مقدمة في البيوطيقا

مقدمة في البيوطيقا
الرابط المختصر

 

يهدف هذا المقال إلى عرض مقدمة للمنطق البيوطيقي. فمفردتا " الأخلاق ethics" و"الفضائل morality" مشتقتان من اليونانية (روح ethos) واللاتينية (الأعراف mores)، وهذا يعني "العرف أو العادة " في التوظيف المتفق عليه، تحمل الكلمتان أيضا تضمينات مختلفة قليلًا؛ فالفضائل تعني مدونة مقيدة لقواعد السلوك، تحدد الفرق بين الحق والباطل، في حين أن "الأخلاق" تشير إلى تحليل منهجي لما قد يعني تسيير حياة لائقة جديرة بالاحترام.

 

تعد الأخلاقيات الطبية فرعاً من فروع الأخلاق التطبيقية، وتهتم أساساً بطريقة تناولنا لقضايا صعبة على نحو خاص تنشأ من ممارسة الطب، وكما سنرى، فإنه من المستحيل دراسة القانون الطبي دون مواجهة المعضلات الأخلاقية المعقدة. على سبيل المثال:

• هل من المقبول بالنسبة للأطباء منع العلاج المنقذ للحياة عن طفل معاق إعاقة بالغة؟

• هل يجب أن يُسمح للآباء اختيار جنس أطفالهم؟

• ما هو الخطأ (إن وجد) في الدفع لشخص "تبرع" بكليته؟

• هل يجب تغذية المراهقين المصابين بالانوروكسيا بالقوة؟

• هل يسمح للعلماء بخلق أجنة مهجنة من الحيوان والإنسان ؟

• ما هي القيود التي يجب أن توضع أمام الإجهاض؟

• هل يمكن تشريع القتل الرحيم الطوعي؟

 

سيكون من الصعب الوصول إلى رد المناسب على مثل هذه الأسئلة القانونية دون أخذ آثارها الأخلاقية بعين الاعتبار؛ ولأن المصطلح وضع أساساً للبحث في  القانون الطبيّ، فإن وضع تمييز دقيق بين القانون والأخلاق الطبية سيكون مصطنعاً، وبدلاً من ذلك، فإن التركيز يجب أن يكون على الوسائل التي سيسلكها القانون للاستجابة للمعضلات الأخلاقية التي ولدتها الممارسات الطبية.

 

ومن الشائع أنه عندما نعلل تفضيلاً لنتيجة معينة في مجال القانون الطبي والأخلاقيات، أن يعبر الناس عن مخاوفهم من (المنحدر الزلق) أو أن يؤسسوا حجتهم على ضرورة احترام "كرامة الإنسان"، أو "احترام "قدسية الحياة الإنسانية.

 

وفي حين أن الأخلاقيات الطبية ذات تاريخ طويل، فإن أخلاقيات علم الأحياء أو الأخلاقيات الحيوية أو البيوطيقا هي فرع أحدث من ذلك بكثير.

 

تُعنى الأخلاقيات الطبية بالممارسة الطبية الجيدة: ما يعني أن يكون الطبيب جيداً. وكانت القواعد الأخلاقية أو قواعد السلوك هي المبادئ التوجيهية التي فرضت نفسها على مهنة الطب من أجل ضمان أن سلوكيات الأطباء تجاه زملائهم ومرضاهم تتناسب مع الآداب والأخلاق، ومما لا يثير الدهشة، أن اليد العليا كانت دائماً للطبيب نفسه: كيف ينبغي للطبيب الحصول على موافقة، ومتى يتمكن الطبيب من اختراق واجبه بثقة وهلم جراً؛ فالممارسة الطبية أبوية بقوة: ذلك أن الأطباء ملزمون بالعمل لصالح مرضاهم، وفي الوقت ذاته فإنهم (على العكس من المرضى أنفسهم) هم من يقرر تلك المصالح.

