا...". الغريب أن هذا الاسترسال لا تجد له صدا حينما يتحدث الساسة ذاتهم عن "الشفافية" و "مكافحة الفساد" و "النزاهة"، إذ تجري هذه "الشعارات" كلمات على ألسنتهم أو مداداً على أوراقهم أو مكاتباتهم دون أن يعرف أحد كيف يفهم كل من هؤلاء هذه "الشعارات" وما هي فضاءات إعمالها من وجهة نظره.

 

في إحدى المقابلات التلفزيونية منذ سنوات سأل أحد مذيعي التلفزيون الأردني  مندوب دائرة الأرصاد الجوية عن توقعات الطقس فبادر بالقول: "أرجو أن تخبرنا عن التوقعات ليوم غد بشفافية"!

 

أدركت حينها أن هذا "الشعار" قد بلغ من الاستهلاك حدا بات معه الجو مهيأً لآخر جديد يكتسح الساحة، فجاء "شعار" "الحاكمية الرشيدة"، ومرةً أخرى لم يجد ساستنا ما يدعو للدخول في نقاش نظري حول مدلولات هذا المصطلح، عفوا، أقصد "الشعار" ومؤشرات قياسه، إذ ما يهم هو استخدامه بشكل متكرر بمناسبة وبدون مناسبة في سياقه وخارج السياق؛ إلى أن يصبح "علكةً" تلوكها الأسنان حتى ينتهي إلى المصير ذاته الذي انتهى إليه "شعار" "الشفافية".

 

كتب أحدهم على صفحات إحدى الجرائد يقول: "الحاكمية الرشيدة عنوان المرحلة وضرورة الإصلاح والحكومة جادةً في تطبيق هذا الشعار تطبيقاً حثيثا"، كان هذا من وجهة نظري بمثابة نعي لحقبة ذيوع هذا "الشعار" ومؤشر يؤكد ممارسة "القتل بالاختزال الذي يقوم به البعض بغير قصد والبعض الآخر عن غير فهم.

 

بدأ نجم "الشعار" الأقوة "مكافحة الفساد" بالأفول هو الآخر بعد أن اكتسح "عنوان""مكافحة التطرف" الساحة خصوصاً مع تمدد سيطرة الجماعات الإرهابية وشيوع وتسويق ممارساتها الغوغائية إعلامياً على نطاق واسع، وعبثاً يحاول بعض المخلصون التذكير بالعلاقة البنيوية والسببية بين "الشعارات" المتقدم ذكرها جميعاً وتأكيد تضافرها في إنتاج الواقع البائس الذي تعيشه منطقتنا منذ عقود.

 

إن أول مسمار تدقه الدولة في نعش استحقاقات الإصلاح السياسي والاقتصادي يتمثل في التعاطي مع هذه الاستحقاقات بوصفها مجرد "شعارات" تخدم سياقاً معيناً سواءً كان انتخابياً أو تعبوياً شعبوياً أو حكومياً يتوسل ثقة الشعب والبرلمان أو يتسول عطف المانحين و"مقسمي الأرزاق" على دول الفقر والاسترقاق.

 

إذا أردت أن تُفقد أي شيء قيمته فما عليك إلا أن تتحدث عنه وتكرر استخدامه حتى يغدو أقرب إلى عبارات إلقاء التحية والسلام التي تتردد تلقائياً على الألسن دون تفكير في مضامينها والفرق بين كل منها، فمن ذا الذي يعبأ إن قيل له: "مرحبا" أو "أهلا" أو "سلمات" أو "هلا"... مجرد كلمات تؤدي وظيفة واحدة، نلقيها ونرد عليها ونحن ندخن السيجارة أو الأرجيلة ونلعب "الشدة" أو "النرد". هكذا أريد لاستحقاقات ومتطلبات عملية الإصلاح السياسي والاقتصادي برمتها، أن يتم إفراغها من مضامينها من خلال اختزالها في شعارات يتم استهلاكها بالتكرار واللوك المستمر.

 

إذا كانت عملية القتل بالاختزال مقصودة، فإن من وراءها يُشهَد له بالدهاء والذكاء والتجرد من القيم والأخلاق، أما إذا كانت غير مقصودة فإن من يمارسها يُشهَد له بضحالة المعرفة وسطحية التفكير وأيضا، التجرد من القيم والأخلاق.

 

لا يحتاج الأمر إلى عبقرية في التحليل ولا حتى عمق في القراءة لتلمس قدر التناقض أو النفاق السياسي في حلبة التعاطي مع عملية الإصلاح في بلداننا، فالمعادلة بسيطة ويمكن لطلبة الصف الأول الابتدائي حلها بأساسيات الجمع والطرح التي تعلموها: حديث عن الإصلاح زائد مصداقية في التطبيق، يساوي خروج "س" و "ص" وجذرهما من المشهد السياسي والاقتصادي، بينما حديث "س" و "ص"  عن الإصلاح، يساوي: نفاق سياسي واستخفاف بالعقل الجمعي للأمة ومقدراتها.

 

 

أضف تعليقك