 

تجادل سوزان شروين في أن الأخلاقيات الطبية التقليدية تميل إلى تهميش كل من منظور المريض والأسباب الاجتماعية الأوسع للصحة المعتلة؛ تقول: "حتى وقت قريب جداً، كان يتم تدريب الأطباء للعمل على نحو أبوي؛ أن يعالجوا المرضى وفق تقديراتهم عما هو الأفضل للمريض دون إيلاء اهتمام كبير بمنظورات المريض وتفضيلاته، والمشكلة في ترتيبات كهذه هي أن الرعاية الصحية قد تتضمن جوانب حميمية ومركزية تخص حياة المريض- مثل الصحة والمرض والإنجاب والموت والتكامل الجسدي والتغذية وأسلوب الحياة والصورة عن الذات والإعاقة والجنسوية والصحة النفسية - والتي يصعب على أي شخص غير المريض المعني أن يحدد الخيارات التي تتوافق مع منظومة قيمه الشخصية، ومن الملامح البارزة لمعظم المناقشات، حول استقلالية المريض هو تركيزها الحصري على كل مريض على حدة، ويعكس هذا النمط اتجاه الطب الثابت لمقاربة المرض بوصفه مشكلة خاصة في المقام الأول، وفي إطار التقاليد الطبية، فإن المعاناة تخص الأفراد الذين يعانون من ذلك وليس الترتيبات الاجتماعية التي قد تكون مسؤولة عن التسبب في المشكلة، وبدلاً من فضح السياقات الاجتماعية التي قد تؤدي إلى التسامح مع/ أو حتى دعم ممارسات مثل الحرب والتلوث والعنف الجنسي والبطالة الممنهجة - الممارسات التي تساهم في الكثير من الأمراض التي يحفل بها الطب الحديث- فإن الأطباء غالبا ما يهتمون بالأعراض التي تزعج مريضاً بعينه بمعزل عن السياق الذي أنتج هذه الحالات". يرى هيذر درابر وتوم سوريل أيضا بأن التركز على أخلاقيات مهنة الطب كان أيضاً ضيقاً، ولكن مزاعمهما تأخذ منحى آخر؛ فهما يقاربان الموضوع من خلال التركيز على واجبات الأطباء، وتجاهل التزامات المرضى ؛ يقولان: "بالمقارنة مع ما يُطلب من الأطباء، فإن الأخلاقيات الطبية السائدة تتناول عدداً قليلاً جداً من مطالب المرضى، وعادة ما تبدأ وتنتهي بالاتفاق. وتقليدياً فإن الأخلاقيات الطبية قد أكدت على أنه يجب أن يسمح للمريض المقتدر، بوصفه فاعلاً مستقلاً، أن يقرر لنفسه مسار العلاج الطبي، وحتى إذا ما كان يرغب في العلاج من أساسه، ولكنه لم يقل الكثير عن ما هي أنواع القرارات التي يجب على المرضى القيام بها، وعن مسؤولياتهم عن القرارات سيتخذونها. وفي الواقع، فإن الأخلاقيات الطبية السائدة تعني أن القرار الذي سيتخذه المريض المقتدر جيد بكل بساطة لأن المريض هو الذي اتخذه؛ لدرجة أننا قد نعتقد في بعض الأحيان أن المريض لم ولن يتخذ قرارا سيئاً، وفي دول الرفاه فإن النقاشات حول استخدام الموارد المحدودة تمتد بشكل طبيعي إلى النظر في ما إذا كان المواطنون يملكون نوعا من الالتزام الأخلاقي، والرغبة في المساواة، للحد من مطالبهم على هذه الموارد. وإذا كان الجواب "نعم"، فمعنى ذلك أنه يجب أن يكون هناك التزاما مدنيا لمتابعة الإجراءات الصحية الوقائية الموصى بها من قبل الطبيب. فإذا ما نصح مريض ما بالتوقف عن التدخين أو الإسراف في الطعام كي لا تتدهور حالته ولم يستجب، وتدهورت حالته إلى درجة أدت إلى زيادة تكاليف علاجه على حساب الموارد المحدودة التي من المفترض أن يتقاسمها مع الآخرين بالتساوي، فإنه بهذه الطريقة يكون قد خرق التزامه بضرورة الحفاظ على صحته والتزاماته المدنية بالحفاظ على الموارد العامة. وباختصار فإن هناك التزامات تحول دون توظيف الخدمات الصحية بطريقة عرضية. فمثلا الشخص الذي يدلل مخاوفه المرضية بالتمادي في زيارة الطبيب العام أو الذي يطلب سيارة الإسعاف حين تعرضه لضربة الشمس أو الذي يبقى في غرفة الطوارئ بسبب سوء الهضم، أو الذي يتصل بالطبيب من أجل صرف وصفة يمكن أن تؤجل إلى نهار الغد. كل هؤلاء المرضى يقومون بخيارات سيئة؛ لأنهم قد استغلوا وقتا وموارداً كان من الممكن أن تصرف لحالات أشد إلحاحاً".

 

البيوطيقا يجب أن تكون أوسع بكثير من أخلاقيات الطب التقليدي. فقد ظهرت البيوطيقا بوصفها فرعاً مميزاً في الستينيات من القرن الماضي في استجابة لعدد من العوامل المختلفة، الأول، هو التقدم التكنولوجي السريع الذي عرض معضلات معقدة خاصة في بداية ونهاية الحياة، تجاوزت السلوك الأخلاقي ضمن تعامل الطبيب والمريض. فعلى سبيل المثال، عندما أصبح من الممكن (أ) زرع عضو و(ب) الحفاظ على قلب المريض نابضاً بعد الموت، كان من الضروري أن نسأل ما إذا كان المريض "بالسكتة الدماغية" والذي لا يزال قادراً على التنفس يمكن أن يكون مصدراً شرعياً للتبرع بالأعضاء للزراعة. والثاني، أن الأبوية الطبية باتت قابلة للطعن ومبدأ استقلالية المريض هو الذي بدأ يتصاعد. فلم يعد المرضى يخضعون للخبرة الطبية الفائقة التي يمتلكها معالجيهم وإنما يصرون بشكل متزايد على حقوقهم الخاصة،  في الاقتباس اللاحق، تشير هيلغا كوز وبيتر سنجر إلى أصول واختصاصات علم البيوطيقا فيقولان:

 

"منذ ستينيات القرن الماضي جذبت المشكلات الأخلاقية في المجال الصحي والعلوم البيولوجية اهتمام الرأي العام بطرق غير مسبوقة. فمن ناحية كان ذلك نتيجة للتطورات الجديدة والثورية في العلوم الطبية الحيوية والطب الإكلينيكي. ومع ذلك لم تكن تلك الطفرة التكنولوجية، هي العامل الوحيد في زيادة الاهتمام بالمشكلات الأخلاقية في هذا المجال. كان العامل الآخر هو القلق المتزايد بشأن السلطة التي تمارس من قبل الأطباء والعلماء، والذي ظهر بوضوح من خلال الاهتمام بتأكيد "حقوق المرضى" وحقوق المجتمع ككل في أن يشارك في اتخاذ القرارات التي تؤثر عليه، ويعني هذا زيادة الوعي العام بطبيعة القيمة - المحملة value-laden للقرارات الطبية والاستجواب النقدي للأسس التي يتم بموجبها اتخاذ القرارات من هذا القبيل، وفي ظل مناخ هذه القضايا الأخلاقية الجديدة والخيارات، ولد حقل التقصي والبحث الذي بات يعرف الآن باسم "أخلاقيات علم الأحياء" أو البيوطيقا، لم يوظف المصطلح في الأصل بهذا المعنى من قبل. اقترح فان رينسيلار بوتر في البداية مصطلح "علم البقاء" بالمعنى الايكولوجي، وهذا يعني، تخصص دراسي يهدف إلى ضمان الحفاظ على المحيط الحيوي. ولكن هذا المصطلح لم يترسخ على نطاق واسع، وبدلاً من ذلك جاء مصطلح البيوطيقا أو "أخلاقيات علم الأحياء" للإشارة إلى الاهتمام المتزايد بالقضايا الأخلاقية الناشئة عن الرعاية الصحية وعلم الأحياء الطبي".

 

ركزت الأخلاق الطبية، تقليدياً، على العلاقة بين الطبيب والمريض وعلى الفضائل التي يتوجب أن يتمتع بها الطبيب. كما أنها اهتمت بالعلاقات بين الزملاء ضمن المهنة. ولكن البيوطيقا، من جانبها، تمثل عملاً أكثر انتقادية فضلاً عن أنه تأملي. فالبيوطيقا غير محددة باستجواب الأبعاد الأخلاقية للعلاقة بين الطبيب والمريض آو بين الأطباء أنفسهم، ولكنها تذهب أبعد من مجال الأخلاقيات الطبية التقليدية في جوانب عديدة. فهي أولا، لا تهدف إلى سن مجموعة أخرى من المبادئ، ولكن إلى التوصل إلى فهم أفضل للمسائل. وثانياً، نجدها مستعدة لطرح الأسئلة الفلسفية العميقة عن طبيعة الأخلاق، وقيمة الحياة، وماذا يعني أن تكون شخصاً، ودلالة أن تكون إنساناً، وثالثا، نجد أنها تحتفي بقضايا السياسة العامة واتجاه وتنظيم العلم.

 

لقد رأينا في السنوات الأخيرة انحرافاً عن النموذج الأبوي في اتخاذ القرارات الطبية الذي يستند إلى فكرة أن الطبيب يعرف أفضل، نحو نموذج الاستقلالية الذاتية، الذي يفترض أن المريض البالغ المكلف له الحق المطلق في رفض العلاج الطبي. ومع ذلك، فسيكون من الخطأ اعتبار استقلالية المريض هي القيمة الغالبة في جميع عمليات صنع القرار الطبي؛ فالحق في الاستقلال الذاتي هو حق سلبي لمنع التدخل غير المرغوب فيه، ولا يحق للمرضى المطالبة بالحصول على العلاج الطبي عندما لا تكون الموارد متوفرة، أو عندما يكون العلاج خلاف تقدير الأطباء، أو عندما يقرر البرلمان أن العلاج غير مقبول أخلاقياً وقانونياً وينبغي حظره (مثل الاستنساخ البشري، وختان الإناث).

 

والمشكلة بالنسبة للقانون هو أنه ستكون هناك حالات قليلة يكون فيها اتفاق حول شرعية الممارسات الطبية المثيرة للجدل؛ إذ لن يكون هناك أي توافق في الآراء حول ما إذا كان ينبغي تشريع القتل الرحيم، على سبيل المثال، أو ما إذا كان من المشروع إجراء التجارب على الأجنة. وفي رأيي أن التركيز لا بد أن يكون على طريقة مناقشة مثل هذه الأسئلة، فيمكننا، على سبيل المثال، أن ننظر في الآثار المترتبة على تنظيم أو تشريع ما بطريقة أو بأخرى. فمثلا بالنسبة للقتل الرحيم، يمكننا أن نسأل ما إذا كان تشريعه سيجعل الحياة أفضل أو أسوأ بالنسبة للمرضى والضعفاء، ويمكن أيضاً التفكير في ما هي المبادئ التي قد تكون على المحك، وكيف يمكن التعامل مع التوتر بين الاستقلالية الذاتية ومنع الضرر.

 

وأخيرا قد يكون من المهم أن نفكر في معنى الحجج التي ترتكز على الكرامة الإنسانية أو احترام قدسية الحياة البشرية في هذا السياق، وما إذا كان هناك منحدر زلق يمكن، أو لا يمكن، احتواؤه من خلال التنظيم والتشريع.

 

 

* باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

1- أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2- الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014

3- نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4- فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني

 

أضف تعليقك